46/04/18
الدرس (الثاني عشر): الدليل على وجوب قتال الأقرب فالأقرب
الموضوع: الدرس (الثاني عشر): الدليل على وجوب قتال الأقرب فالأقرب
استدل الفقهاء على هذا الحكم بقول تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾[1] .
تقريب الاستدلال:
مقتضى إطلاق صيغة الأمر في قوله تعالى: ﴿قاتلوا﴾ هو الوجوب، إذ أن صيغة الأمر «افعل» تدل على الوجوب، ومقتضى قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ هو وجوب قتال من يلي المسلمين، أي قتال الأقرب في جميع الحالات، وإن كان الأبعد أشد خطراً، هذا هو مقتضى إطلاق الآية الكريمة.
[تقليد إطلاق الآية بالسيرة]
لكن يمكن تقييد إطلاق الآية بالنسبة إلى تقديم قتال الأبعد على الأقرب، إذا كان أشد خطراً، تمسكاً بسيرة النبي صلى الله عليه وآله حيث إنه قاتل الحارث بن أبي ضرار، وخالد بن أبي سفيان، مع وجود عدو أقرب منهما، نظراً لكونهما أشد خطراً من العدو الأقرب.
[القتال مع الحارث بن إبي ضرار]
الرجل الأول: الحارث بن أبي ضرار زعيم بن المصطلق من قبائل خزاعة، بلغ النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يعد العدة، ويجمع الرجال لغزو المدينة، فعزم النبي صلى الله عليه وآله على القضاء على هذه المؤامرة ووأدها في مهدها، فخرج إليهم في جمع من أصحابه، حتى لقيهم في ماء يدعى «المريسع» فهزمهم بعد أن قتل المسلمون منهم عشرة رجال، وأصابوا غنائم كثيرة، وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق، وقتل في هذه الغزوة رجلٌ مسلم خطأ، وكان ذلك في السنة السادسة للهجرة[2] .
ومن نتائج هذه الغزوة سبي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعي، والتي أصبحت زوجة النبي صلى الله عليه وآله، وإسلام والدها الحارث، ووالده، وأناس آخرين من قومه، وفي هذه الغزوة كان حديث الإفك.
هذا الرجل الأول الحارث بن أبي ضرار.
[القتال مع خالد بن سفيان]
الرجل الثاني: خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي، فقد بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله بن أنيس، وهو يجمع له الناس ليغزوه، فقتله في نخلةٍ أو عرنة[3] . ونخلة الشامية واديان لهذيل على ليلتين من مكة باتجاه اليمن[4] .
الشاهد من هذا كله: قتال الرسول صلى الله عليه وآله لعدو بعيد عنه، ومع وجود العدو القريب، وإنما بدأ بالأبعد لفعلية خطره.
ولو راجعنا كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم سنجد أن بعضهم عبر بما يستفاد منه وجوب قتال الأقرب فالأقرب، كاستخدام صيغة فعل الأمر، وبعضهم عبر بما يفهم منه الاستحباب، كالتعبير بـ «ينبغي» و«الأولى» فلفظ الأولى ظاهرٌ في الاستحباب والترجيح، ولفظ ينبغي درجة عادة الفقهاء على استعماله في الترجيح الصرف، والذي يفهم منه الاستحباب، مع أن لفظ «الإنبغاء» في اللغة العربية ليس لصرف الرجحان، بل للزوم، كما في قوله تعالى: ﴿لَا ٱلشَّمۡسُ يَنۢبَغِي لَهَآ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ﴾[5] .
وخلاصة ما ذكره الفقهاء:
أن الأولى قتال الأقرب، سواء كان محارباً أو مسالماً، بشرط أن لا يكون مهادناً، وأما الأبعد فإن لم يكن أقوى من الأقرب، أو لم يكن أخطر من الأقرب ولم يهدد المسلمين، ولا يوجد خطرٌ فعلي يتوجه إلى المسلمين من جانبه، فحينئذٍ يقدم الأقرب على الأبعد، بخلاف ما لو كان الأبعد قوياً، أو أخطر فعلاً من الأقرب، فحينئذٍ يبدأ بالأبعد.
[وجهان لـ الذين في الدليل]
وقد قيل في المراد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ وجهان:
الوجه الأول المراد بهم اليهود الذين هم في المدينة وحول المدينة، كبني قريضة، ويهود خيبر.
الوجه الثاني المراد بهم الروم في بلاد الشام، لأن الروم أقرب إلى المدينة المنورة من الفرس.
كانتا إمبراطوريتان قويتان، الإمبراطورية الفارسية، والإمبراطورية الرومانية، ولو لاحظنا الجانب الجغرافي فمن الواضح جداً أن أقرب الأعداء إلى النبي في المدينة آنذاك كانوا هم اليهود.
وكيف كان فقد ذكر الفقهاء هذه الآية وهذا الحكم وجوب جهاد الأقرب فالأقرب في معرض كلامهم عن الجهاد الابتدائي، فيكون هذا الكلام موقوفاً على مشروعية الجهاد الابتدائي.
[المسوغ للجهاد الإبتدائي]
ولو راجعنا كلمات الفقهاء في الجهاد الابتدائي وموضوعه يمكن أن نستنتج أنهم يرون مجرد صرف الكفر مجوز للجهاد ابتداءً، فنفس الكفر يجوز ويشرع قتال الكافرين وإن كانوا مسالمين، إذ أن الغرض من الجهاد الابتدائي هو دعوة الكفار إلى الإسلام، فنفس الكفر مقتضٍ لمشروعية الجهاد الابتدائي لدعوة الكفار إلى الإسلام، وسيأتي مناقشة هذا الكلام.
[الأقربية المعنوية في الجهاد ونقده]
لكن لو نظرنا إلى الآية الكريمة ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ فهل المراد من القرب القرب المكاني أو المراد من القرب القرب المعنوي؟
لا شكّ ولا ريب أن ظاهر الآية الكريمة القرب المكاني، لكن ذهب المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فيما يراه تعمقاً في دلالة الآية إلى أن المراد بالقرب هو القرب المعنوي، فقال[6] : «في نظرة أعمق في دلالة هذه الآية الشريفة، نرى بأن ليس معيار الأقربية والأبعدية هو المعيار المكاني، بل المعنوي الذي يحكم العلاقة بين معنيي العداوة والمسالمة، والخطورة والأمان، ليكون ملاك الخطورة والخوف هو الدخيل في الحكم، من دون أيت موضوعية للمكان، سوى الإشارة إلى أن العدو القريب مكاناً هو الأكثر خطراً في العادة إن تم، وعلى هذا الأقرب خطراً هو القريب وإن بعد مكانه، كما أن الأبعد خطراً هو البعيد وإن قرب مكانه».
أقول: من يتأمل في الآية الكريمة، ويعمل قواعد المحاورات العرفية، فإنه سيجد أن مقتضى الظهور اللفظي هو حمل قوله تعالى: ﴿يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾ على خصوص القرب المكاني دون القرب المعنوي، بحيث نحمل الأبعدية والأقربية من الأبعدية المكانية إلى الأبعدية في الخطورة، فظاهر الآية الأقربية المكانية دون المعنوية.
[ملاك وجوب الجهاد قربية أو المصلحة في الجهاد؟]
نعم، صلاحية الأمر بالجهاد الابتدائي من مختصات الإمام المعصوم، أو نائبه الخاص على المشهور، أو نائبه العام على مبنانا ومبنى السيد الخوئي رحمه الله، وهذا الإذن رهن تشخيص المصلحة، فإن شخص الإمام المعصوم أو ولي الأمر أهمية تقديم العدو البعيد على القريب، قلنا بذلك، وإن شخص تقديم القريب على البعيد، قلنا بذلك، والآية الكريمة ناظرة إلى العدو القريب، نظراً لأن الخطر المحتمل أكثر ما يكون عادة من العدو القريب، فهي ناظرة مورد الغالب وهذا موردها «قتال العدو القريب».
فلا نلتزم بوجوب قتال القريب، بل نلتزم بما تقتضيه المصلحة التي يشخصها ولي الأمر، وكانت المصلحة عند نزول الآية وفي موردها هو قتال العدو القريب، والله العالم.
أدلة وجوب الجهاد الابتدائي
لم يفرد الفقهاء بحثاً خاصاً للاستدلال على مشروعية الجهاد الابتدائي ووجوبه، وإنما ارسلوه إرسال المسلمات عندما تكلموا عن وجوب الجهاد، واستدلوا على وجوب الجهاد الابتدائي بالإجماع، وأدلة من الكتاب والسنة.
[الإجماع]
أما الإجماع فهو محتمل المدركية إذ لعله انعقد وفقاً لما فهمه الفقهاء من الكتاب والسنة، فلا يكون حجة.
إذاً ينبغي تحقيق دلالة الأدلة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة على وجوب الجهاد الابتدائي، ومن هنا نشرع أولاً بـ بيان أدلة القرآن الكريم، وثانياً أدلة السنة المطهرة، وما يلحق بها من سيرة المتشرعة، بل إن الإجماع لا ينبغي عده دليلاً مستقلاً في مقابل السنة أو الكتاب، إذ أن الإجماع كـسيرة المتشرعة يكشف بالدليل الإني وهو الانتقال من المعلول إلى العلة، فسيرة المتشرعة التي هي فعل أو ارتكاز وكذلك الإجماع معلولٌ يكشف عن وجود دليلٍ إما من الكتاب أو السنة، فلا يعد بحسب التحقيق دليلاً مستقلاً في مقبال الكتاب والسنة، وتحقيق ذلك في علم الأصول.
[الكتاب]
أدلة الكتاب على وجوب الجهاد الابتدائي
من الواضح أن الجهاد بالمعنى المصطلح عند الفقهاء «الجهاد الابتدائي» هو خصوص قتال الكفار من أجل إدخالهم في الدين أو إخضاعهم لحكم الإسلام، لأن الكافر الكتابي يخير بين الإسلام وبين دفع الجزية والدخول في حماية الدولة الإسلامية.
بخلاف الكافر غير الكتابي فإنه يخير بين الإسلام أو القتل، هكذا افتى المشهور، وسيأتي الكلام والمناقشة في ذلك.
إذاً من يلاحظ كلمات الأعلام يجد أن المقتضي التام للجهاد الابتدائي هو الكفر حتى لو لم يبدأ الكفار بعدوان على المسلمين، بل حتى لو كانوا مسالمين ولم يستفزوا المسلمين.
[تأسيس الأصل القرآني في وجوب الإبتدائي للجهاد]
ومن هنا لابد من تأسيس الأصل القرآني في المسألة أي في التعامل مع الكفار قابل استعراض ومناقشة أدلة وجوب الجهاد الابتدائي، فهل يجوز إكراه الكفار على دخول الإسلام، بحيث يخير إما أن يقتل وإما أن يسلم كما في الكافر غير الكتابي، فلا بدّ من مراجعة آيات القرآن الكريم، لنرى أنها تؤسس لأي أصلٍ.
تأسيس الأصل في المسألة، يأتي عليه الكلام.