46/04/16
الدرس (العاشر): هل للفقيه الأمر على الجهاد الإبتدائي؟ - تحقيق في النائب الخاص – توقيت الجهاد الإبتدائي
الموضوع: الدرس (العاشر): هل للفقيه الأمر على الجهاد الإبتدائي؟ - تحقيق في النائب الخاص – توقيت الجهاد الإبتدائي
ذكر الفقهاء أن الجهاد الابتدائي لا يشرع إلا بإذن الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، ويمكن أن تتصور عدة حالات وتفاصيل للنائب الخاص، كما يلي:
[عدة تصورات في النائب الخاص:]
الأول أن يكون منصوباً على الإطلاق، فهو يمثل الإمام المعصوم في كل شيء.
الثاني أن يكون منصوباً لخصوص القيام بأمر الجهاد.
الثالث أن منصوباً للقيام بشؤون عامة غير الجهاد.
الرابع أن يكون منصوباً على نحو القضية المهملة.
ولا شك ولا ريب في مشروعية الجهاد بإذن الإمام الخاص في الصورة الأولى والثانية، إذ في الأولى يكون نائباً مطلقاً، وفي الثانية يكون نائباً في خصوص أمر الجهاد.
بخلاف الصورة الثالثة فإن إذن لا يفيد إذ هو منصوب للقيام بالشؤون العامة عدا الجهاد.
ويبقى الإشكال في الصورة الرابعة وهي أن يكون منصوباً على نحو القضية المهملة.
ومن هنا استشكل المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في عبارة الشيخ الطوسي المتقدمة حيث قال شيخ الطائفة ما نصّه: [1]
«أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين حاضراً».
فقال الشيخ شمس الدين: «إن إطلاق العبارة هنا غير تام لأن القيام بأمر المسلمين أعم من الجهاد وغيره».
وقد التفت ابن إدريس إلى هذا التفصيل فبعد أن نقل نص عبارة جده الشيخ الطوسي المتقدمة زاد عليها في هذا الموضع قيد النص على الجهاد، فقال: «أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين في الجهاد حاضراً»[2] وهو الظاهر من كلام العلامة الحلي في التحرير، فإن قوله: «أو من يأمره الإمام» ظاهر في كون الأمر من الإمام بخصوص الجهاد.
وخلاصة الإشكال:
إن إطلاق الفقهاء لقولهم: أن الجهاد الابتدائي مشروع بإذن نائب الإمام الخاص ليس بتام، بل لا بد من التنصيص على أنه نائب مطلق أو في خصوص أمر الجهاد، فلا يشمل النائب بنحو القضية المهملة أو النائب العام الذي لا يشمله أمر الجهاد.
أقول: هذا الإشكال من المرحوم شمس الدين ليس بتام، ويمكن تقييد كلمات الأعلام بالنيابة في أمر الجهاد لحيثيتين:
أولاً هذا الكلام يذكر في كتاب الجهاد، وعند التطرق إلى مشروعية الجهاد الابتدائي، فيكون من الواضح أن مقصودهم من إذن نائبه الخاص هو الذي له صلاحية الإذن في الجهاد، وهذا قدر متيقن، هذا بحسب ظاهر الباب والمسألة التي يبحثها الفقهاء.
ثانيا هذا القيد يفهم من كلمات الفقهاء فبضم بعضها إلى بعض تفهم هذه القرينة.
ولنرجع إلى كلام الشيخ الطوسي رحمه الله الذي أشكل عليه الشيخ شمس الدين لنرى أن نفس كلام الشيخ الطوسي فيه قرينة على أن المقصود من نائب الإمام الخاص من له صلاحية الجهاد، قال الشيخ الطوسي في في النهاية ما نصّه:
«ولا يسوغ لهم الجهاد من دونه ظاهراً» أي من دون الإمام العادل «أو يكون من نصبه للقيام بأمر المسلمين حاضراً» إلى هنا قال: من نصبه الإمام للقيام ما ذكر الجهاد، ثم قال: «ثم يدعوهم إلى الجهاد»[3] .
فيفهم أن من نصبه الإمام المعصوم للقيام بأمر المسلمين أن الجهاد من ضمن أمور المسلمين التي أوكلت إلى هذا النائب الخاص.
والخلاصة:
من يتتبع كلمات الفقهاء الذين اشترطوا في مشروعية الجهاد الابتدائي أن يكون بإذن الإمام المعصوم أو إذن نائبه الخاص، يوجد قدر متيقن في كلامهم، وهو أن النائب الخاص له صلاحية الإذن في الجهاد الابتدائي، فلا يصح الإشكال عليهم بأن كلامهم مطلق، والله العالم.
البحث الثالث
توقيت الجهاد الابتدائي
هل فريضة الجهاد من الفرائض المطلقة التي لا توجد إلا بوجود مقتضيها كصلاة الآيات التي لا تجب إلا إذا تحقق خسوف أو الكسوف أو الزلزلة أو الريح المخوفة؟
أو الجهاد فريضة مؤقتة بزمان فتجب في العمر مرة واحدة كفريضة الحج؟ أو تجب كل يوم كالصلوات اليومية؟
ظاهر الشيخ الطوسي والمحقق الحلي والعلامة الحلي والشهيد الثاني أن الجهاد فريضة مؤقتة ولها توقيت، فيجب الجهاد في كل عام مرة على الأقل، ولا حد لوجوب الجهاد في جانب الكثرة، فيجوز أن تكون الأمة في حالة حرب دائمة مستمرة في جهة واحدة أو جهات متعددة بحسب الأزمنة والأمكنة المختلفة.
[تتبع كلمات الأعلام]
ولنقرأ كلمات الأعلام من المتقدمين وخاتمتهم الشيخ الطوسي، والمتأخر وأبرزهم العلامة الحلي.
قال الشيخ الطوسي في المبسوط:
«وعلى الإمام أن يغزو بنفسه أو بسرايا في كل سنة حتى لا يتعطل الجهاد إلا أن يعلم خوفاً فيكثر من ذلك»[4] .
وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في موضع آخر من المبسوط أيضاً ما نصّه:
«على الإمام أن يغزو كل سنة أقل ما يجب عليه، وإن كان أكثر من ذلك كان أفضل، ولا يجوز ترك ذلك إلا لضرورة، منها أن يقل عدد المسلمين ويكثر المشركون، فإنه يجوز تأخيره، ويجوز أيضاً إذا توقع مجيء مدد فيقوى بهم، أو يكون الماء والعلف متعذراً في طريق فيجوز تأخيره حتى يتسع، أو يرجو أن يسلم منهم قوم إذا بدأهم بالقتال لم يسلموا، ولهذا أخر النبي صلى الله عليه وآله قتال قريش لهدنة، وأخر قتال أسد وطي ونمير بلا هدنة، فثبت جوازه»[5] .
وقال المحقق الحلي في الشرائع، أبرز المتأخرين محقق الحلي وابن أخت العلامة الحلي المحقق نجم الدين الحلة صاحب الشرائع ما نصّه:
«وكل من يجب جهاده فالواجب على المسلمين النفور إليهم إما لكفهم أو لنقلهم إلى الإسلام، فإن بدأوا فالواجب محاربتهم، وإن كفوا وجب بحسب المكنة، وأقله في كل عام مرة».
ثم يقول:
«ويجب التربص إذا كثر العدو وقل المسلمون حتى تحصل الكثرة للمقاومة ثم يجب المبادرة»[6] .
ونقل العلامة الحلي عبارة خاله المحقق نجم الدين الحلي في الشرائع ولكنه أضاف بعد قوله: «وأقله في كل عام مرة» ما نصّه:
«فعله في السنة مرتين أو أكثر ويجب مع المصلحة».
وقال الشهيد الثاني زين الدين الجبعي العاملي في مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام ما نصّه:
«والتحقيق أن الوجوب كل عام مرة ليس مطلقاً في الوجود والعدم، بل يجب الزيادة عليها مع الحاجة إليه كخوف قوة العدو مع الاقتصار عليها، وأدائه إلى ضعف المسلمين عنهم، ونحو ذلك، ويجوز تركه في السنة والسنتين أصلاً مع العذر، مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو قوة، أو بحصول مانع في الطريق من عدم الماء ونحوه، أو رجاء رغبة العدو في الإسلام زيادة على حالة قتالهم، ونحو ذلك مما يراه الإمام مع المصلحة فيجوز تركه بهدنة وغيرها، كما صالح النبي صلى الله عليه وآله عشرين سنة، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده، وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وأما إذا بدأ العدو بالقتال وجب جهاده مع الإمكان مطلقاً»[7] .
ويمكن لنا أن نتمسك بقوله: «ونحو ذلك مما يراه الإمام مع المصلحة»، وكذلك ما ورد في عبارة العلامة في التحرير: «ويجب مع المصلحة»، فيمكن أن يقال: إن المعيار الفقهي العام في أصل مشروعية الجهاد وجوازه فضلاً عن وحدته وتكراره هو مصلحة المسلمين العامة وليس صرف دليل التشريع، فإذا اقتضت المصلحة الكف عن الجهاد إطلاقاً لم يكن الجهاد مشروعاً، وإن اقتضت المصلحة تعدد الجهاد في السنة مرة أو مرت أو ثلاثة أو أكثر وجب ذلك.
لكن يلاحظ أنهم نصّوا على وجوب الجهاد مرة واحدة في السنة، وأما الزيادة على المرة أو إلغاء المرة فهو رهن المصلحة، فما هو دليل الفقهاء على التوقيت؟
[دليل التوقيت]
استدل على وجوب الجهاد الابتدائي مرة في كل عام على الأقل بقوله تعالى:
﴿فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾[8]
ومن الواضح أن الأشهر الحرام هي أربعة، وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وقد علق الجهاد في الآية الكريمة على انسلاخ الأشهر الحرم، والانسلاخ مأخوذ من السلخ أي الإزالة كسلخ جلد الكبش.
ومن الواضح أن ذهاب الأشهر الحرم يحصل مرة واحدة في السنة، فيجب الجهاد كلما تحقق شرطه، وحيث إن الامتثال يتحقق بالمرة لأن الأمر لا يقتضي المرة ولا يقتضي التكرار، فيكون وجوب الجهاد سنوياً.
وفيه:
أولاً: إن في السنة انسلاخان للأشهر الحرم الأول في شهر رجب والثاني بعد شهر محرم فعلى هذا يلزم وجوب الجهاد مرتين في السنة ولا قائل به، إلا أن يقال: إن المراد من انسلاخ الأشهر الحرم أي مجموع الأشهر الحرام أي من رجب إلى ذي القعدة وذي الحجة ومحرم، وليس كل شهر بحياله، وإلا لزم وجوب الجهاد أربع مرات بعدد الأشهر الحرم الأربع، فالمعنى إن القتال يشرع لكم خارج الأشهر الحرام، وهذه الأشهر كانت محرمة في الجاهلية يحرم فيها القتال قبل الإسلام وأمضاها الإسلام.
وثانيا:ً إن الآية ليست مطلقة لجميع الأزمنة والحالات، بل هي خاصة بخصوص حالة العدوان، أو خاصة بالمشركين في زمان الرسول صلى الله عليه وآله واحتمال أحد هذين الأمرين يسقطها عن الظهور في المدعى ويجعلها مجملة من هذه الجهة، فإذا ورد الاحتمال بطل الاستدلال.
ولكن يمكن أن يناقش في الاحتمال الأول بأن أن حالة العدوان لا يتقيد فيها بخصوصية الأشهر الحرام، بل تسقط حرمتها بإسقاط المعتدين، فإذا اعتدي على المسلمين في الأشهر الحرام وجب الدفاع، ولا يقال أن هذه أشهر حرم ولا يجوز القتال.
كما يلاحظ على الاحتمال الثاني بأن الاختصاص بزمن الرسول صلى الله عليه وآله خلاف ما بني عليه القرآن الكريم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن تشريعات القرآن حية ودائمة لجميع البشر، أو للمسلمين في جميع الأديان.
إذا الجواب الأول والثاني قابلان للمناقشة، العمدة في الجواب هو الجواب الثالث كما ذكر المرحوم شمس الدين[9] .
وثالثاً وهو العمدة في الجواب: إن الأمر بالطبيعة المطلقة بعد المنع والحظر لا يدل على المرة ولا يدل على التكرار، بل لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على مجرد رفع الحظر والجواز بالمعنى الأعم لا أكثر، وأما الوجوب وخصوصياته فلابد لها من دليل آخر يدل عليها.
ولو راجعنا الآيات القرآنية لوجدنا أن الآيات الكريمة التي سبقت هذه الآية من سورة التوبة كانت تأمر المسلمين بالكف عن قتال المشركين والمحافظة على أنفسهم، فجاءت هذه الآية وغيرها من آيات سورة براءة لرفع الحظر ورفع المنع عن قتال المشركين وإثبات المشروعية.
وقد قرر في علم الأصول أن ورود الأمر بعد الحظر أو توهم الحظر لا يدل على الوجوب بل يدل على الجواز والمشروعية، وحينئذ لا يفهم من هذه الآية الوجوب، ويستفاد الوجوب من أدلة أخرى، فالآية بصدد بيان مشروعية جهاد المشركين بعد انسلاخ الأشهر الحرم.
ولو لم نقبل هذا الكلام فإن الآية تدل على وجوب الجهاد في غير الأشهر الحرم، ولا تدل على أن هذا الجهاد يجب مرة أو أكثر في السنة، والله العالم.
البحث الرابع حالات المسلمين في القوة والضعف يأتي عليه الكلام.