< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تأثير المزاج على الأخلاق

قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم وخطابه المجيد بسم الله الرحمن الرحيم (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة السجدة الآية 17 آمن بالله صدق الله العلي العظيم.

فصل تأثير المزاج على الأخلاقنتطرق إلى عدة نقاط في هذا البحث:النقطة الأولى توجد ثلاث عوامل تؤثر في سلوك الإنسان:

العامل الأول الوراثة.

العامل الثاني التربية.

العامل الثالث البيئة.

أما العامل الأول وهو الوراثة فقد أشارت إليه الكثير من الروايات الشريفة؛ فقد ورد عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" أنه قال (اختاروا لنطفكم فإن العرق دساس) وقد جاء عنه "صلى الله عليه وآله" (اختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين) وقد جاء عنه "صلى الله عليه وآله" (إياكم وخضراء الدمن قيل يا رسول الله وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في منبت السوء) فهذه الروايات الشريفة تشير إلى تأثير الوراثة على سلوك الإنسان فهناك الكثير من الأخلاق والسلوكيات التي تنتقل بالوراثة كصفة الكرم والبخل؛ فصفة البخل وصفة الكرم من الصفات القابلة للتوريث كما أن صفة الشجاعة وصفة الجبن من الصفات القابلة للتوريث أيضا.

وأما العامل الثاني المؤثر في سلوك الإنسان وهو التربية فقد جاء عنه "صلى الله عليه وآله" (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقد حث "صلى الله عليه وآله" على تربية الشباب فقال (عليكم بالشباب فإنهم أرق قلباً).

وأما العامل الثالث وهو البيئة فقد دلت عليه الكثير من الروايات والأدعية؛ فقد جاء في دعاء عرفة لسيد الشهداء الحسين بن علي وهو في معرض الثناء على الله تبارك وتعالى إذ يقول (لم تخرجني في دولة الكفر) يثني على الله "عزَّ وجل" في أنه أخرجه إلى الدنيا في دولة الإسلام وقد نهت الروايات عن التعرب بعد الهجرة فمن يعيش في مجتمع الهجرة الذي تكون فيه تعاليم الإسلام سائدة لا يجوز له أن يتغرب وأن يهاجر ويعيش في البادية ويتعرب، إذاً هذه صفات ثلاثة تأثر في سلوك الإنسان.

وإذا رجعنا إلى حياة أئمتنا "عليهم أفضل صلوات المصلين" لوجدنا أن هذه الخصال الثلاث والعوامل الثلاثة في أرقى وأرفع درجاتها قد توفرت في الأئمة "عليهم السلام" أعلى درجات الوراثة والتربية والبيئة الصالحة، وكل إنسان تتوفر له هذه العناصر الثلاثة والعوامل الثلاثة من الوراثة الطيبة والتربية الصالحة والبيئة فإن هذا الإنسان يكون صالحاً وكل من تتوفر فيه هذه العوامل في جانب السوء فإن حياته ستكون سيئة وهذا لا يلغي إرادته ولكن هذه العوامل الثلاثة تؤثر في حياة الإنسان وفي أخلاق الإنسان، هذا تمام الكلام في النقطة الأولى العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان.

النقطة الثانية توجد ثلاث قوى مؤثرة في أخلاق الإنسان:

القوة الأولى هي القوة العاقلة.

القوة الثانية هي القوة الغضبية.

والقوة الثالثة هي القوة الشهوية.

هذه القوى الثلاث لها محاسن ولها مساوئ، فالقوة العاقلة يستعين بها الإنسان في سلوك طريق الخير فهذا أحد محاسنها ومن مساوئها قد يستعين بها الإنسان في الكيد وحبك الحيل والبغي على الناس.

وأما القوة الثانية وهي القوة الغضبية فمن محاسنها الدفاع عن العرض والوطن والجهاد في سبيل الله ومن مساوئها ظلم الناس.

وأما القوة الثالثة وهي القوة الشهوية فمن محاسنها استمرار المعيشة بالنسبة إلى شهوة الأكل والشرب واستمرار النسل بالنسبة إلى الشهوة الجنسية ومن مساوئهما الشره بالنسبة إلى شهوة الأكل والزنا والسفاح بالنسبة إلى شهوة الجنس، إذاً هذه القوى الثلاث لها محاسن ولها مساوئ.

النقطة الثالثة الاستجابة للقوى الثلاث على نحويين:

النحو الأوّل الاستجابة المطلقة.

النحو الثاني الاستجابة المحدودة والمقننة.

أما النحو الأوّل وهو الاستجابة المطلقة فإذا أطلق الإنسان العنان لشهوته الجنسية أو شهوة البطن فإنه سيكون كالأنعام بل أضل سبيلا، وهكذا إذا أطلق العنان للقوة الغضبية فإنه سيكون كالسباع بل أضل سبيلا، إذاً الطريق الصحيح والصراط المستقيم هو الاستجابة المحدودة والمقننة للقوة الشهوية والغضبية وهذا يحصل بحاكمية القوة العاقلة على القوة الغضبية وعلى القوة الشهوية.

وقد تطرقنا فيما سبق إلى حد الوسط (وجعلناكم أمة وسطا) وخير الأمور أوسطها؛ فقلنا بالنسبة إلى الشهوة الغضبية إن عدمت فهذا جبن وإن استجيب لها بشكل مطلق من دون حدود ومن دون قيود فهذا تهور وإن استجيب للقوة الغضبية ضمن حدود وضوابط عقلية فهذه شجاعة؛ إذاً الشجاعة هي الحد الأوسط الواقع بين الطرفين بين الإفراط والتفريط بين الجبن والتهور، وهكذا بالنسبة إلى القوى الشهوية فإن قمعها وعدم الاستجابة لها بشكل مطلق يقال له كبت فهذا تفريط؛ وأما الإفراط وهو الاستجابة غير المحدودة لشهوة الجنس وشهوة الأكل والشرب فهذا يقال له إفراط وشره وأما الحد الأوسط بين الطرفين بين الإفراط والتفريط وهو الاستجابة المحدودة لشهوة الجنس والبطن فيقال له عفة، إذاً الحد الأوسط بين الطرفين يشير إلى حاكمية العقل وحاكمية القوة العاقلة على القوة الغضبية والقوة الشهوية؛ وكلما رقى الإنسان ارتقى وكلما سار على الدرب وصل وكلما استطاع أن يجعل قواه العقلية مهيمنة ومسيطرة على القوة الغضبية والشهوية كلما رقى إلى الكمال كلما رقى إلى الملتقى ونال الفيوضات الربانية وإليه تشير الآية الكريمة التي صدرنا بها الدرس (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ) وهذه الآية واردة في شأن ثواب صلاة الليل ونافلة الليل فمن يواظب على هذه النافلة وهذه الصلاة فإن الله "عزَّ وجل" يفيض عليه من فضله ومن عطائه ومن كرمه وسخائه فلا تقدير لذلك العطاء فلا تقدير لذلك الثواب، إذا تمت هذه النقاط الثلاث يكون قد اتضح درسنا؛ وهو تأثير المزاج على الأخلاق فلا يخفى لكل ذي لب بصير دور المزاج في أخلاق الإنسان فبعض الأمزجة تجدها هشة بشة دائمة البسمة وبعض الناس دائماً مقطب ومكشر كأنما هموم الدنيا قد ألقيت على كاهله، إذاً المزاج يختلف من شخص إلى شخص فبعض الأشخاص بطبيعته هش بش دائم البسمة وبعض الأشخاص بطبعه عبوس قمطرير والعياذ بالله، هذه النقطة الأولى.

النقطة الثانية هل يمكن علاج هذه الأخلاق فإذا كان الفرد عبوساً قمطريرا هل يمكن تحويله وتغيره إلى هش بش دائم البهجة والسرور؟ وهل من كان هشاً بشاً يمكن تحويله إلى عبوس قمطرير والأخذ به إلى سواء السعير والعياذ بالله؟ أقوال ثلاثة:

القول الأوّل إن كل الأخلاق قابلة للتغيير مطلقاً.

القول الثاني بالعكس تماماً، إن جميع الأخلاق غير قابلة للتغيير مطلقاً وأبداً.

القول الثالث التفصيل فبعض الأخلاق قابلة للتغيير وبعض الأخلاق غير قابلة للتغيير، فبعض الأخلاق تجري على مقتضى الطبع الإنساني فهذه غير قابلة للتغيير؛ والبعض الآخر يجري على خلاف الطبع الإنساني فهذا قابل للتغيير.

المحقق المدقق الشيخ محمد مهدي النراقي يرى القول الثالث وهو القول بالتفصيل فبعض الأخلاق قابلة للتغير وهي أكثر الأخلاق لذلك ندرس الأخلاق وبعض الأخلاق غير قابلة للتغير لكنها لا تضر إذ لا توجب الحساب والكتاب وهي الأخلاق الطبعية وهذا هو الذي دعانا إلى استهلال البحث بذكر العوامل المؤثرة في سلوك الإنسان من وراثة وتربية وبيئة، فمن الملاحظ أن البيئة والتربية قابلان للتغير بخلاف الأمور الوراثية فإنها طبعية غير قابلة للتغير إلا بناء على الهندسة الوراثية الحديثة والتدخل في الجينات والمشيجات وهذا بحثه في محله في علم الأحياء.

الإنسان إذا يولد هو خال عن أي أخلاق اكتسابية والأخلاق الاكتسابية يتحصل عليها من البيئة والتربية وهناك أخلاق قهرية تنتقل بالوراثة، إذاً الصحيح ما صححه المحقق المدقق المولى الشيخ محمد مهدي النراقي في جامع السعادات من أن أغلب الأخلاق بل أكثر الأخلاق قابل للتغير لأنه من الأخلاق الاكتسابية الذي يتحصل عليها من التربية أو البيئة؛ نعم بعض الأخلاق التي يعبر عنها أنها على مقتضى الطبع يعني الأخلاق الوراثية هذه يصعب تغييرها وتحتاج إلى معاناة شديدة لا نقول يستحيل تغييرها؛ تغييرها ممكن ولكن يصعب تغييرها وتحتاج إلى عناء.

سؤال لماذا يبقى الإنسان على النقصان ولا يلتحق بركب الكمال ولا يصير إلى عالم الكمال والأخلاق الفاضلة؟

الجواب لأسباب عديدة منها ما ذكره المحقق النراقي؛ الأمر الأوّل عدم صرف النفس إلى طلب المقصود بسبب وجود العوائق والموانع فما أكثر الناس الذين يدركون أنهم في قعر النقصان ولكن لا يتحركون إلى مدارج ومعارج الكمال قيد أنملة بل مشغولون بهموم الدنيا الدنية وزينتها وزخرفها وبهرجها.

السبب الثاني مزاولة النقيض لتمكن موجبه يعني مقتضاه فمزاولة وممارسة نقيض الخُلق الحسن بسبب تحقق مقتضاه فالكل يدرك أن الكرم حسن والبخل قبيح والكل يدرك أن الشجاعة حسنة والجبن قبيح لكن الإنسان يجبن عند النزال لحلاوة الروح والحياة.

السبب الثالث كثرة اشتغال النفس بالشواغل المحسوسة فالإنسان كائن حسي بطبعه فيغلب عليه الحس ويهيمن عليه.

والسبب الرابع والأخير وهو الأهم ضعف القوة العاقلة فكلما ضعفت القوة العاقلة سيطر الوهم على الإنسان وسيطر الغضب على الإنسان وسيطر البطن والفرج على الإنسان لذلك ورد في الرواية الشريفة عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" (ليس الشديد الشديد بالصرعة إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب).

يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا      يزيد سفاهة فيزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيبا

كان إمامنا الباقر "صلوات الله وسلامه عليه" يمشي قال له أحدهم (أنت البقر قال أسمتني أمي الباقر قال يا بن الطباخة قال تلك هي حرفتها) كان الإمام السجاد "سلام الله عليه" يمشي فشتمه أحدهم فمشى شتمه فمشى شتمه مشى غضب هذا الشاتم أمسك الإمام "عليه السلام" قال (إياك أعني فقال السجاد "عليه السلام" وعنك أُعرض) هذه شيمتك هذه قيمتك؛ تنزل إلى الأمور السافلة وشيمتنا الرقي إلى مدارج ومعارج الكمال، وهكذا من يشتغل ببطنه كالبهيمة المربوطة كما يقول أمير المؤمنين (همها علفها أو كالمرسلة شغلها تقممها تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها).

إلى هنا انتهينا من درسنا "تأثير المزاج على الأخلاق" يعني هناك مزاج هذا المزاج قد يكون وليد الوراثة فلان عائلتهم غضوبين وفلان عائلتهم ثلج باردين هذا موجود، هذه أمور وراثية فمثل هذا المزاج يؤثر على أخلاق الإنسان وعلى سلوكيات الإنسان.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo