< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الأخلاق

39/02/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: فضائل الأخلاق ورذائلها

الله تبارك وتعالى وصف نبيه "صلى الله عليه وآله" ونصَّ على أن خلق النبي عظيم ومن هنا نتكلم اليوم في الفصل الذي خصصه المحقق النراقي في فضائل الأخلاق ورذائلها؛ فهناك أخلاق سامية وهناك أخلاق ذاميه ويوجد فضائل للأخلاق ويوجد رذائل للأخلاق؛ فالمنجيات هي فضائل الأخلاق التي توصل إلى السعادة الأبدية والمهلكات هي رذائل الأخلاق التي تقود إلى المهلكات الأبدية والشقاوة السرمدية؛ إذاً من الواجب التخلي عن الأخلاق السيئة والتحلي بفضائل الأخلاق.

سؤال: كيف نشخص فضائل الأخلاق ونفرق بينها وبين مساوئ الأخلاق؟ هذا بحث هام جداً الخلق ينقسم إلى خلق حسن وخلق سيء، سؤال ما هو مقياس الخلق الحَسن وما هو مقياس الخلق السيئ؟

اختلفت المدارس الأخلاقية في بيان المقياس والمعاير الذي على أساسه نشخص أن هذا الخلق سيء وهذا الخلق حَسن، المدرسة اليونانية بيَّنت أن المدار على حُسن الخلق هو كونه يشكل حالة وسط وذهبوا إلى أن الفضيلة وسط بين رذيلتين وقد دعا الشارع المقدس إلى أوسط الأمور إذ روي عن رسول الله "صلى الله عليه وآله" (خير الأمور أواسطها)، إذاً الأخلاق الحسنة تمثل الأواسط والأخلاق السيئة تمثل الأطراف.

مثلاً الجرأة؛ الجرأة إن وضعت في مواضعها بلا زيادة ولا نقصان فهي الشجاعة وإن وضعت في غير موضعها فهي التهور وإن عُلمت الجرأة فهي الجبن فعندنا طرفان بالنسبة إلى الجرأة إفراط وتفريط؛ الإفراط في الجرأة طرف وهو يمثل التهور والتفريط والتقصير في الجرأة طرف وهذا يمثل الجبن، ولكن وضع الجرأة في مواضعها من دون زيادة ولا نقيصة من دون إفراط ولا تفريط يقال له شجاعة، إذاً هذه الفضيلة فضيلة الشجاعة وهي ترتبط بالقوة الغضبية؛ ذكرنا الآن فضيلة من فضائل القوة الغضبية وهي الشجاعة وذكرنا رذيلتين من رذائل القوة الغضبية وهو التهور والجرأة.

الفضيلة مثلت الأواسط وهي الشجاعة والرذيلة مثلت الطرفين التفريط وهو الجبن والإفراط وهو التهور وهكذا فيما يتعلق بالشهوة الجنسية فإن وضع الشهوة الجنسية في مواضعها يقال له عفة يعني الاستجابة للشهوة الجنسية ضمن الإطار المشروع ليس المراد الاستجابة المطلقة الإباحة المطلقة وإنما الاستجابة المحدودة الاستجابة المنظمة والمنتظمة عن طريق اشباع الرغبة الجنسية للزواج يقال له عفة، ولكن الإفراط في الشهوة الجنسية وإطلاق العنان للشهوات والنزوات بطريق مشروع وغير مشروع يقال له شره، هذا الذي يفرط في الأكل والشرب يأكل بشراهة وكذلك الذي يطلق العنان للشهوة الجنسية يقال هذا شره عنده شراهة، وإذا ألغى الإنسان الشهوة الجنسية ولم يستجب لها ولم يتزوج ولم ولم فهذا يقال له كبت، إذاً العفة حد أوسط بين طرفين؛ الطرف الأوّل يمثل حالة الإفراط وهو الشره والطرف الثاني يمثل التفريط وهو الكبت.

وهكذا بالنسبة إلى التعقل فإن إعمال العقل في مواضعه الصحيحة يقال له حكمة، فلان حكيم يعني يعمل القواعد العقلية ويضعها في موضعها ومن لا يُعمل عقله يعني عنده تفريط يقال له متحجر ومن يُعمل الأمور العقلية في غير مواضعها قد يقال له مجنون أو سفسطائي، إذاً الحكمة تمثل حالة وسطى (وجعلناكم أمة وسطا)، (خير الأمور أوسطها) فالأخلاق والفضائل تمثل الأواسط بينما رذائل الأخلاق تمثل الأطراف؛ طرف الإفراط وطرف التفريط.

إلى هنا أخذنا نقطتين؛ النقطة الأولى إن النجاة كل النجاة في التحلي بفضائل الأخلاق والتخلي عن مساوئ الأخلاق.

النقطة الثانية ما الفارق بين فضائل الأخلاق ومساوئ الأخلاق؟ الجواب فضائل الأخلاق تمثل الأواسط بين الطرفين ومساوئ ورذائل الأخلاق تمثل طرفا القضية فلا إفراط ولا تفريط، من هنا نعرف كلمات السيد الإمام الخميني "رضوان الله عليه" الذي يقول (التشدد عاقبته ليست حسنة)، إذا تجد إنسان متزمت جداً متشدد مثل هذا الإنسان في يوم من الأيام يصبح جداً منفتح تأتيه ردة فعل؛ أو تجد إنسان منفتح جداً جداً هذا يوم من الأيام قد يصاب بردة فعل؛ خير الأمور أوسطها، إذاً المقياس في فضائل الأخلاق هو الأواسط التي أثبتها صاحب الشريعة يعني الحدود الوسطى التي بينها النبي "صلى الله عليه وآله".

ثم بعد ذلك يشير المحقق النراقي إلى نقطة مهمة وهي أنه إذا لم تحصل التخلية لم تحصل التحلية ولم تستعد النفس لنيل الفيوضات الربانية تماماً كالمرآة فما لم تزل الكدورات والأوساخ عن المرآة فإن المرآة لا تصبح قابلة لارتسام صور الأشياء فيها بشكل واضح وجلي إذا لم تزل عنها تلك الأوساخ وهكذا الثوب الوسخ حتى لو وضعت عليه الألوان البهية والزاهية فإنه يبقى وسخاً وخلقاً فلابد من المرتبة الأولى وهي التخلية والتخلي من العيوب ثم بعد ذلك تأتي المرتبة الثانية وهي التحلي بالفضائل والتحلي بالمناقب؛ وهذه هي مشكلة الكثير من طلاب الحوزة العلمية تجد فلان يدرس ويدرس ويصير آية الله ثم بعد ذلك تجده ينحرف انحراف واضح وبسيط وواضح لدى كل الناس فتتعجب؛ والسر في ذلك أنه في بداية حياته الدراسية لم يتخلص من عيوب نفسه؛ الكبر؛ الحسد؛ تضخم الأنا؛ الرياء؛ العجب بالنفس؛ طلب الرئاسة؛ منافسة الأقران والشركاء؛ طلب الشهرة؛ فما الفائدة في تزيين الظاهر مع فساد وظلم الباطن.

الشيخ محمد مهدي النراقي "رضوان الله عليه" صاحب هذا الكتاب يشبه من يتحلى بالطاعات ويواظب على الطاعات من دون أن يخلي نفسه من المساوئ ويتخلص من المفاسد يشبهه بالكنيف وخزانة الكنيف والمراد بالكنيف المرحاض مكان التغوط والتبول والقاذورات فيقول خزانة الكنيف البالوعة ظاهرها حسن من الجص ولكن واقعه عفن وقاذورات؛ كذلك من لم يتخلص من عيوب نفسه وتحلى بأمور ظاهرية حسنة حاله حال خزانة الكنيف يعني حاله حال بالوعة التواليت.

يقول ومَثل من يواظب على الطاعات الظاهرة ويترك تفقد قلبه كبئر حش ظاهرها جص وباطنها نتن، الحَش بالفتح أو الضم ثم التشديد حُشَّة وأيضا بالفتح حَشَّة المراد بالحَش المخرج وموضع الحاجة وأصله من الحش بمعنى البستان لأنه كانوا يتغوطون في البساتين فلما اتخذوا الكنيف أطلقوا عليها اسم الحش مجازاً فالمراد من الحش خزانة الكنيف.

ويضرب عدة أمثلة بالتصوير يقول من يعطني بأخلاقه الظاهرة ويواظب على الطاعات ويغفل عن مساوئ أخلاقه الباطنة حاله حال البيت المظلم الذي من الخارج إنارته جداً قوية. وأيضا مثل مزارع زرع زرعاً حسناً؛ ورود فنبت مع الورود حشائش وأشواك وأراد أن يقص وينتزع تلك الحشائش كلما قطعت الحشيش أكثر كلما ازداد أكثر فحال من يخلط الأخلاق الحسنة بالأخلاق السيئة هو من يزرع الورود مع الحشيش.

مثال آخر يقول مريض به جرب؛ بدنه جلده فيه جرب أعطاه الطبيب حاجتين؛ الحاجة الأولى طلاء يطلي بدنه الظاهري حتى لا يظهر مقززا أمام الناس والأمر الثاني أعطاه دواء باطني لكي يقتلع جذور هذا الجرب ولا يصاب بهذا المرض الجلدي؛ لكن هذا المريض واظب على طلاء بدنه حتى لا يظهر الجرب أمام الناس لكنه امتنع عن شرب الدواء الباطني فكلما ازداد طلاءً ازداد الجرب تحت ذلك الطلاء فظاهره حسن وباطنه سيء فمهما ازداد الطلاء فإن هذا الطلاء لا يزيل الآفات الداخلية للجرب؛ وهذه آفة كبيرة لطلاب العلم.

يذكر سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين المظاهري في كتابه عوامل السيطرة على الغرائز في حياة الإنسان ـ يذكر هذه القصة بالنسبة الى الإمام الخميني هو يذكرها وينسبها تارة أخرى الى السيد محمد رضا الگلبايگاني "رضوان الله عليهما" ـ يقول: احتضر أحد الفقهاء فقيل للسيد الإمام الخميني أو السيد محمد رضا الگلبايگاني أن فلان آية الله الفلاني يحتضر؛ فذهب الى عيادته وهو في سكرات الموت؛ يقول آية الله مظاهري حينما جاء السيد وكان مرجعاً؛ التفت اليه الفقيه الذي يحتضر وقال سيدنا نحن زملاء دراسة حينما كنا ندرس من كان أكثر جدية أنا أو أنت؟ قال السيد أنت؛ قال حينما كنا ندرس من منا كان أكثر ذكاءً أنا أم أنت؟ قال أنت؛ قال كيف أنت تصبح مرجعا وأنا لا أصبح مرجعا!؟ هذا ظلم؛ الله ظالم؛ ثم قال أحضروا القرآن فجاؤوا له بالقرآن "فبصق بالقرآن" ثم خرجت روحه! من فقيه وآية الله الى كافر يهين كتاب الله عزَّ وجل لماذا؟ لأن الحسد تغلغل في قلبه؛ ومن أكبر الآفات في طالب العلم الحسد، واليكم قصة أخرى عن الحسد؛ في يوم من الأيام الحجاج بن يوسف الثقفي قال لجلاوزته اذهبوا الى السوق وأتوني برجلين أحدهما بخيل والآخر حسود ـ الحسود لا يتمنى الخير لأحد ـ فأحضروا له الرجلين فقال الحجاج فليطلب أحدكما شيئا وسألبيه له ولكن سأعطي الآخر ضعف ما يطلب؛ فمن يطلب جارية سأعطيه ولكن سأعطي صاحبه جاريتين؛ ومن يطلب ألف درينا سأعطيه ألف دينار ولكن سأعطي صاحبه ألفي دينار؛ ومن يطلب داراً سأعطيه داراً ولكن سأعطي صاحبه دارين فسأستجيب لكما ولكن من يطلب له ما طلب ومن لا يطلب سيكون له ضعف ما طلب الطالب؛ فتحيرا وسكتا برهة طويلة البخيل يقول أنا أريد الأكثر والحسود لا يتمنى لصاحبه أن يأخذ أكثر منه سكتا مدة طويلة الى أن تكلم أحدهما وهو الحسود قال أيها الحجاج افقأ عيني؛ تعجب الحجاج! وقال لماذا؛ قال لأنك إذا فقأت عيني سأصبح أعورا وأبصر بعين واحدة لكن ستفقأ له عينين وسيصبح أعمى فسأكون أفضل منه أنا أعور وهو أعمى؛ ولكن إذا طلبت دارا ستعطيه دارين وأنا لا أتحمل أن أراه أحسن مني وأفضل مني، نحن ممكن أن نضحك لهذه القصة ولكن قد أعيش واقع هذه القصة من حيث لا أشعر ممكن نعيش هذا الحسد أحضر الدرس وبنفسي أنا أذكى واحد وأنا أجلُّ واحد وكل تفكيري هو الحسد، من صفات المتقين فهم لأنفسهم متهمون

النقطة الأخيرة ذكر المحقق النراقي "رضوان الله عليه" أن الإنسان أوّلاً إذا تخلى من العيوب والمساوئ وثانياً إذا تحلى بالفضائل والمناقب يصل إلى المرتبة الثالثة مرتبة التجلي وهو أن يخلي قلبه من كل ما عدا الله هذه مرتبة عظيمة كل ما سوى الله، لذلك التوحيد عند العرفاء يختلف عن التوحيد عند المتكلمين التوحيد عند المتكلمين أن الله واحد لا شريك له التوحيد في مقام الذات؛ التوحيد عند العرفاء أن لا ترى في الوجود إلا الله أصلا لا يوجد شيء لا يوجد موجود إلا الله؛ لا ترى إلا الله ولهذا يشير أمير المؤمنين (ما رأيت شيئاً إلا وقد رأيت الله قبله ومعه وبعده)، فإذا تخلى الإنسان من العيوب وتحلى بالفضائل يعني المرتبة الأولى التخلي من العيوب؛ المرتبة الثانية التحلي بالفضائل؛ المرتبة الثالثة التجلي تتجلى الفيوضات الإلهية، إذا الإنسان خلىَّ قلبه مما عدا الله تبارك وتعالى ووصل إلى كمال القوتين؛ كمال القوة النظرية الإحاطة بالموجودات والإحاطة بالكليات التي تنطبق على الجزئيات المختلفة ووصل إلى كمال القوة العملية وهي رياضة النفس عن طريق التخلي والتحلي والتجلي في هذه الحالة يصل إلى مراتب عالية جداً.

حدثني أحد أساتذتي يقول يوم من الأيام ذهبت لزيارة أحد الصالحين في النجف الأشرف ـ هذا أحد الصالحين لم يكن من طلاب العلوم الدينية رجل كبير توفى رحمه الله ـ واستاذي فقيه يقول كان هذا الرجل يتكلم عن البرزخ وكأنه واحد في السوق يتحدث بأمور عادية وهو لا يدرك أنه وصل الى هذه المقامات؛ عنده حالة من صفاء القلب بحيث كأنه يعيش حالة البرزخ.

فصل؛ الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف نتكلم عنها في الدرس القادم ولكن نأتي بشاهد.

في يوم من الأيام دخل رسول الله "صلى الله عليه وآله" الى المسجد فرأى شابا قد اصفر وجهه وتغير لونه؛ قال أيها الشاب كيف أصبحت؟ قال أصبحت وكأني أنظر الى أهل الجنة وهم فيها منعمون وكأني أنظر الى أهل النار وهم فيها يعذبون؛ وكأني أنظر الى كذا وكذا وكأني أنظر الى كذا؛ شاب فتحت بصيرته ـ شاهدوا الجنة كشفا فرأوها رأي عين ـ التفت رسول الله "صلى الله عليه وآله" الى أصحابه قال هذا شاب نور الله قلبه بالإيمان؛ هذا الذي تشير اليه الرواية ليس العلم بكثرة التعليم والتعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء يعني إذا تفرغ هذا القلب من ماعدا الله ولا يرى إلا الله حالة عظيمة ـ الله يوفقنا جميعا للوصول اليها ـ ثم التفت الشاب الى النبي وقال يا رسول الله ادعو لي أن ارزق الشهادة بين يديك ـ لم يطلب الشهادة فقط بل الشهادة بين يدي رسول الله ـ فدعا له رسول الله فاستشهد في إحدى غزواته، على الإنسان أن يعيد جدول أعماله أنا لي في الحوزة شهر أو أشهر أو سنة أو سنتين أو ثلاث هل تغيرت نحو الأحسن أم تغيرت نحو الأسفل؟ إذا تغيرت الى نحو الأحسن طوبى لك وحسن مآب؛ أما إذا تغيرت نحو الأسوأ فهناك خلل ولا بد من اصلاح الخلل قبل حلول الأجل وفقنا الله وإياكم للعلم والعمل الصالح.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo