« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/10/17

بسم الله الرحمن الرحیم

خاتمة؛ الشرط الأول؛ البحث الأول؛ النظریة الأولى: نظریة الشیخ الأنصاري/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /خاتمة؛ الشرط الأول؛ البحث الأول؛ النظریة الأولى: نظریة الشیخ الأنصاري

 

خاتمة حول شروط جریان الاستصحاب

الشرط الأول: بقاء الموضوع

البحث الأول: معیار بقاء الموضوع أو اتحاد القضیتین

النظریة الأولى: نظریة الشیخ الأنصاري(قدس سره)

ردّ المحقق النائيني(قدس سره) على إشكالين:

ملاحظة الأستاذ على ردّ المحقق النائيني(قدس سره):

إنّ كلمة “الرافع” تُستعمل بمعنيين:

     ما يكون في مقابل “المقتضي”.

     ما يكون في مقابل “المانع”.

أما “الرافع” بالمعنى الأول، فهو عبارة عن أمر زماني يمنع تأثير المقتضي في اقتضاء بقاء ذلك الشيء، بعد أن أثّر المقتضي في حدوثه، سواء كان هذا الرافع أمراً وجودياً أو عدمياً.

وأما “الرافع” بالمعنى الثاني، فهو عبارة عن أمر وجودي يؤدي إلى رفع الشيء وإزالته من صفحة الوجود، بعد أن حدث ذلك الشيء وصار موجوداً؛ كما أنّ “المانع” بهذا المعنى هو ما يمنع حدوث الشيء.

ومن حيث إنّ كلامه يدور حول المعنى الثاني من “الرافع” الذي يكون في مقابل “المانع”، وقد فسّر كلام الشيخ(قدس سره) على هذا الأساس، قال(قدس سره): إنّ “الرافع” بهذا المعنى لا يمكن أن يكون عدمه من قيود الموضوع بحيث يكون الشك في وجوده أو عدمه سبباً للشك في الموضوع. وذلك لأنّ عدم هذا “الرافع” ليس من قبيل عدم “المانع” الذي يُعدّ من أجزاء العلة التامة. ذلك لأنّ عدم الشيء قد يُلاحظ في موضوع الأمر أو في سلسلة أجزاء علل ذلك الأمر، إلا أن عدم “الرافع” بهذا المعنى يؤدي إلى زوال الموضوع. ولذلك قال(قدس سره):

«الرافع ما یكون وجوده معدماً للموضوع، لا أنّ عدمه قید فیه، و كیف یمكن أن یكون الموضوع مقیّداً بما یوجب إعدامه؟ و بالجملة الرافع هو الذي لایمكن أن یجتمع مع الموضوع في الزمان، و هذا لایقتضي أن یكون عدمه قیداً في الموضوع، بل لایمكن ذلك»[1] .

مما أوردناه في مناقشة إيراد المحقق الخوئي(قدس سره)، اتضح أن هذا التقرير غير تام بإجمال. والسبب في ذلك أن "الرافع" في هذا المقام لا يؤدي دائماً إلى انعدام الموضوع، بل هو اعتبار شرعي قد يترتب عليه رفع الحكم عن الموضوع وانتفائه بسبب تحقق أمر آخر، دون أن يؤدي إلى انعدام الموضوع أو سبب الحكم.

ولتوضيح المسألة، ينبغي الإشارة إلى أن المشتقات تنقسم إلى قسمين:

التلبس باعتبار الذات: في هذه الحالة، تُنسب الصفة إلى الشخص بناءً على ذاته، لا على فعله في الوقت الحاضر. فمثلاً، إذا كان الفرد متصفاً بصفة "الجود"، حتى لو لم يصدر منه فعل الجود في الوقت الحالي، نسميه "جواداً". وهنا تُنسب الصفة باعتبار الذات والخصائص الداخلية للفرد.

التلبس باعتبار الحدوث: في هذه الحالة، تُنسب الصفة إلى الشخص بناءً على فعل معين صدر منه في الماضي. مثل صفة "قاتل"، حيث إذا ارتكب الفرد فعل القتل ولو مرة واحدة، يُسمى دائماً "قاتلاً"، حتى لو لم يرتكب هذا الفعل في الوقت الحاضر. وهنا تُنسب الصفة باعتبار وقوع ذلك الفعل في الماضي، ولا تتحول "الحادثة" (وقوع الفعل) إلى "لا حادثة" (عدم وقوع الفعل حالياً).

سبب نجاسة هذا الماء القليل هو ملاقاته للنجاسة، وهذه "الملاقاة" لا تتحول إلى "عدم ملاقاة". فوقوع هذه الملاقاة هو سبب الحكم بالنجاسة، وهذا "الحدوث" لا يتحول إلى "عدم حدوث". كما أن الماء القليل نفسه لا يزول، ولكن اتّصاله بالكرّ في لحظة واحدة يُوجب الحكم بالطهارة. في هذه الحالة، الموضوع (الماء القليل) لم يزل، بل تحقّق سبب آخر للحكم بالطهارة. وبالتالي، رُفع الحكم بالنجاسة دون أن يزول موضوعه؛ بل رُفع الحكم بسبب حدوث موضوع أو سبب آخر وهو موضوع المطهّرات. هذه الأمور معتبرةٌ عند الشارع كرافعة للنجاسة، ولهذا السبب سُمّيت هذه الأمور "مطهّرات"، لأنها تُوجب الحكم بالطهارة.

ومع ذلك، فإن "الرافع" قد يُسبّب أحياناً انعدام الموضوع، كما هو الحال في بعض الأمور الوضعية مثل الزوجية. فالزوجية من الأمور الوضعية الاعتبارية، وتكون موضوعاً لأحكام تكليفية ووضعية كثيرة. ورافعها هو الطلاق؛ بمعنى أنه قد يحدث شكّ في علقة الزوجية، من حيث تحقّق موضوعها أو قيود موضوعها، مثل الشك في صحة صيغة العقد. كما قد يحدث شكّ في علقة الزوجية من حيث احتمال تحقّق "الرافع" وهو صيغة الطلاق. فإن صيغة الطلاق هي التي تزيل علقة الزوجية، وليس صيغة العقد—كما قد يُتوهم—لأن صيغة العقد قد وقعت في زمانها ولا يتحول "حدوثها" إلى "عدم حدوث"، بل صيغة الطلاق هي التي تُحلّ تلك العلقة التي أوجدتها صيغة العقد.

ويتصور هذا الأمر في المثال السابق أيضاً؛ لأن الطهارة—من جهة أخرى—تكون موضوعاً لأحكام أخرى، وإن كانت الطهارة نفسها من الأحكام الوضعية التي تُحكم على متعلّقها.

المناقشة الثالثة في نظرية الشيخ الأنصاري(قدس سره):

هذه ملاحظةٌ على إطلاق قوله في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية، إذا كان معيار اتحاد الموضوع هو العقل.

من وجهة نظر العقل، فإن اتحاد الموضوع في الشبهات الموضوعية من قبيل «زيد قائم» واضحٌ تماماً وبلا إشكال؛ لأن الموضوع (زيد) والمحمول (القيام) في القضية المشكوكة واليقينية لم يتغيرا. وبالتالي، فإن الاستصحاب في مثل هذه الحالات يجري دون أي مانع.

أما في قضية «هذا الماء كرّ»، فإن العقل لا يُحرز اتحاد الموضوع بين القضية المشكوكة واليقينية بعد نقصان جزء من الماء؛ لأن الكرّية تابعةٌ لحجم الماء، ومع النقصان يتغير الموضوع. بخلاف العقل، فإن العرف يُحرز اتحاد الموضوع في هذه الحالات؛ إذ يتغاضى العرف عن التغيرات الجزئية ويستمر في اعتبار الماء كرّاً.

هذه الملاحظة ترد أيضاً على إطلاق رأي الآخوند الخراساني(قدس سره)؛ حيث إنه قبل الاستصحاب في الموضوعات الخارجية، في حين أن اختلاف العقل والعرف في تشخيص اتحاد الموضوع في مثل هذه الحالات قد يُثير إشكالاً.

المناقشة الرابعة في نظرية الشيخ الأنصاري(قدس سره):

إنَّ سببَ عدمِ جوازِ إدراجِ العُرفِ في عرضِ الدليلِ والعقلِ يُمكنُ بحثُهُ من عدةِ وجوهٍ:

العُرفُ ليس مُشرِّعاً: على عكسِ الدليلِ الشرعيِّ (الكتابِ والسنةِ) الذي يصدرُ عنِ الشارعِ المقدسِ، وعلى عكسِ العقلِ الذي يُعتبرُ مصدراً مستقلاً ومعتبراً لاكتشافِ الأحكامِ، فإنَّ العُرفَ لا يلعبُ دوراً في مجالِ التشريعِ. فالعُرفُ مجردُ أداةٍ للفهمِ والإدراكِ، ولا يمكنُ اعتبارُهُ مصدراً مستقلاً بجانبِ الدليلِ والعقلِ.

دورُ العُرفِ في فهمِ ظواهرِ الأدلةِ: كما أشارَ المحققُ النائيني(قدس سره)، فإنَّ دورَ العُرفِ يقتصرُ على فهمِ ظواهرِ الأدلةِ الشرعيةِ. أي أنَّ العُرفَ يساعدُنا على فهمِ مرادِ الشارعِ من الألفاظِ والعباراتِ الواردةِ في الأدلةِ. لكنَّهُ لا يملكُ أيَّ دورٍ في تطبيقِ الأحكامِ على المصاديقِ الخارجيةِ أو تحديدِ الموضوعاتِ.

عدمُ اعتبارِ المسامحاتِ العُرفيةِ: كثيرٌ من الاستنباطاتِ العُرفيةِ الناتجةِ عن التسامحِ أو الفهمِ السطحيِّ لا تكونُ معتبرةً شرعاً. فقد يُصدرُ الشارعُ حكماً مخالفاً للفهمِ العُرفيِّ، أو يذكرُ حدوداً وقُيوداً لا ينتبهُ لها العُرفُ. لذلك، لا يمكنُ اعتبارُ العُرفِ معياراً مستقلاً لتحديدِ اتحادِ الموضوعِ.

النتيجة:

لا ينبغي إدراجُ العُرفِ في عرضِ الدليلِ والعقلِ، لأنَّ مكانتَهُ ودورَهُ يختلفانِ عنهُما. فالدليلُ والعقلُ مصدرانِ مستقلانِ ومعتبرانِ لتشخيصِ الأحكامِ والموضوعاتِ، أما العُرفُ فليسَ إلا أداةً لاستيعابِ مرادِ الشارعِ من ظواهرِ النصوصِ، ولا دورَ لهُ في التطبيقِ على المصاديقِ أو تحديدِ الموضوعاتِ. ([2] [3] )

جواب المحقق الخوئي(قدس سره) على هذه المناقشة:

«الكلام في بقاء الحكم في ظرف الشك المستفاد من أدلّة الاستصحاب الدالّة على حرمة نقض الیقین بالشك ... فهل المرجع في بقاء الموضوع هو الدلیل الأوّل الدالّ على ثبوت الحكم بأن كان جریان الاستصحاب تابعاً لبقاء الموضوع المأخوذ في لسانه، أو الدلیل الثاني الدالّ على الإبقاء في ظرف الشك فإنّ الموضوع فیه النقض و المضي، فیكون جریان الاستصحاب تابعاً لصدق النقض و المضي في نظر العرف، بلا لحاظ الموضوع المأخوذ في لسان الدلیل الأوّل.

فالمراد من أخذ الموضوع من العرف أنّ جریان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفاً بلا نظر إلى الدلیل الأوّل، و المراد من أخذه من الدلیل الشرعي هو الرجوع إلى الدلیل الأوّل.» ([4] )

رأی المحقق الخوئي في هذه المسألة يشير إلى التفريق بين مرحلتين:

المرحلة الأولى: تعیین الموضوع من الدلیل الشرعي

في هذه المرحلة، يُحدد الدلیل الشرعي (الدلیل الأول) ما هو موضوع الحکم. أي أننا من الدلیل الأول (مثل الآیات أو الروایات المتعلقة بالحکم) نفهم ما هو موضوع الحکم، ویحصل لنا الیقین الأولي بشأن هذا الموضوع.

المرحلة الثانیة: جریان الاستصحاب

في هذه المرحلة، عندما یحصل الشك في بقاء الحکم، یجري الاستصحاب. ومعیار جریان الاستصحاب في هذه المرحلة هو صدق النقض عرفاً بین الیقین والشك. أي أن العرف یجب أن یُشخص هل تم نقض الیقین بالنسبة للموضوع أم لا.

النقطة المهمة:

یؤکد المحقق الخوئي أنه في مرحلة جریان الاستصحاب لا حاجة للرجوع إلى الموضوع المأخوذ في الدلیل الأول. بل المعیار في هذه المرحلة هو تشخیص العرف لصدق النقض بین الیقین والشك.

النتیجة وفقاً لرأي المحقق الخوئي:

في المرحلة الأولى، الدلیل الشرعي هو الذي یحدد موضوع الحکم.

في المرحلة الثانیة، حیث یُجری الاستصحاب، یکون المعیار هو صدق النقض عرفاً بین الیقین والشك، دون الحاجة إلى لحاظ تفاصیل الموضوع في الدلیل الأول.

هذا التفریق یوضح أن دور العرف في جریان الاستصحاب یقتصر على المرحلة الثانیة، أما في المرحلة الأولى (تعیین الموضوع) فالمعیار هو الدلیل الشرعي.

النتيجة:

محصّل هذه الأقوال هو أنَّ نظريةَ الشيخ الأنصاري(قدس سره) صاحب الكفاية(قدس سره)، والمحقق النائيني(قدس سره)، والمحقق الخوئي(قدس سره) تامّةٌ وصحيحةٌ، والمرجعُ في هذه المسألة هو العُرفُ لا العقلُ؛ لأنَّ الرجوعَ إلى العقلِ في مفاهيم الألفاظِ وما يُستفادُ من دليلِ الحكمِ وخطابِ «لا تنقض» لا معنى له. كما أنَّ مرجعيةَ الدليل اللفظي الأولِ لا معنى لها أيضاً، بل إنَّ القضيةَ «لا تنقض» هي الملاكُ، وفي تشخيصِ موضوعِها لا بدَّ من الرجوعِ إلى العُرفِ.

 


[2] نقله في أجود التقريرات، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج2، ص449.. قال: «من هنا ربما یقال: إنه لا معنی للمقابلة بین الموضوع الدلیلي و العرفي فإن العرف لیس بنبي مشرع و إنما شأنه فهم المرادات من ظواهر الأدلة ...»
[3] و التزم به في فوائد الاُصول، الغروي النّائيني، الميرزا محمد حسين، ج4، ص586.. قال: ««و من هنا صحّ أن يقال: إنه لا وجه للمقابلة بين الدليل و العرف، فإنّ مفاد الدليل يرجع بالأخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف...»
logo