« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/10/16

بسم الله الرحمن الرحیم

خاتمة؛ الشرط الأول؛ المبحث الأول؛ النظریة الأولی/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب /خاتمة؛ الشرط الأول؛ المبحث الأول؛ النظریة الأولی

 

خاتمة حول شروط جریان الاستصحاب

الشرط الأول: بقاء الموضوع

بقيت هنا بحثان:

البحث الأول: معیار بقاء الموضوع أو اتحاد القضیتین

النظریة الأولى: نظریة الشیخ الأنصاري(قدس سره)

المناقشة الأولی في النظریة الشیخ الأنصاري(قدس سره)

ناقش صاحب الكفاية(قدس سره) ما ذكره الشيخ(قدس سره) حول معيارية العقل في اتحاد المذكور. يرى الشيخ الأعظم(قدس سره) أن العقل - عندما يكون معياراً للاتحاد بين القضية المتيقنة والمشكوك فيها - يحكم بعدم الاتحاد إلا في ثلاثة موارد. وقد عدّ الشيخ(قدس سره) المورد الثاني هو الشك في الرافع، وبناءً على ذلك ذهب إلى عدم جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي. أما المورد الثالث فهو الشك في الموضوعات، والمورد الأول هو ظرف الزمان. ولكن صاحب الكفاية(قدس سره) يعتقد أن العقل يحكم بعدم جريان الاستصحاب في جميع الموارد - باستثناء الموضوعات.

يرى الشيخ(قدس سره) أن العقل، عندما يكون معياراً للاتحاد بين اليقين والشك، يقبل جريان الاستصحاب في ثلاثة موارد خاصة، ويحكم بعدم الاتحاد في باقي الحالات. وهذه الموارد الثلاثة هي:

    1. ظرف الزمان: يقول الشيخ(قدس سره) إن الاستصحاب يجري إذا كان الزمان ظرفاً للقضية المشكوكة. بمعنى آخر، إذا كان الشك متعلقاً باستمرار حالة معينة عبر الزمن (مثل الشك في استمرار طهارة الماء بعد مرور الزمن)، فإن الاستصحاب يجري.

    2. الشك في الرافع: في هذا المورد، يعتقد الشيخ(قدس سره) أنه إذا كان الشك متعلقاً بوجود أو عدم وجود عامل يزيل الحالة السابقة (أي شيء يُنهي الحالة السابقة)، فإن الاستصحاب يجري. على سبيل المثال، إذا تيقنّا أن الملابس كانت طاهرة ثم شككنا في وصول نجاسة إليها أم لا، فإن استصحاب الطهارة يجري.

    3. الموضوعات الخارجية: يقبل الشيخ(قدس سره) جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية أيضاً. أي إذا كان الشك متعلقاً بذات الموضوع (مثل الشك في كون الماء أصلاً طاهراً أو نجساً)، فإن الاستصحاب يجري.

أما صاحب الكفاية(قدس سره) فيخالف رأي الشيخ(قدس سره) في هذا الموضع. فهو يرى أن العقل، بوصفه معياراً للاتحاد بين اليقين والشك، يرفض جريان الاستصحاب في جميع الموارد باستثناء الموضوعات. وبعبارة أخرى:

يقول صاحب الكفاية(قدس سره) إن الاستصحاب لا يجري في مورد «الشك في الرافع» و«ظرف الزمان»، لأن العقل في هذه الموارد يحكم بعدم الاتحاد بين القضية المتيقنة والمشكوك فيها.

المورد الوحيد الذي يجري فيه الاستصحاب من وجهة نظر صاحب الكفاية(قدس سره) هو «الموضوعات». أي إذا كان الشك متعلقاً بذات الموضوع نفسه وليس بالظروف المحيطة به، يمكن أن يجري الاستصحاب.

الاختلاف بين الشيخ(قدس سره) وصاحب الكفاية(قدس سره) يظهر بشكل واضح في المورد الثاني (الشك في الرافع):

يرى الشيخ(قدس سره) أن الاستصحاب يجري في هذا المورد، بمعنى أنه إذا شككنا في أن شيئاً قد أزال الحالة السابقة أم لا، يمكننا الاعتماد على الاستصحاب.

لكن صاحب الكفاية(قدس سره) يرفض هذا الرأي، ويقول إن العقل يحكم بعدم جريان الاستصحاب في هذا المورد، لأن الاتحاد بين القضية المتيقنة والمشكوك فيها غير متحقق في هذه الحالة.

وباختصار، يعتبر صاحب الكفاية(قدس سره) أن رأي الشيخ(قدس سره) بشأن جريان الاستصحاب في مورد «الشك في الرافع» غير مقبول وقابل للنقد. ومن وجهة نظره، العقل يؤيد جريان الاستصحاب فقط في مورد «الموضوعات».

قال صاحب الكفایة(قدس سره):

«لو كان مناط الاتّحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام، لقیام احتمال تغیّر الموضوع في كلّ مقام شك في الحكم بزوال بعض خصوصیات موضوعه، لاحتمال دخله فیه، و یختصّ بالموضوعات، بداهة أنّه إذا شك في حیاة زید شك في نفس ما كان على یقین منه حقیقةً»([1] [2] [3] ).

المناقشة الثانیة في نظریة الشیخ الأنصاري(قدس سره)

«إنّ عدم حجیة الاستصحاب عند الشك في المقتضي مفروغ عنه عنده(قدس سره) على كلّ حال، فما معنی تفریعه له على اعتبار الاتّحاد بنظر العقل؟»([4] [5] ).

جواب المحقّق النائیني(قدس سره) عن المناقشتین

«إنّ مراده من الرافع في المقام غیر الرافع في البحث المتقدّم في اختصاص الحجیة بموارد الشك في الرافع دون الشك في المقتضي.

توضیح ذلك: إنّ المتیقّن السابق قد یكون بحیث لایبقی بنفسه في عمود الزمان مع قطع النظر عن حدوث شيء أو ارتفاعه من الزمانیات، كخیار الغین، المردّد بین كونه فوریاً أو استمراریاً، فإنّه في الآن الثاني من الالتفات إلى الغبن یكون مشكوكاً لامحالة بنفسه و لو مع عدم تغیّر في شيء من الزمانیات أصلاً.

و قد یكون بحیث یكون له البقاء بحسبه، و لابدّ في ارتفاعه من حدوث أمر معدوم أو انعدام أمر موجود، و هذا كالنجاسة مثلاً، فإنّها متی وجدت لاترتفع إلا برافع من حدوث مطهّر أو زوال ما كان علّة لها.

فالقسم الأوّل هو الذي منع العلامة الأنصاري(قدس سره) عن جریان الاستصحاب فیه، و خصّ جریانه بالقسم الثاني المعبّر عنه بالشك في الراف

و أمّا مراده من الشك في الرافع في المقام فلیس ذلك، بل خصوص ما إذا كان الشك في بقاء الحكم ناشئاً من حدوث أمر خارجي غیر معتبر في الموضوع؛ كما إذا شك في بقاء النجاسة في مفروض المثال للشك في عروض المطهّر من جهة شبهة حكمیة أو موضوعیة، فالشك في بقاء نجاسة الماء المتغیّر بعد زوال تغیّره من قبیل الشك في الرافع المقابل للشك في المقتضي، و لیس من قبیل الشك في الرافع الذي خصّ جریان الاستصحاب به بناءً على اعتبار الاتحاد بنظر العقل»([6] ).

"المقصود بـ«الرافع» في هذا المقام يختلف عن «الرافع» في البحث السابق الذي ناقش اختصاص الحجية بحالات الشك في الرافع وعدم شمولها للشك في المقتضي.

توضيح المسألة:

اليقين السابق قد يكون على صورتين:

الصورة الأولى:

يقين سابق من النوع الذي لا يبقى بذاته عبر الزمن دون حدوث شيء أو رفعه في الأمور الزمانية. مثل خيار الغبن الذي يتذبذب بين كونه فورياً أو مستمراً. في اللحظة الثانية من ملاحظة الغبن، يصبح هذا اليقين مشكوكاً فيه بطبيعته، حتى لو لم يحدث أي تغيير في الأمور الزمانية.

الصورة الثانية:

يقين سابق من النوع الذي له قابلية البقاء بذاته، ولرفعه يحتاج إلى حدوث أمر جديد أو زوال أمر موجود. مثل النجاسة التي عندما تحصل، لا تزول إلا بوجود «رافع» كحدوث مطهر أو زوال علة النجاسة.

العلامة الأنصاري(قدس سره) نفى جريان الاستصحاب في الصورة الأولى (مثل خيار الغبن)، وخصص جريان الاستصحاب للصورة الثانية، والتي سماها شكاً في «الرافع».

لكن مقصوده من «الشك في الرافع» في هذا المقام هو حالة الشك في بقاء الحكم الناتج عن حدوث أمر خارجي غير معتبر في الموضوع فقط. مثل الشك في بقاء النجاسة في المثال المذكور، الناتج عن الشك في حدوث المطهر بسبب شبهة حكمية أو موضوعية.

وبالتالي، فإن الشك في بقاء نجاسة الماء المتغير بعد زوال التغير هو من نوع الشك في الرافع المقابل للشك في المقتضي، وليس من نوع الشك في الرافع الذي يخصص له جريان الاستصحاب حسب شرط الاتحاد عند العقل.

النتيجة:

الشيخ الأنصاري(قدس سره) قبل جريان الاستصحاب فقط في حالة «الرافع» بمعنى حدوث أمر جديد، أما في حالة زوال التغير (كمثال الماء المتغير)، لم يقل بجريان الاستصحاب."

إیراد المحقّق الخوئي علی جواب المحقّق النائیني

«الصحیح ما ذكره صاحب الكفایة(قدس سره) من أنّه لو التزمنا بالدقّة العقلیة، لما بقي مورد لجریان الاستصحاب في الشبهات الحكمیة، إذ الرافع التكویني في الأحكام الشرعیة غیر معقول، فإنّها من الاعتبارات التي وضعها و رفعها بید الشارع، فإذا شك في بقاء حكم شرعي بعد العلم بحدوثه لطروّ تغیّر في موضوعه، كان الشك راجعاً إلى اعتبار قید في بقاء الحكم بجعل الشارع و بعد البناء على أخذ الموضوع بالدقّة العقلیة، لایجري الاستصحاب لامحالة»([7] ).

ملاحظة علی إیراد المحقّق الخوئي(قدس سره)

إنّ الرافع هنا لیس رافعاً تكوینیاً بل الرافع تشریعي، فإنّ الشارع اعتبر الرافعیة الشرعیة لبعض الأمور بالنسبة إلى النجاسة و سمّاها بالمطهّرات، فهنا حدوثُ واقعةٍ أو فعل مثل ملاقاة الكرّ یوجب ارتفاع النجاسة و لكن الرافع لیس هو الواقعة المذكورة أو الفعل المذكور بل الرافع هو اعتبار الشارع مطهّریة هذه الأمور و بعد إیجاد أحد المطهّرات نری أنّ الشارع یرفع اعتبار النجاسة السابقة، فالطهارة و النجاسة اعتباران شرعیان وضعهما و رفعهما بید الشارع.

و التحقّق الخارجي لما كان مطهّراً باعتبار الشارع لایوجب تغیّراً في موضوع النجاسة السابقة فإنّ النجاسة السابقة اعتبار شرعي لم‌نشك في موضوعه و لم‌یحصل تغیّر في موضوعه و لكن الشارع اعتبر أموراً رافعة له فشككنا في حدوث الرافع إمّا بشبهة حكمیة و إمّا بشبهة موضوعیة.

فالرافع المذكور مشترك مع موارد الشك في النسخ من جهة عدم حصول التغیّر في الموضوع و قد أذعن السید المحقّق الخوئي(قدس سره) بذلك في استصحاب عدم النسخ إلا أنّه لایقول به كما تقدّم و قد أوردنا علیه فلانُعید.([8] )


[1] كفاية الأصول - ط آل البيت، الآخوند الخراساني، ج1، ص427..قال في ص428: «فالتحقيق أن يقال: إن قضية إطلاق‌ خطاب «لاتنقض» هو أن يكون بلحاظ الموضوع العرفي لأنه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفية و منها الخطابات الشرعية فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو الملحوظ في محاوراتهم لا محيص عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ فيكون المناط في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف و إن لم‌يحرز بحسب العقل أو لم‌يساعده النقل فيستصحب‌ ...»
[2] و تبعه المحقق البروجردي في الحاشية على كفاية الأصول، البروجردي، السيد حسين، ج2، ص446..و قال: «إنّما الكلام في أن الاتحاد المذكور هل هو بنظر العرف أو بحسب دليل الحكم أو بنظر العقل، فإن كان بنظر العقل فلا مجال للاستصحاب في الأحكام، بل إنّما يختص بالموضوعات، و لكن التحقيق أنّه يكون بنظر العرف، لأنّ قضية إطلاق خطاب «لاتنقض» أن يكون بلحاظ العرف لأنّه المنساق من الإطلاق في المحاورات العرفيّة، و منها الخطابات الشرعية فإنّ كلام الشرع منزّل على ما هو الملحوظ في محاورات العرف ما لم‌يقم دليل على خلافه، فتأمّل تعرف»
[3] استدل بعض الأساطین في رد نظریة الشیخ الأنصاري. بدلیلین:المغني في الأصول، ج2، ص318 : «أما عدم كونه العقل فلدلیلین: الأول: أنه لو كان المرجع في وحدة الموضوع هو العقل لوجب تخصیص الأكثر بحدّ الاستهجان ... الثاني: إن القاعدة الجاریة في الأحكام الشرعیة هو إلقاء أدلّتها إلى العرف، فهو الحكم فیها لا العقل...»
[5] مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص236.«يرد على ظاهر كلام الشيخ... أن الشيخ. قائل باختصاص جريان الاستصحاب بموارد الشك في الرافع، مع قطع النظر عن اعتبار وحدة الموضوع بالدقة العقلية، فلايلزم محذور من الالتزام بوحدة الموضوع بالدقة العقلية، مع أنه ذكر هذا الكلام ... استبعاداً للقول بلزوم بقاء الموضوع بالدقة العقلية»
[8] راجع عيون الأنظار، ج11، ص251.
logo