46/08/06
بسم الله الرحمن الرحیم
تنبیهات الاستصحاب؛ التنبیه العاشر: الشك في تقدم الحادث و تأخره/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب / تنبیهات الاستصحاب؛ التنبیه العاشر: الشك في تقدم الحادث و تأخره
القسم الرابع: عندما يكون الأثر مترتبًا على العدم بمفاد ليس التامة
القسم الرابع الذي ندرسه الآن يتعلق بحالة يكون فيها كلاهما مجهولي التاريخ. على سبيل المثال، يُطرح موضوع مركب من أمرين. أمر هو موت الشخص المورث، وهو محرز بالوجدان، وأمر آخر هو إسلام الوارث، حيث يُفترض أن هذا الإسلام قد تحقق بعد موت المورث. هذا الموضوع سيكون موضوع الإرث.
يجب هنا دراسة الموضوع بدقة أكبر. في هذه المسألة، يوجد موضوعان: أحدهما موضوع الإرث والآخر موضوع عدم الإرث.
موضوع الإرث
موضوع الإرث هو أن موت المورث واقعة محرزة الوقوع بالوجدان. وإسلام الوارث أيضًا واقعة محرزة الوقوع. ولكن النقطة التي يجب الانتباه إليها هي ألا يكون موت المورث قد تحقق حين إسلام الوارث. ولإثبات هذا الأمر، يجري استصحاب عدم موت المورث. وعليه، يجري استصحاب عدم موت المورث حتى حين إسلام الوارث. وبإجراء هذا الاستصحاب، سيتحقق موضوع الإرث.
موضوع عدم الإرث
في المقابل، يوجد موضوع آخر يسمى عدم الإرث سيتم تناوله لاحقًا في البحث. موضوع عدم الإرث هو ألا يكون إسلام الوارث قد حصل حين موت المورث. وبعبارة أخرى، أن يكون عدم إسلام الوارث ثابتًا حين موت المورث. وعليه، في حال وفاة المورث وعدم تحقق إسلام الوارث، يُعتبر هذا الموضوع موضوعًا لعدم الإرث.
فيما يلي، من الضروري دراسة كيفية المضي قدمًا في الاستصحاب، لأنه يوجد كل من موضوع الإرث وموضوع الحكم بعدم الإرث.[1]
النظرية الأولى من الشيخ الأنصاري(قدسسره): التعارض بين استصحابين
يقول المرحوم الشيخ الأنصاري(قدسسره) إننا نجري الاستصحاب، إلا أن الاستصحاب في أحد الحادثين يتعارض مع الاستصحاب في الطرف الآخر. هنا، لدينا استصحاب عدم موت المورث حتى زمن إسلام الوارث. إذا جرى هذا الاستصحاب، فإن الموضوع الذي يتحقق هو عدم موت المورث حتى زمن إسلام الوارث، وهذا الموضوع سيكون موضوع الإرث. بمعنى أن إسلام الوارث قد تحقق ثم وقع موت المورث.
من ناحية أخرى، يمكن إجراء استصحاب عدم إسلام الوارث أيضًا. في هذه الحالة، سيكون عدم إسلام الوارث حتى حين موت المورث موضوعًا لعدم الإرث. وعليه، يصبح عدم إسلام الوارث موضوعًا لعدم الإرث، ويكون عدم موت المورث حين إسلام الوارث موضوعًا للإرث. وبهذه الطريقة، عندما أسلم الوارث، لم يكن المورث قد توفي بعد، وهذا الموضوع سيصبح موضوع الإرث.
يقول الشيخ الأنصاري(قدسسره):
«و أمّا أصالة عدم أحدهما في زمان [حدوث] الآخر فهي معارضة بالمثل و حكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كل واحد من الأصلین»[2] .
أصالة عدم أحدهما في زمن حدوث الآخر معارضة بالمثل. بمعنى أن استصحاب عدم إسلام الوارث في زمن موت المورث يتعارض مع استصحاب عدم موت المورث في زمن إسلام الوارث.
يتحقق موضوع الإرث بواسطة الاستصحاب الأول، وموضوع عدم الإرث بواسطة الاستصحاب الثاني. وعليه، يتعارض الأصلان ويُحكم بالتساقط.
يقول الشيخ الأنصاري(قدسسره): هذا التعارض يكون في حالة ترتب الأثر على عدم كل من هذين الحادثين في زمن الآخر، كما أشاروا وقالوا: مع ترتب الأثر على كل واحد من الأصلين.
الفرق في نوع الحادث: الأفعال المستمرة وغير المستمرة
تقع هذه المسألة حيثما يكون الحادث من قبيل الأفعال التي يكون ملاك التلبس فيها هو الحدوث، مثل القتل. فالذي صدر منه القتل يُعتبر قاتلاً، ولو مضى على الحادثة عشرون عامًا.
ولكن خلافًا لذلك، في الحالات التي يكون فيها الحادث من قبيل ما كان التلبس بها بملاك الوجود، مثل الجود؛ فإن التلبس به يتوقف على الملكة. وخلافًا للحالات التي يكون فيها ملاك التلبس مثل القيام والقعود. ففي حالات مثل القيام والقعود، إذا كان شخص قد قام يوم الخميس، فلا يمكن إطلاق لفظ قائم عليه يوم الجمعة، لأنه قد يكون قد جلس أو نام في هذه الفترة.
أما في حالات مثل القتل أو الموت، فبتحققها مرة واحدة، يبقى ملاك التلبس إلى الأبد.
استصحاب العدم المحمولي وعدم التعارض
أما عندما يكون الأثر لعدم الحادث الأول، فلا مجال للتعارض. يجري الاستصحاب في العدم المحمولي دون أي معارض.
هذا يتعلق بالحالة التي يكون فيها الأثر لكلا الحادثين، كما أن أحدهما موضوع للإرث والآخر موضوع لعدم الإرث.
• عدم إسلام الوارث في زمن موت المورث هو موضوع لعدم الإرث.
• عدم موت المورث في زمن إسلام الوارث هو موضوع للإرث. عندما يكون لكليهما موضوع، يجري الاستصحاب في العدم المحمولي من غير معارض.[3]
النظرية الثانية: من صاحب الكفاية(قدسسره)
في هذه النظرية، يرى صاحب الكفاية(قدسسره) عدم جريان الاستصحاب لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين. كانت النظرية الأولى أن استصحابين يجريان ويتعارضان مع بعضهما، كما نُقل عن بيان الشيخ الأنصاري(قدسسره). أما النظرية الثانية فتقوم على أساس أن الاستصحاب لا يجري، لأن اتصال زمان الشك بزمان اليقين غير متحقق.
سبب عدم جريان الاستصحاب
يصل صاحب الكفاية(قدسسره) إلى هذه النتيجة بعد التزامه بعدم جريان الاستصحاب في العدم النعتي لفقدان الحالة السابقة. وقد دُرست هذه النقطة سابقًا وأُورد عليها نقض بأنه في مسألة المرأة القرشية، كان هو نفسه قائلاً بهذا الموضوع. والآن، يقول هنا إن أحد أركان الاستصحاب، وهو اليقين السابق، مفقود.[4] وقد طُرح هذا المطلب في بحث عدم الرابط الذي يطلق عليه اصطلاحًا «العدم النعتي». والآن هنا، قال أيضًا بعدم جريان الاستصحاب في «العدم المحمولي»، وهذا الأمر أيضًا بسبب اختلال أحد شروط جريان الاستصحاب. وهذا الشرط هو اتصال زمان الشك بزمان اليقين. وعليه، فكما لم يجرِ الاستصحاب في عدم الرابط، فإنه لا يجري هنا أيضًا.
بيان صاحب الكفاية(قدسسره) حول عدم جريان الاستصحاب
بيان صاحب الكفاية(قدسسره) في هذا الصدد هو كالتالي:
«و كذا [أي كما أنّ العدم النعتي لیس مورداً للاستصحاب كذلك العدم المحمولي] فیما كان مترتّباً على نفس عدمه في زمان الآخر واقعاً، و إن كان على یقین منه في آنٍ قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما؛ لعدم إحراز اتّصال زمان شكّه و هو زمان حدوث الآخر بزمان یقینه، لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه به.
و بالجملة كان بعد ذلك الآن الذي قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما زمانان: أحدهما زمان حدوثه، و الآخر زمان حدوث الآخر و ثبوته الذي یكون طرفاً للشك في أنّه فیه أو قبله، و حیث شك في أنّ أیّهما مقدّم و أیّهما مؤخّر لمیحرز اتّصال زمان الشك بزمان الیقین، و معه لا مجال للاستصحاب حیث لمیحرز معه كون رفع الید عن الیقین بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض الیقین بالشك»[5] .
فكما أن العدم النعتي لم يكن موردًا للاستصحاب، كذلك العدم المحمولي ليس موردًا للاستصحاب. يستخدم سماحته هنا عبارة «كذا». في العدم النعتي، لم يكن موردًا للاستصحاب لعدم وجود يقين سابق. أما في العدم المحمولي، فيوجد يقين سابق. ومع ذلك، فإن زمان اليقين غير متصل بزمان الشك. لذا يقول: «كذا فیما کان مترتّباً علی نفس عدمه فی زمان الآخر واقعاً». عندما يكون موضوع العدم في زمن ويستمر في زمن آخر، فعلى الرغم من وجود يقين بعدم حدوث كليهما في زمن قبل اليقين بحدوث أحدهما، إلا أن اتصال زمان الشك بزمان اليقين غير متحقق.
توضيح حول المثال
على سبيل المثال، في الزمن الأول (الأربعاء)، يوجد يقين بعدم حدوث كلا الحادثين؛ أي نعلم أن أيًا من الحادثتين لم تقع. ولكن في الزمن الثاني (الخميس)، يحصل يقين بحدوث إحداهما. هنا، الاستصحاب قابل للتطبيق. ولكن في الزمن الثالث (الجمعة)، لا يجري الاستصحاب. وهذا بسبب عدم إحراز اتصال زمان الشك (وهو زمن حدوث الحادثة الثانية) بزمان اليقين (وهو زمن حدوث الحادثة الأولى). فمن المحتمل أن يكون زمن حدوث الحادثة الثانية قد انقطع عن زمن اليقين بحدوث الحادثة الأولى.
تحليل الوضع يوم الجمعة
في يوم الجمعة، حيث من المؤكد أن موت المورث قد وقع، لا يمكن إحراز أن زمان اليقين كان متصلاً بزمان الشك. وبعبارة أخرى، لا يمكن التأكد مما إذا كان زمان الشك متصلاً بزمان اليقين أم منفصلاً عنه. بشكل عام، بعد الزمن الذي يقع قبل اليقين بحدوث أحد الحادثين (الأربعاء)، يُتصور زمانان: أحدهما زمن حدوث الحادثة الأولى والآخر زمن حدوث الحادثة الثانية.
في يوم الأربعاء، لم يقع أي من الحادثين. ولكن في يوم الخميس، حدث أحدهما، وفي يوم الجمعة، وقعت الحادثة الثانية. وعليه، لدينا زمانان: أحدهما زمن حدوث الحادثة الأولى والآخر زمن حدوث الحادثة الثانية. ولكن في يوم الجمعة، حيث لدينا يقين بوقوع موت المورث، يجب أن نجري استصحاب عدم إسلام الوارث في نفس ذلك الزمن لنتمكن من الاستفادة منه. لأن اليقين بموت المورث حاصل يوم الجمعة. فعلى الرغم من أنه قد يكون موت المورث قد وقع يوم الخميس، إلا أن يوم الجمعة هو بالتأكيد زمن وقوع موت المورث. وعليه، يجب أن يجري الاستصحاب يوم الجمعة. فالموضوع مركب ويجب إجراء استصحاب عدم إسلام الوارث في نفس الزمن الذي لدينا فيه يقين بموت المورث، لا في زمن آخر. وإلا، فلن يجري الاستصحاب في ذلك الزمن.
عدم إمكانية إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين
إذا شككنا في أيهما من الحادثين متقدم وأيهما متأخر، فلا يمكن إحراز أن زمان الشك متصل بزمان اليقين. وعليه، لا يبقى مجال لجريان الاستصحاب. لأنه لا يمكن إحراز أن اليقين بعدم حدوث أحد الحادثين قد انتهى إلى الشك في حدوثه. وبعبارة أخرى، لا يُحرز اتصال زمان اليقين بزمان الشك، ونتيجة لذلك، لن يجري الاستصحاب.
تحليل صاحب الكفاية(قدسسره) للأزمنة الثلاثة
لتوضيح هذا الرأي أكثر، يقول صاحب الكفاية(قدسسره) إنه يجب تصور ثلاثة أزمنة:
• الزمن الأول (الأربعاء): يوجد فيه يقين بعدم حدوث كلا الحادثين.
• الزمن الثاني (الخميس): يحصل فيه يقين بحدوث أحد الحادثين.
• الزمن الثالث (الجمعة): يوجد فيه يقين بحدوث كلا الحادثين.
في الزمن الأول، لم يقع أي من الحادثين. في الزمن الثاني، حدث أحدهما، وفي الزمن الثالث، وقع كلا الحادثين. ولكن لا يمكن معرفة أيهما من الحادثين وقع في الزمن الثاني وأيهما في الزمن الثالث. وعليه، لا يمكن إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
تطبيق النظرية على مسألة الإرث
في مسألة الإرث، تم تطبيق هذه النظرية كالتالي: موضوع عدم الإرث هو عدم إسلام الوارث حين موت المورث. ومن ناحية أخرى، موضوع الإرث هو عدم موت المورث حين إسلام الوارث. وعليه، يوجد موضوعان مختلفان: أحدهما موضوع الإرث والآخر موضوع عدم الإرث. لهذا السبب، ينشأ تعارض بين هذين الموضوعين. يقول صاحب الكفاية(قدسسره) إن استصحاب عدم إسلام الوارث بمفاد «ليس تامة» يجري. ولكن هذا الاستصحاب، في الزمن الثاني (الخميس)، ليس موضوعًا لعدم الإرث. لأنه في الزمن الثاني، لا نعلم بموت المورث. فمن الممكن أن يكون موت المورث قد وقع في الزمن الثالث (الجمعة). وعليه، يكون الاستصحاب في الزمن الثاني عديم الفائدة.
ضرورة استمرار الاستصحاب حتى الزمن الثالث
إذا أجرينا استصحاب عدم إسلام الوارث حتى الزمن الثالث (الجمعة)، يتحقق موضوع عدم الإرث. لأنه في الزمن الثالث، لدينا يقين بوقوع موت المورث. أما إذا أجرينا استصحاب عدم إسلام الوارث في الزمن الثاني فقط، فلن يكون لهذا الاستصحاب فائدة، لأن موضوع عدم الإرث هو عدم إسلام الوارث حين موت المورث، وموت المورث قد يكون قد وقع في الزمن الثالث. وعليه، يجب أن يستمر الاستصحاب حتى الزمن الثالث ليتمكن من إحراز موضوع عدم الإرث.
النتيجة: إشكال صاحب الكفاية(قدسسره)
في النهاية، إذا كان موت المورث قد وقع في الزمن الثاني، يجري استصحاب عدم إسلام الوارث في الزمن الثاني دون إشكال، لأن أركان وشروط الاستصحاب متحققة في هذه الحالة. أما إذا كان موت المورث قد وقع في الزمن الثالث، فلا يجري استصحاب عدم إسلام الوارث في الزمن الثالث، لأن اتصال زمان الشك بزمان اليقين لم يُحرز.
يقول المرحوم الآخوند(قدسسره): مع عدم اتصال الشك باليقين، قد لا تكون الحالة من موارد نقض اليقين بالشك، بل من موارد نقض اليقين باليقين، وفي هذه الحالة لا تشملها أدلة الاستصحاب.
طُرح هذا الإشكال من قبل صاحب الكفاية(قدسسره). وفيما يلي، سنتناول مناقشات المحقق الأصفهاني(قدسسره) على هذه النظرية وندرس وجهة نظره.[6]