« قائمة الدروس
بحث الأصول الأستاذ محمدعلي البهبهاني

46/07/04

بسم الله الرحمن الرحیم

 التنبیه الثامن؛ المطلب الأول/أصالة الاستصحاب /الأصول العملية

 

الموضوع: الأصول العملية/أصالة الاستصحاب / التنبیه الثامن؛ المطلب الأول

 

تكملة المطلب الأوّل: تبيين ثلاثة موارد ليست بأصل مثبت

في القسم السابق، بعد بيان المقدّمة المنطقيّة حول أقسام المحمولات، وصلنا إلى نتيجة أنّ المرحوم صاحب الكفاية(قدس‌سره) يعتبر المحمولات الذاتيّة (باب إيساغوجي) والمحمولات المنتزَعة من حاقّ الذات (سواء كانت ذاتيّ باب البرهان أم عرضيّاً خارج المحمول) «عين المستصحَب» ولا يعتبر الاستصحاب فيها أصلاً مثبتاً. والآن، بالاستفادة من تلك المقدّمة، ننتقل إلى تبيين ثلاثة مصاديق وموارد محدّدة اعتبرها المرحوم صاحب الكفاية وتبعه المحقّق الخوئي(قدس‌سرهما) خارجة عن دائرة الأصل المثبت. ومن الضروري التأكيد مجدّداً على هذه النكتة أنّ هذه الموارد الثلاثة ليست استثناءً من عدم حجّيّة الأصل المثبت (كموارد التنبيه السابع)، بل هي أساساً وماهيّةً لا تُعدّ مصداقاً للأصل المثبت. يقول المحقّق الخوئي(قدس‌سره):

«إنّ صاحب الكفایة(قدس‌سره) ذكر موارد و بنى على أنّ التمسّك بالأصل فیها لایكون تمسّكاً بالأصل المثبت:

الأوّل: جریان الاستصحاب في الفرد لترتّب الأحكام المترتّبة على الكلّي، فإنّ الأثر الشرعي و إن كان مترتّباً على الطبیعة الكلّیة، إلا أنّ الكلّي لایعدّ لازماً عقلیاً للفرد كي یكون الاستصحاب الجاري فیه لأجل ترتّب هذا الأثر من الأصل المثبت، بل الكلّي عین الفرد وجوداً و متّحد معه خارجاً، فإذا كان في الخارج خمر و شككنا في صیرورته خلّاً، فباستصحاب الخمریة نحكم بحرمته و نجاسته مع كون الحرمة و النجاسة من أحكام طبیعة الخمر، لأنّ الكلّي عین الفرد لا لازمه.

الثاني: جریان الاستصحاب في منشأ الانتزاع، فتترتّب علیه الأحكام المترتّبة على الأمور الانتزاعیة، و هي الأمور التي لیس بحذائها شيء في الخارج، و یعبّر عنها بخارج المحمول، كالملكیة و الزوجیة، فإنّ الأثر الشرعي و إن كان أثراً للأمر الانتزاعي، إلا أنّه حیث لایكون بحذائه شيء في الخارج، كان الأثر في الحقیقة أثراً لمنشأ الانتزاع.

و هذا بخلاف الأعراض التي تکون بأنفسها موجودة في الخارج و یعبر عنها بالمحمول بالضمیمة، فإذا كان الأثر أثراً لسواد شيء، لم‌یمكن ترتیبه على استصحاب معروضه على تقدیر كون السواد لازماً لبقائه دون حدوثه، فإنّه من أوضح مصادیق الأصل المثبت.

الثالث: جریان الاستصحاب في الجزء و الشرط، فتترتّب علیه الجزئیة و الشرطیة، فإنّ الجزئیة و الشرطیة و إن لم‌تكونا مجعولتین بالاستقلال، لكنهما مجعولتان بالتبع، و لا فرق في ترتّب الأثر المجعول على المستصحب بین أن یكون مجعولاً بالاستقلال أو بالتبع و لا فرق في ذلك بین أن یكون المستصحب وجودیاً أو عدمیاً»[1] .

المورد الأوّل: جريان الاستصحاب في الفرد لترتّب حكم الكلّيّ

هذا المورد هو من أكثر موارد جريان الاستصحاب شيوعاً وتطبيقاً. فكثير من الأحكام الشرعيّة مجعولة على الطبيعة الكلّيّة وماهيّة الأشياء، لا على الأفراد والمصاديق الخارجيّة. والآن لو شككنا في بقاء فرد خارجيّ، فهل يمكننا باستصحاب بقاء ذلك الفرد ترتيب الحكم المترتّب على الكلّيّ؟ الجواب إيجابيّ، وهذا العمل ليس أصلاً مثبتاً. لأنّ العلاقة بين «الفرد» و«الكلّيّ» ليست علاقة «الملزوم» و«لازمه العقليّ» حتى يكون استصحاب الفرد لإثبات الكلّيّ أصلاً مثبتاً. بل إنّ العلاقة بينهما هي علاقة «العينيّة في الوجود» و«الاتّحاد في الخارج». فالكلّيّ ليس له وجود مستقلّ عن وجود فرده؛ فوجود الكلّيّ يتحقّق تماماً بعين وجود فرده في الخارج.

ولتوضيح المطلب، لنلتفت إلى هذا المثال: لقد حكم الشارع المقدّس بحرمة ونجاسة «طبيعة الخمر». والآن، لدينا سائل خارجيّ كان يقيناً فرداً من الخمر، ولكنّنا الآن نشكّ فيما إذا كان قد تحوّل إلى خلّ أم لا. فهنا نستصحب «فرديّة» هذا السائل للخمر؛ أي نستصحب أنّ هذا السائل لا يزال هو نفس الفرد السابق من الخمر. وبمجرّد جريان هذا الاستصحاب، نحكم على الفور بحرمته ونجاسته. فمع أنّ الحرمة والنجاسة هما من أحكام «طبيعة الخمر الكلّيّة»، إلّا أنّه بما أنّ الكلّي عين الفرد وليس له وجود منفصل عنه، فإنّ استصحاب بقاء الفرد هو بمنزلة استصحاب بقاء نفس الكلّيّ، وترتّب حكمه يتمّ من دون أيّ واسطة، وليس أصلاً مثبتاً أبداً.

المورد الثاني: جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع لترتّب حكم الأمر الانتزاعيّ

هذا المورد ناظر إلى «الأمور الانتزاعيّة»؛ أي المفاهيم التي ليس لها ما بإزاء خارجيّ مستقلّ وهي مجرّد عناوين ينتزعها الذهن من منشأ خارجيّ، كـ«الملكيّة» و«الزوجيّة» و«الفوقيّة» وأمثالها. وهذه الأمور، التي عُبِّر عنها في البحث التمهيدي بـ«خارج المحمول»، ليس لها وجود مستقلّ في الخارج، بل هي قائمة بمنشأ انتزاعها.والآن، لو ترتّب أثر شرعيّ على أحد هذه الأمور الانتزاعيّة، فما هو التكليف؟ وهل يمكننا باستصحاب بقاء «منشأ الانتزاع» ترتيب ذلك الأثر؟ الجواب إيجابيّ مرّة أخرى، وهذا العمل ليس أصلاً مثبتاً. لأنّه عندما لا يكون للأمر الانتزاعيّ ما بإزاء خارجيّ مستقلّ، فإنّ أثره الشرعي في الحقيقة هو أثر نفس «منشأ الانتزاع». وبعبارة أخرى، فعندما نقول إنّ النفقة واجبة على «الزوجيّة»، فإنّ النفقة في الواقع واجبة على تلك العلاقة الخاصّة الموجودة بين فردين (الزوج والزوجة). بناءً عليه، فلو شككنا في بقاء تلك العلاقة ومنشأ الانتزاع، لأمكننا استصحابها وتبعاً لذلك ترتيب الحكم المترتّب على العنوان الانتزاعي «الزوجيّة» أيضاً. فالاستصحاب هنا يجري مباشرةً في نفس ذلك المنشأ الخارجي، وترتّب الأثر يتمّ من دون واسطة.

النقطة المقابلة: المحمول بالضميمة

يقع هذا المورد تماماً في مقابل «المحمولات بالضميمة» التي أُشير إليها في المقدّمة. ففي المحمول بالضميمة، نتعامل مع عرض خارجيّ وموجود. فمثلاً، لنفرض أنّ أثراً شرعيّاً يترتّب على «أسود» (كونه أسود) جدارٍ ما. والآن لو لم نشكّ في بقاء نفس الجدار ولكن شككنا في بقاء لونه الأسود، لما أمكننا باستصحاب «وجود الجدار» ترتيب الحكم المترتّب على «كونه أسود». ولماذا؟ لأنّ «كونه أسود» هو عنوان منتزَع من ضمّ عرض خارجيّ هو «السواد» إلى جوهر هو «الجدار». فاستصحاب الجدار بمفرده لا يمكنه إثبات وجود عرض السواد حتى يثبت تبعاً له العنوان الانتزاعي «أسود». وهذا العمل هو من أوضح مصاديق الأصل المثبت. والفرق المفصلي هو أنّه في الملكيّة والزوجيّة، ليس لنفس العنوان الانتزاعي وجود خارجيّ، أمّا في مثال الجدار، فلِعرضِ «السواد» وجود خارجيّ مستقلّ.

المورد الثالث: جريان الاستصحاب في الجزء والشرط لترتّب حكم الجزئيّة والشرطيّة

المورد الثالث يتعلّق بأجزاء وشروط مركّب شرعيّ (كالصلاة). فالعناوين كـ«الجزئيّة» و«الشرطيّة» ليست مجعولة استقلاليّة من الشارع؛ أي ليس للشارع حكم مستقلّ اسمه «وجوب الجزئيّة». بل إنّ هذه العناوين تُنتزَع تبعاً لجعل ذلك المركّب. فعندما يقول الشارع: «صلِّ مع السورة»، تُجعل جزئيّة السورة للصلاة تبعاً لهذا الأمر نفسه.

والآن، لو شككنا في بقاء أحد الأجزاء أو الشروط، فمثلاً لو شككنا فيما إذا كانت طهارتنا التي هي شرط للصلاة باقية أم لا، لأمكننا استصحاب «وجود الطهارة». وبمجرّد جريان هذا الاستصحاب، يمكننا الحكم بصحّة الصلاة. فهل هذا أصل مثبت؟ أي هل أثبتنا «شرطيّتها» باستصحاب «الطهارة» لنرتّب بعد ذلك حكم الصحّة؟ الجواب سلبيّ. فالمرحوم صاحب الكفاية يعتقد أنّه لا فرق في كون الأثر الشرعي مجعولاً استقلاليّاً أو مجعولاً تبعيّاً. فـ«الشرطيّة»، وإن كانت مجعولة بالتبع، إلّا أنّها أثر شرعيّ مباشر لنفس «الطهارة». وعليه، فإنّ استصحاب وجود الشرط يستتبع مباشرةً أثره الشرعي الذي هو نفس الكفاية لصحّة العمل، ولا حاجة إلى توسيط العنوان الانتزاعي «الشرطيّة». وهذه القاعدة تجري سواء كان مستصحبنا أمراً وجوديّاً (كاستصحاب الطهارة) أم أمراً عدميّاً (كاستصحاب عدم القاطع في الصلاة).

وتبيّن هذه الموارد الثلاثة بوضوح كيف يمكن، بتحليل دقيق للعلاقة بين المستصحَب والأثر، إخراج كثير من الموارد التي قد تبدو في النظرة الأولى أصلاً مثبتاً، من دائرة ذلك، والإفتاء بحجّيّة الاستصحاب فيها.

التحقيق في المورد الأوّل (جريان الاستصحاب في الفرد وترتّب حكم الكلّيّ)

بعد أن بيّنا إجمالاً الموارد الثلاثة التي لا تُعدّ أصلاً مثبتاً من وجهة نظر صاحب الكفاية، حان الوقت الآن لننتقل إلى تحقيق وبحث كلّ واحد من هذه الموارد بشكل أدقّ. ونبدأ البحث بالمورد الأوّل، أي «جريان الاستصحاب في الفرد لترتّب أحكام الكلّيّ».

قبول أصل المدّعى ونقد دليل صاحب الكفاية(قدس‌سره) (رأي الأستاذ)

إنّ أصل مدّعى المرحوم صاحب الكفاية(قدس‌سره) في هذا المورد تامّ وصحيح تماماً؛ أي إنّنا نقبل بأنّه باستصحاب بقاء «فرد» ما، يمكن ترتيب الأحكام الشرعيّة المترتّبة على «الكلّيّ» عليه، وأنّ هذا العمل ليس أصلاً مثبتاً. ولكنّ النكتة المهمّة هي في «وجه» و«دليل» هذا المدّعى. فقد اعتبر صاحب الكفاية(قدس‌سره) أنّ دليل هذا الأمر هو «عينيّة واتّحاد وجود الكلّيّ والفرد في الخارج». ونحن نعتقد أنّ هذا الدليل، وإن كان صحيحاً بذاته، إلّا أنّه ليس الدليل الأصلي والجذري لترتّب الأثر في مقام الإثبات والاستنباط الفقهي.

وتحقيق المطلب هو أنّ الأحكام الشرعيّة أساساً تُجعل في الحقيقة لـ«الأفراد»، لا لـ«الطبيعة الكلّيّة». فعندما يقول الشارع «الخمر حرامٌ»، فالمقصود هو حرمة كلّ فرد ومصداق خارجيّ من الخمر. فـ«الكلّيّ»، في لسان الدليل، هو مجرّد «عنوان مشير» و«مرآة» يُسرى الحكم بواسطتها إلى جميع الأفراد تحت غطائها. وهذا هو نفس معنى «انحلال الحكم» حيث نقول إنّ حكماً كلّيّاً ينحلّ إلى أحكام جزئيّة بعدد أفراده. بناءً عليه، فعندما نستصحب بقاء فرد خارجيّ من الخمر، فإنّنا في الواقع نستصحب الموضوع الحقيقي للحكم (وهو نفس الفرد) ولا حاجة إلى توسيط «الكلّيّ» والتمسّك بـ«عينيّته» مع الفرد. فمع أنّ النتيجة واحدة، إلّا أنّ مسار الاستدلال مختلف وأدقّ.[2]

بیان المحقّق الإصفهاني(قدس‌سره)

في غضون ذلك، يتناول المرحوم المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره)، الذي هو من أدقّ محقّقي علم الأصول، نقد دليل صاحب الكفاية(قدس‌سره) بنظرة موشّحة جدّاً ويوضّح أبعاداً جديدة من البحث. فهو أيضاً يقبل بأصل المدّعى ولكنّه يتحدّى دليل «العينيّة». يقول(قدس‌سره):

«إنّ عینیة وجود الطبیعي و وجود فرده أجنبیة عن مقام التعبّد بأثر الكلّي، فإنّهما متّحدان بحسب وجودهما الخارجي، لا بحسب وجودهما التعبّدي، و لیس في التعبّد بموضوذي أثر- جعل الموضوع حقیقةً، حتّی یكون جعل الفرد جعل الطبیعي المتّحد معه، و لیس أثر الكلي بالنسبة إلى أثر الفرد طبیعیاً بالإضافة إلى فرده ... فالتعبّد بالفرد تعبّد بالكلي، و التعبّد بالكلّي ليس تعبّداً بالفرد هذا كلّه إن كان المستصحب موضوعاً ذا أثر، و كان كلّیاً تارة و فرداً أخری.

و أمّا إن كان المستصحب حكماً، فالتعبّد بالفرد معناه جعله حقیقةً و من الواضح أنّ جعل الوجوب مثلاً جعل الطلب حقیقةً، فحدیث عینیة الطبیعي و فرده مفید هنا»[3] [4] .

أن تقول إنّ الكلّي والفرد هما عين بعضهما البعض في الوجود الخارجي هو قول صحيح، ولكنّ هذه «العينيّة الوجوديّة» هي أمر خارجيّ وتكوينيّ ومختلفة وأجنبيّة تماماً عن مقام «العينيّة في الوجود التعبّدي» الذي نتعامل معه في باب الأصول العمليّة. ففي الاستصحاب، نواجه «جعلاً» و«تعبّداً» من الشارع، لا خلقاً وإيجاداً حقيقيّاً. فعندما يعبّدنا الشارع ببقاء موضوع ما، فليس معنى ذلك أنّه قد أوجد ذلك الموضوع حقيقةً في الخارج حتى نقول إنّه بما أنّه قد أوجد الفرد، فقد أوجد إذن الكلّي الذي هو عينه أيضاً.

ولفهم كلامه بشكل أفضل، يجب أن نفرّق بين حالتين:

١. لو كان المستصحَب هو نفس «الحكم الشرعي»: فهنا يكون كلام صاحب الكفاية(قدس‌سره) والاستدلال بالعينيّة مفيداً ومجدياً. لأنّ التعبّد بحكم ما هو بمعنى «الجعل الحقيقي» لذلك الحكم في عالم الاعتبار. فعندما يعبّدنا الشارع ببقاء الوجوب، يعني أنّه قد جعل الطلب والوجوب حقيقةً في عالم الاعتبار. وفي هذا الفضاء، تجد عينيّة طبيعة الطلب مع فرده معنى.

٢. لو كان المستصحَب هو «موضوع الحكم الشرعي»: فهنا محلّ إشكال المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره). فالتعبّد ببقاء «موضوع» ما (كبقاء خمريّة هذا السائل) ليس بمعنى الجعل الحقيقي لذلك الموضوع في الخارج. فالشارع يأمرنا فقط بأن «نبني على بقاء هذا الفرد بكلّ خصوصيّاته». وهذا التعبّد بالفرد ليس جعلاً حقيقيّاً للفرد حتى نقول إنّ الكلّيّ المتّحد معه قد جُعل أيضاً.

النكتة المفصليّة والجملة الذهبيّة للمحقّق الأصفهاني(قدس‌سره)

تتلخّص ذروة دقّة المرحوم الأصفهاني(قدس‌سره) في هذه الجملة حيث قال: «فالتعبّد بالفرد تعبّد بالكلّي، والتعبّد بالكلّي ليس تعبّداً بالفرد». فهذه علاقة أحاديّة الاتّجاه، لا تساوي وعينيّة ثنائيّة الاتّجاه.

توضيح القسم الأوّل (التعبّد بالفرد تعبّد بالكلّي):

هذا القسم واضح. فعندما نتعبّد ببقاء «فرد» (كزيد مثلاً)، فبما أنّ طبيعة «الإنسان» متحقّقة في ضمن وجود زيد، فقد تعبّدنا قهراً ببقاء «كلّيّ الإنسان» أيضاً. وعليه، فباستصحاب الفرد، يمكن ترتيب حكم الكلّيّ.

توضيح القسم الثاني (والتعبّد بالكلّي ليس تعبّداً بالفرد):

أمّا عكس ذلك فليس بصادق. فلو تعبّدنا ببقاء «كلّيّ الإنسان»، لما كان هذا التعبّد مستلزماً للتعبّد ببقاء «فرد خاصّ» (كزيد مثلاً). لأنّه من الممكن أن يكون ذلك الكلّيّ موجوداً في ضمن فرد آخر (كعمرو مثلاً). فلو كان الكلّيّ والفرد «عين» بعضهما البعض حقّاً، لوجب أن تكون هذه العلاقة ثنائيّة الاتّجاه.

بناءً عليه، يستنتج المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره) أنّ دليل ترتّب أثر الكلّيّ على استصحاب الفرد ليس هو «العينيّة»، بل هو أنّ الطبيعة موجودة في ضمن فردها، والتعبّد بالفرد يستتبع قهراً التعبّد بالطبيعة الموجودة في ضمنه أيضاً. وهذا التحليل، وإن كان ينتهي في النهاية إلى نفس نتيجة صاحب الكفاية(قدس‌سره)، إلّا أنّه يصحّح مسار الاستدلال بدقّة أعلى بكثير ويبيّن أنّه لا ينبغي إسراء مفاهيم عالم التكوين (العينيّة الخارجيّة) ببساطة إلى عالم الاعتبار والتعبّد (الجعل الأصولي).

تحقيق الحال في المورد الثاني

ننتقل الآن إلى البحث الأدقّ للمورد الثاني من الموارد الثلاثة، أي «جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع لترتّب حكم الأمر الانتزاعيّ». وهذا المورد، كما أُشير، هو من المباحث الدقيقة والمهمّة جدّاً التي يتطلّب فهمها تحليلاً عميقاً للعلاقة بين «العنوان» و«المعنون» وأقسامها المختلفة. وفي هذا القسم، سنبحث هذه المسألة بالاستفادة من البيان الدقيق للمرحوم المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره).

المقدّمة التحليليّة للمحقّق الأصفهاني(قدس‌سره): أقسام علاقة الموضوع والمستصحَب

لتوضيح البحث، يقدّم المرحوم المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره) أوّلاً تقسيماً أساسيّاً للنسبة بين «موضوع الحكم» و«المستصحَب». فيقول إنّ هذه النسبة لا تخرج عن حالتين:

١. نسبة «الطبيعيّ» إلى «الفرد»: أحياناً يكون موضوع الحكم طبيعة كلّيّة ومستصحبنا فرداً من تلك الطبيعة. كـ«الإنسان» بالنسبة لـ«زيد» و«عمرو»، أو «الماء» بالنسبة لمصاديقه الخارجيّة. وهذا هو نفس المورد الأوّل الذي بُحث بالتفصيل في القسم السابق ويرجع إلى «ذاتيّات باب إيساغوجي».

٢. نسبة «العنوان» إلى «المعنون»: أحياناً يكون موضوع الحكم «عنواناً» ومستصحبنا «معنونَ» ذلك العنوان. كعنوان «عالم» بالنسبة للشخص والفرد المتّصف بالعلم. فهنا، لم نعد نتعامل مع ذاتيّات باب إيساغوجي، بل نواجه عناوين تعرض على ذات. وكلّ بحثنا الدقيق في هذا القسم هو حول تحليل هذه «العناوين» نفسها.

البحث الدقيق لـ«العناوين» وأقسامها الأربعة

لفهم البحث بعمق، يجب أن نفرّق بين الأقسام المختلفة لـ«العناوين» التي تُحمل على ذات. فبنظرة شاملة ودقيقة، يمكن تقسيم العناوين إلى أربعة أقسام رئيسيّة:

١. العنوان الذاتي باب إيساغوجي: كما أُشير، يمكن النظر إلى ذاتيّات باب إيساغوجي أيضاً من منظور «عنوان انتزاعيّ». فعندما ننظر إلى ذات «زيد»، يُنتزَع عنوان «إنسان» أو «ناطق» من حقيقته وذاته. فهنا، العنوان هو عين الذات.

٢. العنوان الذاتي باب البرهان: يُنتزَع هذا العنوان من حاقّ الذات ومن دون ضميمة خارجيّة وهو لازم ذاتيّ لها. كعنوان «ممكن» الذي يُنتزَع من ماهيّة الإنسان.

٣. العنوان خارج المحمول من صميمه: يُنتزَع هذا العنوان أيضاً من حاقّ الذات ومن دون ضميمة خارجيّة، ولكنّه أمر «عرضيّ»، لا ذاتيّ. كـ«الوجود» و«الوحدة» و«التشخّص» التي تُنتزَع من الماهيّة الموجودة. فهذه العناوين الثلاثة (الوجود، والوحدة، والتشخّص) تُنتزَع من داخل نفس الماهيّة بمجرّد وجودها، ولكنّها ليست جزءاً من الذات (الماهيّة).

٤. العنوان المحمول بالضميمة: لا يُنتزَع هذا العنوان من نفس الذات بمفردها، بل يُحمل عليها بواسطة ضمّ أمر خارجيّ إلى الذات. كعنوان «عالم» الذي يُطلق على الذات بواسطة ضمّ كيف نفساني هو «العلم»، أو عنوان «أسود» الذي يُطلق على الجسم بواسطة ضمّ عرض «السواد».

فهذه الأقسام الأربعة تغطّي الطيف الكامل للعناوين التي نتعامل معها.

تحليل قيام العناوين بالذات: القيام الانتزاعيّ والقيام الانضماميّ

يواصل المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره) في تحليله، فيقسّم هذه العناوين (الأقسام الثلاثة الأخيرة الخارجة عن ذاتيّات باب إيساغوجي) بناءً على كيفيّة «قيام» مبدئها بالذات إلى قسمين:

القيام الانتزاعيّ: في هذه الحالة، ليس لمبدأ العنوان وجود مستقلّ عن الذات وهو قائم بها على نحو انتزاعيّ فقط. كـ«الفوقيّة» بالنسبة لـ«السقف». فالفوقيّة ليست وجوداً منفصلاً التصق بالسقف. وهذا النوع من القيام يشمل هو نفسه قسمين:

     ذاتيّ (باب البرهان): وفيه يكفي مجرّد وضع الذات للانتزاع ويُعدّ من لوازم الذات. كـ«الإمكان» للماهيّة الممكنة.

     عرضيّ (خارج المحمول من صميمه): وهو أمر عرضيّ. كـ«الأُبُوَّة» لزيد. فالأبوّة ليست وجوداً مستقلاً، بل تُنتزَع من علاقة خاصّة.

القيام الانضماميّ: في هذه الحالة، لمبدأ العنوان وجود خارجيّ متأصّل ومستقلّ قد «ضُمّ» و«انضمّ» إلى الذات. وهذا القسم هو دائماً وبالقول المطلق «عرضيّ». كـ«البياض» الذي يُضمّ إلى الجسم.

بناءً عليه، يمكن القول باختصار: إنّ «القيام الانتزاعيّ» أعمّ من الذاتي والعرضي، أمّا «القيام الانضماميّ» فهو دائماً عرضيّ ومصداقه هو نفس «المحمول بالضميمة».

وهذه المقدّمة الدقيقة والفنّيّة جدّاً هي أرضيّة يهيّئها المرحوم المحقّق الأصفهاني(قدس‌سره) للدخول في نقد كلام صاحب الكفاية(قدس‌سره) وتقديم نظريّته النهائيّة. وسيبيّن بهذه التفكيكات ما إذا كان يمكن حقّاً التفريق بين «خارج المحمول» و«المحمول بالضميمة» في بحث الاستصحاب أم لا؛ وهو بحث سنتناوله إن شاء الله.

إیراد المحقّق الإصفهاني(قدس‌سره) علیه

يقول(قدس‌سره):

«إنّ موضوع الحكم بالإضافة إلى المستصحب تارة یكون طبیعیاً بالنسبة إلى فرده، كالإنسان بالإضافة إلى زید و عمرو، و كالماء و التراب بالإضافة إلى مصادیقهما و أخری یكون عنواناً بالإضافة إلى معنونه، كالعالم بالنسبة إلى العالم بالحمل الشائ

و ربّما یعبّر عن الأوّل بالعنوان المنتزع عن مرتبة الذات، نظراً إلى تقرر حصّة من الطبیعي في مرتبة ذات فرده، فالعنوان المقابل للطبیعي حقیقة هو العنوان الذي یكون مبدؤه خارجاً عن مرتبة الذات و لیس ذاتیاً بمعنی ما یأتلف منه الذات بل یكون قائماً بها، إمّا بقیام انتزاعي، كالفوقیة بالنسبة إلى السقف، أو بقیام انضمامي كالبیاض بالإضافة إلى الجسم.

و ما یكون قائماً بقیام انتزاعي ربّما یكون ذاتیاً في كتاب البرهان، أي یكفي وضع الذات في انتزاعه؛ كالإمكان بالإضافة إلى الإنسان مثلاً، و لایكون إلا في الحیثیات اللازمة للذات، كالإمكان لذات الممكن و كالزوجیة للأربعة، و ربما یكون عرضیاً بقول مطلق كالأبوّة لزید و الفوقیة للجسم.

و أمّا ما یكون له قیام انضمامي فهو عرضي بقول مطلق دائماً.

... .

 


[2] راجع مصباح الأصول( مباحث حجج و امارات- مكتبة الداوري)، الواعظ الحسيني، السيد محمد؛ تقرير بحث السيد أبو القاسم الخوئي، ج2، ص171: «أما ما ذکره أولاً من جریان الاستصحاب في الفرد فهو مما لا إشکال فیه ... إلا أن جریانه في الفرد لیس مبنیاً على ما ذکره من اتحاد الکلي و الفرد خارجاً بل الوجه فیه إن الأثر أثر لنفس الفرد لا للکلي ... و إلا فالکلي بما هو لا حکم له و إنما یؤخذ في موضوع الحکم لیشار به إلى أفراده ...».و أجاب عنه بعض الأساطین. في المغني في الأصول، الإستصحاب، ج2، ص176-180:‌ «و یُجاب عنه أولاً: بأن قوله: (إن الکلي من حیث أنه کلي أو الطبیعة من حیث هی لیست موضوعاً للأحکام الشرعیة) هو مبني المحقق الخراساني ... فلیس مراد المحقق الخراساني من کون الأثر مترتباً على الکلي أنه مترتب علیه بما هو کلي ... ثانیاً: أنه [المحقق الخوئي(قدس‌سره)] نفسه صرّح فی مبحث تعلق الأوامر بالطبایع أو بالأفراد بأنها متعلقة بالطبایع ... بینما قال هنا: بأن الحکم ثابت للأفراد و الطبیعة مرأة إلیه و ما ذکره هنا باطل فإن متعلق الأوامر و النواهي مطلقاً هو الوجود السعي للطبیعة ... و بالجملة إن ما أفاده في الإشکال على المحقق الخراساني(قدس‌سره) مناقض لمبنی المحقق الخراساني و لمبناه نفسه في بحث تعلق الأحکام بالطبایع و الأفراد، و في بحث إستصحاب الکلي القسم الثاني»
[4] . هنا نذکر بیان بعض الأعلام حول هذه المسألة: بیان السید المحقق الصدر) في بحوث في علم الأصول، الهاشمي الشاهرودي، السيد محمود، ج6، ص205.: «فنقول: تارةً يراد بالفرد واقع الوجود العيني الذي لا‌يمكن إدراكه و لا‌يمكن مجيئه إلى الذهن، و أخرى يراد به المفهوم الجزئي كمفهوم زيد مثلاً، فإن أريد الأول كان من الواضح أن الاستصحاب لا‌يجري فيه لأنّ موضوعه‌ ما يكون مصبّاً لليقين و الشك و هو المفاهيم لا الأعيان الخارجية، و إن أُريد الثاني فتارة: يفرض أنّ المفهوم الجزئي مركب من تجميع مفاهيم عديدة منها ذلك العنوان الكلي، فزيد عبارة عن ذلك الإنسان الطويل الأبيض الجالس في هذا المكان مثلًا، و أخرى: يفرض عدم اشتمال المفهوم الجزئي على المفهوم الكلي بل هو مفهوم آخر في عرضه ينطبقان معاً على العين الخارجية كعنوان المولود في الساعة الفلانية مثلًا الذي لا‌يستبطن مفهوم الإنسان و إن كان صادقاً عليه. ففي الفرض الثاني لا‌يمكن إثبات الأثر المترتب على الكلي بإجراء الاستصحاب في العنوان الآخر لأنه من استصحاب عنوان لإثبات أثر عنوان آخر اتّفق اجتماعهما في الصدق و هو من أوضح أنحاء الأصل المثبت، فلا‌يبقى إلّا الفرض الأول و هو مستبطن لليقين بالعنوان الكلي فيكون الاستصحاب بحسب الحقيقة استصحاباً لنفس ذلك العنوان الكلي، اللهم إلّا إذا فرض ترتب أثر على العناوين الأخرى المنضمة فيجري الاستصحاب فيها أيضاً بلحاظه‌».بیان بعض الأساطین. في المغني في الأصول، الإستصحاب، ج2، ص181: «... کما أن الکلي و الفرد متحدان وجوداً فهما متحدان إدراكاً و تصوراً و یقیناً و شکاً ... و علیه فمتعلق الیقین و الشك هو نفس الکلي و هو ذو الأثر بوجوده السعي لا بما هوهو، فهو بنفسه المستصحب و لایرد إشکال المثبتبة لأن ملاکه أن یستصحب الفرد فیثبت الکلي باللازم، و یرتب الأثر علیه، بینما المستصحب على ما صورناه هو نفس الکلي، و ترتب الإثر علیه بالمباشرة»
logo