< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ هادي آل راضي

بحث الفقه

40/08/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: كتاب الإعتكاف، مسألة ٣٢ لو غصب مكاناً من المسجد

رجوع الى المسألة السابقة

ذكرنا في مسألة (ما اذا وجب على المعتكف الخروج من المسجد ولم يخرج) ان السيد الماتن (قده) ذهب الى بطلان اعتكافه، وقلنا بأن هذا هو الأقرب بحسب ما نراه. هنا توجد نكتة لم نبينها في الدرس السابق وهي اننا اذا لاحظنا وجوب الخروج للاغتسال وفي قباله وجوب اللبث في المسجد بسبب كونه معتكفاً فإنهما وجوبان متزاحمان لا يمكن للمكلف أن يمتثلهما معاً، فإذا فرضنا ان وجوب الخروج للاغتسال أهم -ولذا اوجب الشارع عليه الخروج لأجل الاغتسال- فحينئذ يكون وجوب الخروج فعلياً في حق المكلف، لكن فعليته لا تعني سقوط الأمر باللبث في المسجد (وهو المهم) مطلقاً، بل يسقط الأمر باللبث سقوطاً معلقاً على الإشتغال بالخروج، فإذا اشتغل بالخروج لا أمر باللبث في المسجد، لكن اذا لم يشتغل بالخروج وبقي في المسجد هنا يكون مأموراً باللبث، فسقوط الأمر باللبث مشروط بالخروج. وهذا من قبيل الصلاة مع الإزالة، فان الصلاة (وهي الضد المهم) تجب بشرط عدم الإشتغال بالإزالة (التي هي الضد الأهم)، لأن الأمر بالصلاة لم يسقط مطلقاً بل سقط سقوطاً مراعىً بالإشتغال بالإزالة.

ويترتب على هذا في محل الكلام ان المكلف في هذا الزمان الذي يستلزمه الخروج والإغتسال -والذي كان يجب عليه ان يخرج فيه ولكنه لم يمتثله- مأمور باللبث في المسجد، فيكون هذا الزمان جزءً من الاعتكاف، واذا كان كذلك يبطل لانه محرم لفرض كونه مجنباً، واذا بطل يبطل اصل الإعتكاف لفرض كونه جزءً منه.

 

نعود الى مسألة ٣٢

ذكرنا فيها ان صدق الغصب في المقام فيه نوع من المسامحة، إذ الغصب هو الإعتداء على ما يملكه الغير أو الإستيلاء على مال الغير من دون رضاه، والحال أن المساجد غير مملوكة لشخص؛ فالمقصود من الغصب هو ما ذكره في المتن من إزالة حق الغير الثابت له بالسبق، والأدلة تدل على ثبوت هذا الحق، فإن من يجلس في مكان له حق الأسبقية فيه؛ فيقع الكلام في انه اذا أزال شخص آخرَ له حق الأسبقية وجلس فيه معتكفاً فهل يصح منه الإعتكاف او لا يصح؟

في اصل المسألة هناك مسلمات لا اشكال فيها، منها انه من سبق الى مكان في المسجد فهو أحق به ما دام جالساً فيه من دون فرق بين ان يكون جلوسه للصلاة او لقراءة القرآن او للدرس او التدريس او الإفتاء؛ ومنها انه يزول هذا الحق عن المكان الذي سبق اليه اذا قام رافعاً يده و معرضاً عنه، ولذا يجوز للاحق ان يشغله، فلو فرضنا ان السابق عاد بعد ذلك الى هذا المكان ووجد انه مشغول فلا يجوز له مزاحمة الشاغل. وهناك كلام في انه اذا قام ناوياً للعود او قام وقد ترك رحله في المكان هل يزول حقه او لا؟ وهذا ما لا نريد الدخول فيه.

فنفترض ان هناك من هو صاحب حق في المسجد وجاء شخص وأزاله عن هذا المكان واعتكف فيه فهل يصح اعتكافه او لا؟ وهذا الكلام كما يجرى في الإعتكاف يجري في الصلاة أيضاً، والمسألة يوجد فيها قولان، قول بالبطلان وآخر بعدم البطلان، وممن إختار عدم البطلان الشيخ صاحب الجواهر تبعاً للسيد بحر العلوم الذي ذكر ذلك في منظومته حيث قال:

والغصب في مشترك كالمسجد      غير مزيل صحةَ التعبد

وفي المقابل ذهب جماعة إلى البطلان ومنهم السيد الماتن.

والكلام يقع في أن السبق إلى المكان هل يترتب عليه حكم تكليفي فقط وهو حرمة مزاحمته وازالته ومنعه عن المكان الذي سبق إليه، أو أنه يترتب إضافة إلى ذلك حكم وضعي وهو ثبوت ما نسميه بحق الإختصاص للسابق؟ وهذا غير الحكم التكليفي إلا أنه ليس بملك لوضوح أنه في الأوقاف لا توجد ملكية.

فأما الحرمة التكليفية للمزاحمة والمنع فهي ثابتة بلا إشكال، بإعتبار أن القواعد العامة تقتضي ذلك، لأن الوقف يشمله كما يشمل غيره بمعنى أن جلوسه في المكان المعين ليست فيه مخالفة، إذ يكون على طبق الوقفية في المسجد، فلا يجوز لغيره مزاحمته وإزالته عن مكانه، وهذا فيه تعدي وظلم؛ كما أنه لا ينبغي الإشكال إن إثبات حق للسابق في المكان غير الحرمة التكليفة لإزالته يحتاج إلى ملاحظة شيء إضافي غير ملاحظة القواعد العامة والوقفيات وأمثالها، بل لابد من دليل خاص على ثبوت هذا الحق الذي يعبر عنه بحق الإختصاص، فإذا تم الدليل على ثبوت هذا الحق يترتب عليه عدم جواز التصرف بالمكان إلا بإذنه حتى إذا فرضنا أنه لم يكن جالساً فيه، ولازمه إمكان الحكم بالبطلان في محل الكلام، بإعتبار أن اللاحق بعد أن اعتدى على السابق وأزاله عن موضعه يبقى للسابق حق في هذا المكان، فحينئذٍ يمكن الحكم ببطلان جلوس اللاحق في المكان، وبالتالي يحكم بيطلان اعتكافه، لأن اللبث في هذا المكان يكون حراماً.

وأما إذا قلنا بعدم ثبوت الحق للسابق لعدم دلالة الأدلة على ذلك وإنما الثابت هو الحكم التكليفي بحرمة المزاحمة فقط، فإذا عصى اللاحق وأزاله عن موضعه فهو قد إرتكب حراماً بلا إشكال لكن بعد إزالة السابق عن مكانه تنقطع علاقته بالمكان لعدم ثبوت حق الإختصاص له بالمكان، فتكون نسبة المكان إليهما على حد سواء، كما هو الحال في سائر المواضع الأخرى.

فالمهم هو الإستدلال على أن هل يثبت الحق للسابق في الموضع أو لا؟ وقد إستدل عليه بروايات:-

 

الأولى: مرسلة محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: نكون بمكة أو بالمدينة أو الحيرة[1] أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربما خرج الرجل يتوضأ فيجيء آخر فيصير مكانه، قال: من سبق إلى موضع فهو أحق به يومه وليلته.[2]

الظاهر أن المراد من (محمد بن إسماعيل) هو (محمد بن إسماعيل بن بزيع) الثقة الجليل. وهذه الرواية غير تامة سنداً، إذ لم يثبت عندنا -وكذا عند الآخرين- حجية مراسيل (محمد بن إسماعيل) كالمشايخ الثلاثة.

 

الثانية: رواية طلحة بن زيد

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به إلى الليل، وكان لا يأخذ على بيوت السوق كراء.[3]

هذه الرواية يرويها الشيخ الصدوق مرسلة، لكن الشيخ الكليني رواها عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، عن الإمام (عليه السلام)؛

والمراد من (محمد بن يحيى) الأول هو (محمد بن يحيى العطار) الثقة، و(أحمد بن محمد بن عيسى) ثقة، و(محمد بن يحيى) الثاني هو (محمد بن يحيى الخثعمي) المنصوص على وثاقته، وذلك بقرينة رواية الكليني عنه بواسطتين، أما (طلحة بن زيد) فإنه لم ينص على وثاقته، ولكنه يروي عنه البزنطي بسند صحيح وهذا كافٍ عندنا في البناء على وثاقته، مضافاً إلى أن الشيخ الطوسي عندما ذكره قال أن كتابه معتمد، وهذا يدل على وثاقته، لأن غير الثقة لا يعتمد على كتابه، نعم هو عامي كما نُص عليه. فالظاهر أن هذه الرواية تامة سنداً.

 

الثالثة: مرسلة إبن أبي عمير، عن بعض أصحابنا

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سوق المسلمين كمسجدهم، يعني إذا سبق إلى السوق كان له مثل المسجد.[4]

ومن المحتمل قوياً أن عبارة (يعني ...) ليس من الإمام (عليه السلام)، بل هي من أحد رواة الرواية، لعدم تعارف صدور أمثال هذه العبارة منه (عليه السلام)؛ وهذه الرواية تامة سنداً، لحجية مراسيل (إبن أبي عمير) عندنا.

 

والتركيز في البحث يكون على الروايتين الأخيرتين لتمامية سندهما.


[1] يبدو أن المقصود منها هو الكوفة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo