الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الفقه
33/04/05
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: المسألة العاشرة / في الدعوى المالية / صور المُدّعى عليه / الصورة الثانية / تفريع : ما لو كذّب الحالف نفسه بعد الإنكار / استدراك على مسألة عدم جواز التقاصّ بعد يمين المنكر بكر صحيحة سليمان بن خالد / كتاب القضاء للسيد الخوئي (قده)
كان الكلام في الصورة الثانية من صور الدعوى وهي ما لو أنكر المُدّعى عليه ما ادُّعي به عليه من الحقّ ووصل البحث إلى تفريعٍ على ذلك وهو ما لو كذّب الحالف نفسه بعد الإنكار ، وقبل إكمال ما يتعلّق به نُعرِّج على ما تقدّمه من مسألة عدم جواز التقاصّ بعد يمين المنكر لنذكر رواية استُدِلّ بها في المقام كان من المناسب التعرّض لها مع ما ذكرناه مما يدلّ على المطلوب وهي صحيحة سليمان بن خالد : " قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثم وقع له عندي مال فآخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأَحْلِفُ عليه كما صنع ؟ فقال : إن خانك فلا تخنه ولا تدخل في ما عبته عليه " [1] .
ودلالتها على المُدّعى ظاهرة من جهة نهي الإمام (عليه السلام) عن أن يأخذ من مال الحالف مكان ماله وجَعْلِ[2] ذلك من الخيانة .
لكن الظاهر أن الاستدلال بهذه الصحيحة مشكل لعدم ظهورها في ما نحن فيه إذ ليس فيها ما يشير إلى أن الحلف وقع داخل المرافعة والدعوى كما هو المُدّعى .. هذا إن لم يكن لها ظهور في وقوعه خارجها وعلى ذلك فلا يكون لهذه الصحيحة تعلّق بمحلّ الكلام من وقوع الحلف داخل المرافعة والدعوى .
نعم .. يمكن تقريب الاستدلال بها في ما نحن فيه[3] بالأولوية أو بإلغاء الخصوصية لأن الحلف إذا كان خارج المرافعة كان مُسقطاً للحقّ ومانعاً لصاحبه من أن يقتصّ من أموال الحالف فيكون الحلف في داخل الدعوى وأمام القاضي ولاسيما بعد صدور الحكم مبنياً عليه ومستنداً إليه مُسقطاً للحقّ ومانعاً من الاقتصاص من باب أولى ولا أقلّ من الجزم بعدم الفرق فيكون الاستدلال بهذه الصحيحة بمدلولها الالتزامي لا بمدلولها المطابقي .
ولكن يُستشكل في هذا الاستدلال من جهة أخرى وهي أن هذه الرواية بمدلولها المطابقي - وهو عدم جواز التقاصّ بالحلف خارج المرافعة كما استُظهِر منها - مُبتلاة بالمعارض في موردها [4] متمثّلاً بمعتبرة أبي بكر الحضرمي : " قال : قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها أيجوز لي إن وقع له قِبَلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي ؟ قال : فقال : نعم ، ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو ؟ قال تقول : اللهم لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني لم أزدد شيئاً عليه " [5] .
وهذه الرواية كصحيحة سليمان المتقدمة لا يبدو منها أن الحلف كان داخل الدعوى ولكنها – على خلافها - تدلّ بظاهرها على جواز التقاصّ[6] .
وحينئذ فإن أمكن التفريق بين مدلولي الصحيحة في الحجية بأن أمكن الالتزام بحجية المدلول الالتزامي حتى بعد فرض سقوط المدلول المطابقي بالمعارضة فلا مانع حينئذ من الاستدلال بهذه الصحيحة في محلّ الكلام فتدلّ على عدم جواز التقاصّ بعد اليمين خارج المرافعة والدعوى وبالأولوية ولا أقلّ من الجزم بعدم الفرق – كما ذكرنا - تدلّ على عدم جواز التقاصّ بعد اليمين وبعد حكم القاضي داخل المرافعة والدعوى .
وإن لم يمكن ذلك بأن كان المدلول الالتزامي تابعاً في الحجية للمدلول المطابقي ثبوتاً وسقوطاً فلا يمكن الالتزام بحجيته بعد سقوط المدلول المطابقي عن الحجية بالمعارضة فحينئذ يكون الاستدلال بالصحيحة في محلّ الكلام مشكلاً .
هذا استدراك على ما تقدّم من مسألة عدم جواز التقاصّ بعد اليمين .
ولنرجع الآن إلى ما شرعنا فيه من التفريع عليه بما لو أكذب الحالف نفسه بأن أقرّ بالحقّ بعد الإنكار حيث ذُكر أنه يجوز للمدعي حينئذ مطالبته بالمال كما يجوز له التقاصّ ، قال في الجواهر : " بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به غير واحد بل عن المهذّب والصيمري الإجماع عليه " [7] ، واستُدلّ له بدليلين :
الأول : عموم (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) فإنه شامل لمحل الكلام فإن هذا حيث كذّب إنكاره السابق يكون بذلك قد أقرّ على نفسه بالحقّ وهذا الإقرار نافذ بمقتضى القاعدة المذكورة ومؤثّر في ثبوت الحقّ عليه وحينئذ يجوز للمدعي أن يطالبه به كما يجوز له التقاصّ منه .
الثاني : رواية مسمع أبي سيّار المتقدّمة [8] حيث جوّز الإمام (عليه السلام) له أخذ المال بل وربحه أيضاً بعدما رجع الرجل الذي استودعه مسمع المال عن جحوده وحلفه فتدلّ على ما نحن فيه من دعوى جواز أخذ الحقّ بعد تكذيب الحالف لنفسه وإذا جاز أخذ الحقّ لو أدّاه الطرف الآخر جازت مطالبته به لو لم يؤدّه كما جاز التقاصّ منه حينئذ .
ولكن قد يقال بأن هذا الحكم - أعني رجوع الحقّ للمدّعي المستلزم لجواز أخذه من الطرف الآخر بعد ذهابه بيمينه[9] - مخالف للروايات السابقة التي تقول بأن اليمين ذهبت بحق المُدّعي أو أنها ذهبت بالدعوى فكيف يمكن أن يعود حقّ المُدّعي بعد أن ذهب بيمين المنكر بمجرد تكذيب المنكر لنفسه وهل هذا إلا تنافٍ بين الدليلين[10] ؟
وأقول : الكلام يقع في كل من الدليلين المتقدمين :
أما بالنسبة إلى الدليل الثاني وهو رواية مسمع فيمكن أن يقال فيها ما قيل في صحيحة سليمان بن خالد من أنه ليس فيها ما يشير إلى أن الحلف وقع في ضمن دعوى ومرافعة لاسيما وأن ظاهرها أنه لم يقع حتى بطلب من السائل وحينئذ يقال بأن الحكم بعدم سقوط الحقّ وبقائه وجواز التقاصّ خارج الدعوى لا يستلزم الحكم بذلك في محلّ الكلام أيضاً ولا يمكن أن يُسحب ما قيل في صحيحة سليمان على معتبرة مسمع وإن اشتركا في أن الظاهر منهما أن الحلف لم يقع في ضمن دعوى ، وتوضيحه:
أن هناك فرقاً بين الصحيحة والمعتبرة في جواز الاستدلال على المطلوب بالأولى وعدم جوازه بالثانية فإن مورد الصحيحة هو كون الحلف خارج الدعوى من دون طلب من صاحب الحقّ وقد دلّت على أنه مُسقط للحقّ ومانع من التقاصّ فيثبت هذا الحكم في داخل الدعوى والمرافعة من باب أولى إذ لا يُحتمَل أن يكون لوقوعه خارج الدعوى خصوصية توجب اختصاص الحكم[11] به في مقابل ما لو وقع داخل الدعوى ، وأما في المعتبرة فالأمر على خلاف ذلك فإن موردها وإن كان هو الحلف خارج الدعوى ومن دون طلب من صاحب الحقّ أيضاً إلا أنها دلّت على عدم سقوط الحقّ به وعلى جواز التقاصّ فكيف يتأتّى تسرية هذا الحكم إلى مورد الحلف داخل الدعوى بالأولوية مع تأتّي احتمال الخصوصية من كونه[12] داخل الدعوى وبطلب من الحاكم حيث يذهب بالحقّ أو يذهب بالدعوى – كما ورد في لسان الروايات – ، نعم .. لو أمكن أن يُدّعى كون موردها هو الحلف داخل الدعوى[13] لأمكن الاستدلال بها على أنه بعد تكذيب الحالف نفسه تجوز مطالبته بالحقّ ويجوز التقاصّ من أمواله وفقاً لما دلّت عليه ولكن ادّعاء ذلك خلاف الظاهر إذ ليس من قرينة في الرواية تشير إليه .
وأما بالنسبة إلى الدليل الأول وهو قاعدة (إقرار العقلاء) فقد حاول الشيخ صاحب الجواهر (قده) رفع المنافاة بينها وبين الروايات السابقة[14] بدعوى أن الإقرار بعد الإنكار يكون : " سبباً مُثبتاً جديداً للاستحقاق غير ما سقط باليمين " [15] ، ومقتضاه الالتزام بسقوط الحقّ باليمين وفقاً لما دلّت عليه الروايات السابقة والالتزام بثبوت حقّ جديد بالإقرار مماثل للحقّ الساقط باليمين فلا تنافي بين القاعدة والروايات حينئذ .
هذا .. ولكنه (قده) أفاد بأنه يحصل التعارض حينئذ بين مفاد القاعدة ومدلول الروايات فإن إطلاق القاعدة يقتضي ثبوت الحقّ وجواز التقاصّ بالإقرار سواء أكان عقيب الإنكار أم لا [16] ، وإطلاق الروايات يقتضي سقوط الحقّ باليمين وعدم جواز التقاصّ سواء تعقّب بالإقرار أم لا ، وهذا التعارض هو بنحو العموم من وجه ومادة الاجتماع هي محلّ الكلام - أعني حصول الإقرار ممن حلف بعد الإنكار - فمقتضى القاعدة هو ثبوت الحقّ وجواز التقاصّ ومقتضى الروايات سقوط الحقّ وعدم جواز التقاصّ ولمّا لم يمكن الجمع والتوفيق بينهما لكمال التنافي فيهما تصل النوبة إلى الترجيح وقد رجّح (قده) تقديم القاعدة على الروايات ليكون الحكم هو ثبوت الحقّ وجواز التقاصّ ، وذكر أن المرجّح للقاعدة أمران :
الأول : الإجماع المعتضِد بالشهرة [17] على جواز التقاصّ بعد تكذيب الحالف لنفسه .
والثاني : معتبرة مسمع أبي سيّار[18] المتقدّمة .
ولكن يرد على هذا الكلام ملاحظتان :الأولى : أن ما ذكره لا ينسجم مع التقريب الذي ساقه لكيفية الاستدلال بقاعدة الإقرار حيث أفاد أنها تقتضي ثبوت حقّ جديد لأن الإقرار بعد الإنكار يكون سبباً جديداً مُثبتاً للاستحقاق غير ما سقط باليمين .
وجه عدم الانسجام أنه مع ثبوت هذا الحقّ الجديد المستلزم لجواز التقاصّ بالإقرار لا يكون هناك تعارض بين القاعدة والنصوص السابقة أصلاً حتى يقال بترجيح القاعدة اعتماداً على الإجماع وعلى رواية مسمع فإن التقريب المذكور للاستدلال بالقاعدة يرفع التنافي بين مفادها ومفاد النصوص من رأس .
الثانية : إنه بناءً على تمامية الإجماع ورواية مسمع[19] فهما يصلحان مقيّدين لإطلاق النصوص السابقة فيكون مفادها بعد التقييد سقوط الحقّ باليمين إلا إذا تعقّب بتكذيب المنكر لنفسه فيثبت الحقّ ويجوز التقاصّ حينئذ وعلى ذلك فلا يكون ثمة تعارض أو منافاة أيضاً .