47/05/06
/ قاعدة لا ضرر/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر/
كان الكلام في الاحتمال الثاني في الهيئة التركيبة لجملة (لا ضرر) هو أنَّ المقصود بها النهي التكليفي، فتدل على حرمة توجيه الضرر الى الغير، وذكرنا له تقريبات أربعة.
وهذا الاحتمال واجه عدة اعتراضات:
الأول: دعوى أنَّ ارادة النهي من النفي بعيد، ولا يُصار إليه إلا إذا تعذر حمله على معناه الحقيقي.
الثاني: ما في الكفاية من أنَّ ارادة النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز إلا أنه لم يعهد في مثل هذا التركيب الذي يتوجه فيه النفي الى الطبيعة.
والظاهر أنَّ مقصوده هو أنَّ ارادة النهي من النفي موجود لكن في غير هذا التركيب من قبيل (لا يصح) جواباً عن سؤال، نحو هل تصح قراءة العزائم حال الجنابة؟ فيقال: لا يصح، فهو نفي ويمكن أن يراد به النهي، وأما في مثل (لا ضرر) مما كان النفي مسلطاً فيه على الحقيقة فإنَّ ارادة النهي غير معهود في الاستعمال، من قبيل (لا شك لكثير الشك) و (لا سهو في النافلة) وأمثال ذلك.
وعلى كل حال هذا الاحتمال لما كان مهماً لوجود ما يشهد له فهو بحاجة الى البحث عن الأمور التي استدل بها عليه، وحيث أنَّ هذا الاحتمال هو مختار المحققان صاحب العناوين وشيخ الشريعة الأصفهاني فلابد من الرجوع الى كلامهما لمعرفة ما استدلا به عليه، ويفهم من كلامهما الاستدلال عليه بأمور:
الأمر الأول: دعوى أنَّ سياق الروايات يُرشد الى ارادة النهي، مضافاً الى كونه الأنسب بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو شارع لا في مقام بيان ما يوجد في الدين وما لا يوجد فيه.
وفيه: إنَّ دعوى السياق غير واضحة، فإنَّ الحديث هو (لا ضرر ولا ضرار) ولا سياق له، نعم لعل المقصود به موارد تطبيق الحديث كقضية سمرة بن جندب، إلا أنه لا يسمى سياقاً.
وأما دعوى أنه هو الأنسب للشارع فغير واضحة أيضاً، فأنَّ حمل الحديث على نفي الحكم الضرري كما يقول المشهور يناسب الشارع أيضاً.
الأمر الثاني: دعوى تبادر النهي التكليفي من هذه الجملة.
وفيه: أنَّ التبادر إنما يكون علامة على الوضع فيما إذا كان الشك في الوضع، وأما مع العلم بالوضع والشك في المراد فلا مجال للرجوع الى التبادر، ولا إلى سائر علامات الحقيقة، سواءً كان الشك في المراد مع وحدته كما إذا قال (رأيتُ أسداً) واحتملنا على مستوى الوضع والظهور إرادة الرجل الشجاع، أو مع تعدده كما في المقام، فإنه لا شك على مستوى الوضع والظهور، لوضوح أنَّ (لا) نافية للجنس ومعناها الإخبار عن نفي الضرر، لكن حيث تعذر إرادة هذا المعنى لتحقق الضرر خارجاً فيدور الأمر بين إرادة عدة معاني، وفي مقام تعيين واحد منها لابد من الرجوع الى القرائن لمعرفة المراد الذي يريد المتكلم تفهيمه.
الأمر الثالث: إنَّ قوله (ص) لسمرة بن جندب في رواية بن مسكان عن زرارة (إنك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار) هي بمنزلة الصغرى والكبرى، فلو اُريدت الحرمة التكليفية كان مرجعها الى صغرى: إنك رجل مضار، وكبرى: والمضارة محرمة، وهما متناسبتان، وأما إذا اريد نفي الحكم الضرري صار المعنى: إنك رجل مضار، والحكم الموجب للضرر منفي، ولا يخفى ما فيه من عدم المناسبة للصغرى.
وفيه: أنه يمكن الحفاظ على المناسبة باستفادة التحريم من فقرة (لا ضرار) المناسب لقوله (إنك رجل مضار) لكونهما من باب المفاعلة، فتتحقق الصغرى والكبرى مع تمام المناسبة، وتبقى فقرة (لا ضرر) ويمكن أن يستفاد منها نفي الحكم الضرري.
الأمر الرابع: دعوى شيوع ارادة النهي من هذا التركيب، مثل ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِی ٱلۡحَجِّۗ﴾[1] ومثل قوله: (لا سبق إلا في خف أو حافر)، وقوله: (لا غش بين المسلمين) و (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) و (لا شغار في الاسلام) و (لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيام) و (لا خِصى في الاسلام).
وفيه: منع الشيوع، لأنَّ جملة من الموارد المذكورة لا يراد بها النهي وهو ما ورد فيه قيد (في الاسلام) فإنه قرينة واضحة على أنَّ المراد النفي بلحاظ عالم التشريع، الراجع الى عدم وقوعه موضوعاً للحكم الشرعي، وليس المراد النفي خارجاً بداعي النهي، كما أنَّ الأمثلة التي ورد فيها النهي على العقد ونحوه من الأمور الاعتبارية ظاهرة في نفي الصحة وترتب الأثر، فتكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ودلالتها على الحرمة التكليفية غير واضحة، نعم ما كان مثل (لا رفث ولا فسوق) ففيه دلالة على النهي ولكن هذا لا يُحقق الشيوع المدعى.
الأمر الخامس: إنَّ الاشكال على القاعدة بكثرة التخصيص إنما يلزم بناء على إرادة نفي الحكم الضرري باعتبار أنَّ كثيراً من الأحكام الشرعية تسبب الضرر، وهي غير مرفوعة قطعاً، كما في الحدود والقصاص والديات والضمانات والخمس والزكاة والكفارات والجهاد والنفقات...الخ، فإنه إذا فُسرت القاعدة بنفي الحكم الضرري لزم كثرة التخصيص فيلزم الاشكال لوضوح عدم امكان الالتزام بانتفاء هذه الأحكام، وأما بناءً على إرادة النهي التكليفي كما نقول فلا يلزم ذلك.
وفيه: ما سيأتي في تنبيهات القاعدة عند التعرض لهذا الاشكال من الوجوه التي تقال لدفعه ومنع كون هذه الأحكام ضررية، وأنَّ خروجها من القاعدة من باب التخصص لا من باب التخصيص.