« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/12/05

بسم الله الرحمن الرحيم

/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/

 

كان الكلام في العمل الصادر من المكلف إذا أجرى البراءة قبل الفحص ونفى ما يحتمل دخله فيه، فما هو حكمه من حيث الصحة والبطلان؟

وذكرنا أنه لا فرق بين المعاملات والعبادت في أصل البحث، وإنما الفرق في أنَّ المعاملة يمكن القول أنَّ الميزان في صحتها هو موافقة الواقع فإن وافقته صحت المعاملة وترتب عليها الأثر، وإن خالفته لم تصح ولم يترتب عليها الأثر، ولا شيء غير ذلك يكون دخيلاً في الصحة والبطلان، وأما العبادات فتمتاز عن المعاملات بقصد القربة، فحتى لو كانت مطابقة للواقع أمكن الاشكال في صحتها من جهة عدم تحقق قصد القربة مع الترديد والجهل، لأنّ قصد القربة يعني قصد امتثال الأمر فلا بد من احرازه أولاً حتى يقصد امتثاله، ومع الجهل والترديد لا إحراز للأمر فلا يتأتى منه قصد القربة.

ودفعنا هذا الاشكال بأنَّ قصد القربة لا يتوقف على احراز الأمر، بل يمكن تحققه حتى مع الاحتمال، وعليه فلا فرق بين العبادة والمعاملة في أنَّ الصحة والبطلان تُناط بالموافقة للواقع أو عدمها.

وذكرنا أنه لا ينبغي الإشكال في أنه يحكم ظاهراً قبل تبين الحال ببطلان العمل وعدم الاجزاء لقاعدة الاشتغال، من دون فرق بين المعاملات والعبادت، وإنما الكلام فيما إذا انكشف الحال وتبين مطابقة العمل للواقع أو مخالفته له، وهنا ذكر السيد الخوئي أنَّ الصور المتصورة أربع[1] :

الأولى: انكشاف مخالفة العمل للواقع حسب فتوى من كان يجب الرجوع إليه حين صدور العمل، فلا إشكال في الحكم ببطلان العمل لعدم مطابقته للواقع حسب الحجة الفعلية والحجة السابقة أي حين العمل.

الثانية: انكشاف مطابقة العمل للواقع بالنحو السابق، فلا إشكال في الحكم بالصحة لكونه مطابقاً للواقع حسب الحجة الفعلية والحجة السابقة.

الثالثة: انكشاف مطابقة العمل للواقع حسب فتوى من كان يجب عليه الرجوع إليه حين العمل لكنه مخالف للواقع حسب فتوى المجتهد الجديد، واستظهر قده الحكم بالبطلان لأنَّ المقتضي لصحة العمل إما هو الأدلة الخاصة على عدم وجوب الإعادة في خصوص الصلاة كحديث لا تُعاد لأنه معذور في هذه المخالفة قطعاً لاستناده الى الحجة السابقة، لكن القاعدة لا تشمل الجاهل المقصر وإن قلنا بشمولها للجاهل القاصر أو لمطلق المعذور، لأنَّ المقصر بحكم العامد والقاعدة لا تصحح عمله.

وإما هو الأدلة العامة أي قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية، وهي أيضاً لا تجري في المقام لأنَّ الإجزاء إنما يكون فيما إذا كان العامل مستنداً الى الأمر الظاهري - أي فتوى المجتهد السابق - حين العمل، وأما إذا لم يستند إليه كما في المقام - وإنما يريد الاستناد إليه الآن - فلا تشمله قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية.

الرابعة: انكشاف المطابقة حسب فتوى المجتهد الفعلي والمخالفة للواقع حسب فتوى المجتهد السابق، فحكمَ هنا بالصحة لأنَّ الحجة الفعلية قامت على صحة العمل وعدم وجوب القضاء فيجوز الاستناد إليها في ترك القضاء.

والحاصل: لا إشكال أنَّ العمل الصادر من الجاهل التارك للفحص لا يكون مجزياً عقلاً لعدم احراز مطابقته للواقع، فإذا فحص وعثر على مطابقة عمله السابق للواقع كفتوى المجتهد الأخير أمكنه الاجتزاء بعمله السابق ما دامت تلك الفتوى حجة في حقه، وأما إذا فحص ولم يعثر على حجة على المطابقة وجبت عليه الإعادة ويحكم ببطلان عمله، ولا تنفعه مطابقة عمله لفتوى المجتهد السابق بعد ارتفاع حجيتها، وذلك لأنَّ هذه المطابقة إنما تنفع في الإجزاء إذا استند إليها في مقام العمل، لا في مثل المقام الذي فُرض فيه عدم الاستناد إليها بسبب الموت أو صيرورة غيره أعلم، هذا في المقلِّد.

ومنه يظهر حكم المجتهد التارك للفحص إذا صدر منه العمل مع الجهل بحكمه فلا يكون مجزياً قبل تبيُّن الحال كما تقدم، فإذا فحص عن الأمارات وعثر على أمارة حجة تدل على مطابقة عمله السابق للواقع أمكنه الاجتزاء به، وإلا فلا يمكنه الاجتزاء بعمله، وأما مجرد موافقة عمله لأمارةٍ كانت معتبرة حين العمل ثم سقطت عن الاعتبار بسبب ما من دون أن يعلم بها - كما هو المفروض - فلا يمكنه الاجتزاء بها بالعمل السابق لأنَّ قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية إنما تقتضي الإجزاء إذا استند إليها حين صدور العمل.

ثم إنك عرفتَ مما تقدم أنَّ صحة العمل الذي يأتي به الجاهل التارك للفحص والتعلم وبطلانه يدور مدار الموافقة للواقع والمخالفة له، فيصح إن كان موافقاً للواقع ويبطل إن كان مخالفاً له، ويستحق العقاب في حالة المخالفة، وأما في حالة الموافقة للواقع فليس إلا التجري، إلا أنهم لم يلتزموا بهذه النتيجة في بعض الفروع مثل الجهر والإخفات، فقد التزموا بصحة العمل بالرغم من مخالفته للواقع، والتزموا أيضاً بترتب العقاب على هذه المخالفة! مع أنَّ مقتضى ما تقدم هو الحكم بالبطلان واستحقاق العقاب في فرض المخالفة، ولو فرضنا الموافقة - ولو بافتراض أنَّ الواجب في حال الجهل هو الجامع بين الجهر والإخفات - فلا بد حينئذٍ من الحكم بالصحة وعدم استحقاق العقاب، فكيف يُجمع بين الحكم بالصحة من جهة وبين استحقاق العقاب على المخالفة من جهة أخرى؟

ومن هنا وقع الكلام بينهم في أنه هل يمكن فرض حالة تجتمع فيها صحة العمل مع استحقاق العقاب، ذكروا وجوها لإثبات إمكان الجمع بينهما، يأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى.

 


[1] مصباح الأصول ج2 ص583، المجلد 47 من الموسوعة.
logo