46/12/04
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
ذكرنا أنَّ المحقق العراقي أنكر كون وجوب التعلم طريقياً وذهب الى أنه إرشادي، والذي يظهر من كلماته أنَّ الذي دعاه الى ذلك هو عدم وجود إرتباط بين الواقع وبين وجوب التعلم واختلاف موضوعهما، والميزان بنظره في كون الوجوب طريقياً هو أن يكون موضوعهما واحداً كما في وجوب الاحتياط، فإنَّ الموضوع فيهما في صورة الموافقة واحد، ومن هنا يختلف الأمر بالاحتياط عن الأمر بالتعلم فيمكن الالتزام بأنَّ وجوب الاحتياط طريقي بينما لا يمكن الالتزام بذلك في الأمر بالتعلم.
مضافاً الى أنَّ التعلم ليس من آثار تنجيز الواقع حتى يكون ايجاب التعلم مقتضياً لتنجيز الواقع فيكون طريقياً، فلا معنى لإيجابه لتنجيز الواقع، بدليل أنَّ الواقع المحتمل لو فرضنا تنجَّزه على المكلف فلا يكون باعثاً نحو التعلم وإنما يكون باعثاً نحو الاحتياط، فوجوب التعلم لا يصلح أن يكون منجِّزاً للواقع، فلا يكون وجوبه وجوباً طريقياً، فيتعين أن يكون إرشادياً.
ويمكن أن يقال أنَّ وجوب التعلم لا ينجِّز الواقع مباشرة وإنما يُنجَّزه بوجوده في معرض الوصول، فمع احتمال وجود الطريق المنجِّز للواقع في معرض الوصول فلا إشكال في أنَّه يكون مقتضياً للفحص والتعلم وباعثاً نحوهما، لأنَّ الفحص والتعلم من آثار تنجيز الطريق المحتمل، فيصح إنشاء وجوب التعلم بداعي تنجيز الطريق الواقعي الذي يُنجِّز الواقع.
والحاصل: يكفي في صحة فرض الوجوب الطريقي للتعلم كونه يُنجِّز الواقع بالواسطة، وإن لم يكن عين الواجب الواقعي، ولا امتثاله عين امتثال الواجب الواقعي.
لكن بالرغم من ذلك فالوجوب الطريقي للتعلم لا يُستفاد من أدلة وجوب التعلم، وذلك لما عرفتَ من إباء هذه الأدلة من فرض إعمال المولوية والتعبد لظهورها في كونه أمراً مركوزاً وواضحاً عند العبد بقطع النظر عن التعبد الشرعي، ولذا كان قوله (أَ فَلاَ تَعَلَّمْتَ حَتَّى تَعْمَلَ) مسكتاً ومفحماً للعبد، ولو كان وجوب التعلم مولوياً تعبدياً لكان حاله حال سائر الواجبات المولوية التعبدية التي سبق أن نفى علمه بها حينما قيل له: (أَ فَلاَ تَعَلَّمْتَ)، والظاهر أنَّ الوجوب الطريقي ينافي ذلك - كما أنَّ الوجوب النفسي الاستقلالي ينافيه - لأنَّ المراد بالوجوب الطريقي هو الوجوب المنشأ بداعي تنجيز الواقع، أو بداعي إبراز الاهتمام بالواقع، وعلى كل حال فهو وجوب تعبدي أعمَل الشارع فيه مولويته وتعبَّد المكلف بأنَّ هذا طريق يتنجَّز الواقع به واعتبره منجِّزاً له، ولولا الاعتبار والتعبد الشرعي لم يكن يدرك العقل كونه منجَّزاَ للواقع، ومن الواضح أنَّ هذا الشيء لا يدركه العبد وليس أمراً مركوزاً في ذهنه بقطع النظر عن التعبد الشرعي، فهو نظير الأمر بتصديق العادل الراجع الى اعتبار خبر الثقة موصلاً الى الواقع ومنجِّزاً له فإنَّ العبد بعقله لا يُدرك ذلك لأنَّه كسائر التكاليف الشرعية فيها تعبد واعتبار واعمال مولوية.
وعليه يقال أنَّ أخبار التعلم لا يُستفاد منها الوجوب الطريقي، وعليه يتعين الالتزام بالوجوب الارشادي كما ذهب إليه المحقق العراقي، أي أنَّ الأمر به للإرشاد الى حكم العقل بوجوب الفحص في الشبهات الحكمية وعدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص إما للعلم الإجمالي بوجود تكاليف واقعية إلزامية في ضمن الشبهات، وإما لكون احتمال التكليف قبل الفحص منجِّزاً بنظر العقل - بعد فرض عدم شمول أخبار البراءة الشرعية لما قبل الفحص - بلا خلاف بينهم، ولا تجري فيه البراءة العقلية، فيكون مفاد أدلة التعلم هو المنع من جريان البراءة قبل الفحص والتعلم لا وجوب التعلم بعنوانه، وإنما يدرك عدم معذورية الجاهل قبل الفحص فلا تجري البراءة لأنها تعني معذورية الجاهل.
وعلى كل تقدير - سواء قلنا بالوجوب الطريقي أو بالوجوب الارشادي - فالمكلف إذا ترك التعلم يستحق العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلم.
حكم العمل الصادر من المكلف إذا أجرى البراءة قبل الفحص من حيث الصحة والبطلان:
أما المعاملات فالأمر فيها واضح، وذلك باعتبار أنَّ الصحة والفساد تُناط بما هو معتبر في المعاملة، فأن كانت المعاملة واجدة لما يُعتبر فيها فهي صحيحة ويترتب عليها الأثر وإلا ففاسدة ولا يترتب عليها الأثر، ولا دخل للعلم والجهل بالحكم في الحكم بالصحة أو الفساد.
وإنما الكلام في العبادات فلو أجرى البراءة قبل الفحص فهل يحكم بصحة العبادة أو لا؟
قد يُستشكل في الحكم بصحة العبادة وذلك باعتبار أنَّ العبد التارك للتعلم والفحص حتى لو جاء بالعبادة موافقة لما هو معتبر فيها فمع ذلك يُحكم ببطلانها من جهة عدم تحقق قصد القربة والطاعة لهذا الجاهل مع الترديد المفروض من جهة جهله الحاصل بسبب ترك الفحص والتعلم.
والحاصل إنَّ الفعل الذي يأتي به الجاهل إذا لم يكن عالماً بحكمه لتركه التعلم فكيف يمكنه قصد امتثال أمره فإنَّ ذلك فرع العلم لأنه مما أمر به الشارع.
وأجاب عنه المحققون المتأخرون بأنَّ عبادية العبادة وقصد الطاعة لا يتوقف على إحراز تعلق الأمر بها بل يكفي فيه الإتيان بالعبادة بقصد احتمال الأمر بها، بل قالوا إنَّ التقرب بالعبادة من جهة احتمال الأمر بها أرقى من التقرب بها من جهة العلم بأمر الشارع بها.
إذن الفعل الصادر من الجاهل التارك للتعلم يمكن أن يصدر منه على نحو عبادي، فلا إشكال من هذه الجهة.
نعم لا إشكال في أنه لا بد من الحكم ببطلان العمل ظاهراً قبل انكشاف الحال.