46/11/23
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
انتهينا في ما تقدم الى عدم صحة قياس محل الكلام على المولويات العرفية والقوانين الوضعية التي توضع في موضع معين تقرره السلطة التشريعية حتى يرجع المكلف إليها، ولا يُكلف بمراجعة ما زاد على ذلك وإن احتمل وجود القانون فيه، وأما ما نحن فيه فالشارع المقدس لم يتكفل بوضع قوانينه في موضع معين، فالقياس مع الفارق، ولكن مع ذلك لا يمكن إنكار أنَّ الغالب هو حصول الاطمئنان بعدم وجود ما يدل على الحكم الشرعي عند مراجعة الكتب المعدة لذلك وعدم وجدان رواية فيها، بل قد يحصل الاطمئنان بمراجعة الباب المناسب لتلك المسألة والأبواب المناسبة لها، وذلك لأنَّ احتمال وجود رواية في غير الأبواب المناسبة لها يعني احتمال غفلة جميع هؤلاء العلماء على اختلافهم في الزمان والمكان والقابليات والثقافات مع حرصهم على الفحص والبحث عن الأدلة، وهذا مستبعد عادة.
وعلى كل حال إن حصل الاطمئنان للمجتهد فهو يكفي لإجراء البراءة، وإن لم يحصل لاحتمال وجود رواية في كتاب لغوي أو تاريخي أو استدلالي فاللازم التوقف عن إجراء البراءة حتى يُراجع ذلك الكتاب، وذلك لعدم قيام الحجة المسوغة لإجراء البراءة.
والظاهر أنَّ ما تقدم يجري على جميع الوجوه التي يُستند إليها لإثبات أصل وجوب الفحص، فمن جملة الوجوه دعوى أنَّ أدلة البراءة منصرفة عما قبل الفحص للارتكاز العقلائي على عدم معذورية الجاهل قبل الفحص، الذي يُشكل قرينة متصلة بأدلة البراءة الشرعية ويمنع من شمولها لما قبل الفحص ويوجب اختصاصها بما بعد الفحص، وهذا الوجه يجري في المقام فإن العقلاء بمقتضى الارتكاز العقلائي المذكور لا يمنعون من إجراء البراءة بعد الفحص، وحيث أنَّ هذا الارتكاز هو المُقيد لإطلاق أدلة البراءة فهو يُقيدها بالمقدار الذي يدل عليه، والعقلاء يبنون على هذه الطريقة مع عدم قيام الحجة على عدم الدليل الشرعي، وأما إذا قامت الحجة لديه فيجوز له إجراء البراءة.
وأما الكلام عن مقدار الفحص من ناحية الدلالة والظهور كما إذا احتمل وجود ما يؤثر على الدلالة في كلمات بعض العلماء وفي الكتب الاستدلالية، فالظاهر أنَّ المقدار الواجب من الفحص هو أن يبذل جهده وما عنده من خبرة علمية في تحديد الدلالة والظهور بالنحو المتعارف عند أهل الخبرة في هذا المجال، وقد يدخل في ذلك الرجوع الى الخبراء الآخرين والاستفادة من خبراتهم، فيرجع الى الكتب الاستدلالية لفحول الفقهاء التي يحتمل وجود ما يؤثر على تحديد الظهور والدلالة فيها مما قد يغفل عنه.
وهل يجب ما هو أكثر من ذلك أي الاستقصاء التام لكلماتهم بحيث إذا احتمل أنَّ خبيراً ما ملتفت الى نكتة لم يلتفت هو إليها فلا يجوز له أن يفتي على ضوء ما اسفاده من النص؟
الظاهر هو عدم الوجوب، أما على الوجه المتقدم - الذي يدعي الانصراف على أساس الارتكاز العقلائي - فواضح لأنَّ العقلاء يكتفون من الفحص بالمقدار المتعارف ولا يرون لزوم الفحص أكثر من ذلك، فيرجع حينئذٍ الى أدلة البراءة، لأنَّ المقيد لها إنما هو الارتكاز العقلائي والمفروض أنه لا يوجد ارتكاز يمنع من الرجوع الى البراءة بالنسبة الى ما زاد على المقدار المتعارف من الفحص.
وهكذا الحال على الوجه الثالث من وجوه قصور المتقضي - وهو اهتمام الأئمة عليهم السلام بتعليم الأحكام ونشرها وحث الناس على تعلمها – فإنَّ الحث على التعلم والفحص عن الأحكام إنما هو بالمقدار المتعارف أيضاً، ولا يشمل ما زاد على ذلك، وهكذا الكلام على سائر الوجوه المتقدمة، هذا كله في مقدار الفحص الواجب.
ثم الكلام يقع في أنَّ سائر الأصول العملية عدا البراءة كالاستصحاب النافي للتكليف، وأصالة الطهارة، وأصالة التخيير في موارد دوران الأمر بين محذورين هل حالها حال البراءة من حيث عدم جريانها في الشبهة الحكمية قبل الفحص، كما إذا شك في طهارة حيوان معين بنحو الشبهة الحكمية فهل يجوز أن يحكم بالطهارة اعتماداً على أصالة الطهارة من دون الفحص أو لا يجوز ذلك؟
المعروف أنَّ حال هذه الأصول العملية حال البراءة، ونفس الكلام المتقدم يأتي فيها، فلا يجوز إجراء هذه الأصول قبل الفحص، وإنما يجوز إجراؤها بعد الفحص وعدم العثور على ما يدل على الحكم الشرعي، فلا فرق بين البراءة وبين سائر الأصول العملية من هذه الجهة، وتفصيل ذلك:
أما أصالة التخيير العقلي الجارية في موارد دوران الأمر بين محذورين فلا يجوز إجراؤها قبل الفحص، بل لابد من الفحص في الأدلة عما يُعيَّن أحد المحتملين من الوجوب والحرمة، والسر في ذلك هو أنَّ التخيير حكم عقلي والعقل لا يحكم بذلك إلا بعد الفحص، لأنه إنما يحكم بذلك بملاك العجز عن احراز الامتثال، وهو قبل الفحص يحتمل القدرة على الامتثال القطعي، ومن الواضح أنَّ احتمال القدرة منجَّز، فيجب عليه مراعاته بالفحص عما يدل على الوجوب أو الحرمة قبل إجراء أصالة التخيير، وهذا الكلام يجري في جميع الأصول العقلية المؤمِّنة لأنَّ موضوعها هو عدم البيان وهو لا يُحرز إلا بالفحص.
وأما استصحاب عدم التكليف فقد يقال إنه مشروط بالفحص وأنَّ أدلته مختصة بما بعد الفحص، فلا تشمل ما قبل الفحص فيثبت المطلوب وهو عدم جواز اجراء الاستصحاب النفي للتكليف قبل الفحص.
ويُستدل على ذلك بما تقدم من أخبار التوقف بناء على ما ذكره السيد الخوئي من أنَّ النسبة بينها وبين أدلة البراءة هي نسبة التباين، لكن بعض أدلة التوقف مختص بما قبل الفحص من قبيل قوله عليه السلام (..فأرجه حتى تلقى أمامك..) فيكون أخص مطلقاً من أدلة البراءة فيُخصصها، فتحمل أدلة البراءة على ما بعد الفحص، فتنقلب النسبة بين أدلة البراءة وبين أخبار التوقف الأخرى الى العموم المطلق، فتحمل أدلة البراءة على ما بعد الفحص وأدلة التوقف على ما قبل الفحص، ثم قال في ذيله:
(وبما ذكرناه ظهر اختصاص أدلة الاستصحاب أيضاً بما بعد الفحص...)[1] أي أنَّ نفس البيان المذكور في أدلة البراءة جار في أدلة الاستصحاب، وذلك بأن نقول إنَّ النسبة بين أدلة الاستصحاب وأخبار التوقف هي نسبة التباين، لأنَّ كلاً منها يشمل ما قبل الفحص وما بعده بمقتضى الاطلاق، لكن بعض أخبار التوقف مختص بما قبل الفحص فتكون أخص مطلقاً من أخبار الاستصحاب فتخصصها وتوجب حملها على ما بعد الفحص، فتكون أخبار الاستصحاب أخص مطلقاً من أخبار التوقف، فيثبت اختصاص أدلة الاستصحاب بما بعد الفحص، فلا يجري الاستصحاب قبل الفحص كالبراءة.