46/11/16
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية:
والبحث هنا في أنَّ إجراء البراءة في الشبهة الموضوعية هل هو مشروط بالفحص أو لا؟
والكلام تارة يقع بلحاظ البراءة العقلية، وأخرى بلحاظ البراءة الشرعية، فنقول:
أما بالنسبة الى البراءة العقلية فالكلام في أنَّ جريانها هل هو مشروط بالفحص أو غير مشروط به لا يكون إلا إذا فرغنا عن أمرين:
الأول: أن نقول بالبراءة العقلية وبمسلك قبح العقاب بلا بيان، وأما على المسلك الآخر فلا معنى لهذا البحث، وهذا الأمر لا بد من فرضه في بحث الشبهة الحكمية المتقدم أيضاً.
الثاني: أن نقول بجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية، وعندئذٍ نقول هل جريانها مشروط بالفحص أو لا؟
وأما إذا أنكرنا البراءة العقلية أو أنكرنا جريانها في الشبهة الموضوعية فلا معنى للبحث عن أنَّ جريانها في الشبهة الموضوعية هل هو مشروط بالفحص أو لا.
أما الأمر الأول فقد تقدم في أبحاث البراءة، وانتهينا الى القول بالبراءة العقلية وفاقاً للمشهور.
وأما الأمر الثاني فهو محل الكلام، فنقول: هناك إشكال معروف في اجراء البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية ذكره الشيخ في الرسائل، وحاصله:
إنَّ الشارع بيَّن الحكم الشرعي، والمفروض وصوله الى المكلف وعلمه به فيتنجَّز بذلك، إذ لا إشكال في أنَّ العلم يُنجِّز متعلقه، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، فلو بيَّن الشارع الحكم كحرمة الخمر ووصل الى المكلف فهو يُنجِّز ما يشك في كونه خمراً، وتفريغ الذمة قطعاً لا يكون إلا بالاجتناب عن الأفراد المشكوكة، ولو من باب المقدمة العلمية، وهذا يعني عدم جريان البراءة في الشبهات الموضوعية.
وهذا الاشكال مبني على دعوى إنَّ عدم البيان المأخوذ في موضوع القاعدة العقلية يُقصد به عدم بيان الحكم الشرعي الكلي الذي يكون الشارع مسؤولاً عن بيانه، المعبَّر عنه بالجعل، ومع عدم بيانه يقبح العقاب وتثبت البراءة، وهذا غير متحقق في الشبهة الموضوعية لأنَّ المفروض وصول الحكم الى المكلف وعلمه به، فلا تجري البراءة العقلية لعدم تحقق موضوعها، وأما الحكم الجزئي المرتبط بهذا الموضوع الشخصي المعبَّر عنه بالمجعول فليس بيانه من وظيفة الشارع.
والحاصل إنَّ موضوع القاعدة هو عدم بيان الحكم الشرعي الكلي وهو غير متحقق في الشبهات الموضوعية، لأنَّ المفروض تمامية البيان عليه ووصوله الى المكلف فلا تجري القاعدة في الشبهات الموضوعية.
وأجابوا عنه: بأنَّ تنجيز الحكم الشرعي على المكلف يتقوم بوصول الكبرى والصغرى الى المكلف، والمقصود بالكبرى هو الحكم الشرعي الكلي، والمقصود بالصغرى هو الموضوع، ولا يكفي في التنجيز وصول أحدهما، فلو علم بالحكم الشرعي الكلي كحرمة الخمر فلا يكفي ذلك في التنجيز من دون أنَّ يعلم بأنَّ هذا السائل خمر، وكذا إذا علم بالصغرى من دون العلم بالكبرى، لكن المفروض في الشبهة الموضوعية هو وصول الكبرى فقط مع الشك في الصغرى!
فهذا الجواب كأنه يقول إنَّ الذي أُخذ عدمه في موضوع القاعدة ليس هو عدم الحكم الكلي كما قيل، وإنما هو عدم الحكم الفعلي المنجَّز، وفي محل الكلام لم يتم البيان على الحكم الفعلي، لأنَّ الحكم لا يكون فعلياً إلا بوصول الكبرى والصغرى، والمفروض في الشبهات الموضوعية عدم وصول الصغرى، فلا يكون الحكم منجَّزاً، أو قل وصل الجعل الى المكلف ولم يصل المجعول إليه، فعدم البيان محرز في المقام.
وبعبارة أخرى: إنَّ ما يتنجَّز على المكلف هو الحكم الفعلي الذي يُعبر عنه بالحكم المجعول، ومن الواضح أنَّ الحكم إنما يصير فعلياً عند العلم بموضوعه وإلا فهو مجرد حكم ثابت على الموضوع المقدر الوجود أي الجعل ولا أثر له في التنجيز، وعليه فالحكم بحرمة الخمر لا يصير فعلياً ومنجَّزاً في المقام لعدم العلم بموضوعه وإن عُلم بالجعل أي بحرمة الخمر.
وعلى تقدير جريان البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية هل يُشترط في جريانها الفحص بحيث لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص أو لا يُشترط ذلك؟
المعروف بين القائلين بالبراءة العقلية عدم الاشتراط بخلاف الشبهات الحكمية، ومن هنا يقع السؤال عن أنَّ ما استُدل به على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية هل يمكن الاستدلال به في الشبهات الموضوعية أو لا؟
من الواضح أنَّ الوجوه الثلاثة المتقدمة مختصة كلها بالشبهات الحكمية، فإنَّ العلم الإجمالي أطرافه هي الأحكام الشرعية الواقعية، وكذا أخبار وجوب التعلم مختصة بالأحكام الشرعية، ومثلها أخبار التوقف مختصة بالشبهات الحكمية.
وأما ما أستُدل به على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية وهو أنَّ البيان الذي أُخذ عدمه في موضوع البراءة العقلية يُراد به الأعم من البيان الواصل والبيان الذي يكون في معرض الوصول، وهذا باعتبار أنَّ طريقة الشارع في ايصال احكامه هي جعلها في موضع لو فحص عنها المكلف لعثر عليها، فالبيان الذي يكون عدمه موضوعاً للقاعدة ليس هو خصوص البيان الواصل وإنما الاعم منه ومن البيان الذي يكون في معرض الوصول، ومن هنا يقال لا تجري البراءة العقلية في الشبهات الحكمية قبل الفحص لعدم احراز تحقق موضوعها، فإنَّ عدم البيان الذي هو في معرض الوصول لا يُحرز إلا بالفحص، وأما احراز عدم الوصول وإن كان ممكناً لكنه ليس هو موضوع القاعدة العقلية، إذا اتضح ذلك نقول:
هل يمكن تطبيق ذلك في الشبهات الموضوعية فننتهي الى عدم جريان البراءة العقلية فيها قبل الفحص كما هو الحال في الشبهات الحكمية أو لا يمكن تطبيق ذلك في محل الكلام؟