46/11/08
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
تبين مما تقدم عدم تمامية إشكال المحقق النائيني الذي ذهب الى عدم الانحلال، وصحة الاعتراض الذي ذُكر عليه، فيبدو أنَّ الصحيح - الى الآن - هو انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي.
وفي المقابل يُفهم من كلمات المحقق العراقي الاستدلال على عدم الانحلال أيضاً، وحاصل كلامه هو:
إنَّ العلم التفصيلي إنما يكون حالاً للعلم الإجمالي حقيقة إذا كان ناظراً إليه ومعيّناً له فيما قام عليه، فلو فرضنا أنه علم إجمالاً بنجاسة أحد إناءين نجاسةً حاصلةً من سقوط قطرة دم، ثم علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما المعيَّن بتلك النجاسة الحاصلة من سقوط قطرة دم فهذا العلم التفصيلي ناظر الى العلم الإجمالي ومبيّناً له، وحينئذٍ يكون الاناء الثاني مشكوكاً بالشك البدوي، ولا يكفي في تحقق الانحلال الحقيقي مجرد أن يكونا متعلقين بعنوانين متطابقين كما لو علم تفصيلاً في المثال السابق بنجاسة الاناء الأيمن بنجاسة ناشئة من سقوط قطرة دم لكن بلا تعيين ونظر وإنما هناك تطابق في العنوان فقط، فهذا لا يكفي في تحقق الانحلال الحقيقي.
وبناءً عليه لا انحلال حقيقي في محل الكلام لأنَّ المعلوم تفصيلاً من الأحكام الالزامية بعد الفحص - وإن كانت لا تقل عن المعلوم بالإجمال - إلا أنَّ العلم التفصيلي لا نظر له الى العلم الإجمالي ولا الى تعيينه.
ثم يقول: وقد يقال بتحقق الانحلال الحكمي، بمعنى أنَّ العلم الإجمالي لا يترتب عليه الأثر وهو المنع من إجراء الأصول في الاطراف.
لكن الانحلال الحكمي مشروط بالمعاصرة بمعنى أنَّ العلم التفصيلي أما أن يتقدم على العلم الإجمالي أو يقارنه، ولا يجوز أن يتأخر عنه وإلا فُقد شرط الانحلال الحكمي، والوجه فيه هو أنَّ العلم الإجمالي إذا فرض متأخراً عن العلم التفصيلي فلا يُنجِّز معلومه في دائرة تنجَّز فيها بعلم تفصيلي سابق، نعم هو صالح لتنجيز معلومه على تقدير وقوعه في الطرف الآخر، وهذا يعني أنه غير صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير وهو الشرط في منجزية العلم الإجمالي، فيسقط عن التنجيز ولا يمنع من جريان البراءة في الأطراف.
وأما إذا فرضنا تأخر العلم التفصيلي عن العلم الإجمالي فلا يتحقق الانحلال الحكمي لأنَّ حصول العلم الإجمالي أولاً ينجِّز جميع الأطراف، أي يمنع من جريان الأصول في تمام أطرافه، ثم إذا علم تفصيلاً بنجاسة الإناء الايمن فلا يعود الأصل في الطرف الآخر لأنَّ الأصل إذا سقط بالمعارضة لا يعود، وهذا يعني عدم تحقق الانحلال الحكمي فإنَّ العلم الإجمالي لا زال يمنع من جريان الأصول في أطرافه حتى مع العلم تفصيلاً بنجاسة أحد الاناءين المعين.
وعليه يقول: لا ينحل العلم الإجمالي في محل الكلام أما عدم الانحلال الحقيقي فلعدم نظر العلم التفصيلي إلى العلم الإجمالي، وأما الانحلال الحكمي فلأنَّ العلم التفصيلي متأخر عن العلم الاجمالي بحسب الفرض، فإنَّ العلم الإجمالي بالتكاليف الالزامية متقدم على الفحص وعلى حصول العلم التفصيلي، وقد تقدم أنَّ العلم الإجمالي نجَّز الاطراف في مرتبة سابقة على العلم التفصيلي وإذا سقطت الأصول بالمعارضة فلا تعود بعد حصول العلم التفصيلي، وهذا معنى عدم سقوط العلم الاجمالي حكماً، وعليه يكون ما ذكره المحقق النائيني هو الصحيح.
والحاصل: إنَّ شرط الانحلال الحكمي - هو المعاصرة وعدم تقدم العلم الاجمالي على العلم التفصيلي - غير متحقق في المقام لوضوح أنَّ العلم التفصيلي إنما يحصل بالفحص فيكون متأخراً عن العلم الإجمالي، فلا يتحقق شرط الانحلال الحكمي، وعليه فلا انحلال حقيقي ولا انحلال حكمي فيصح كلام المحقق النائيني.
ويلاحظ عليه: إنَّ أصل ما ذكره - من توقف الانحلال الحقيقي على أن يكون العلم التفصيلي ناظراً الى العلم الإجمالي ومعيناً للمعلوم بالإجمال في أحد الأطراف بعينه - محل كلام، والمعروف هو تحقق الانحلال الحقيقي إذا كان العنوانان متطابقين وإن لم يكن العلم التفصيلي ناظراً الى العلم الإجمالي ومعيناً لمعلومه، فإذا علمنا بموت أحد شخصين إما زيد وإما عمرو ثم علمنا بموت زيد تفصيلاً، أو علمنا باحتراق أحد كتابين ثم علمنا تفصيلاً أنه كتاب الشرائع، وكذا إذا علمنا بنجاسة أحد إناءين بسبب سقوط قطرة دم ثم علمنا تفصيلاً أنه الإناء الأيمن ففي كل هذه الفروض يتحقق الانحلال الحقيقي لأنَّ العنوانين متطابقان، وهو كافٍ في تحقق الانحلال فإنَّ المكلف لا يمكنه أنَّ يقول النجاسة إما في هذا الاناء وإما في ذاك، وهذا هو ضابط العلم الاجمالي، وهذا يعني أنَّ الإنحلال لا يتوقف على النظر، وهذه مناقشة في أصل المبنى.
نعم خصوصية كونها من دم زيد أو في زمان كذا أو مكان كذا وإن كان يُحتمل عدم انطباقها على المعلوم بالتفصيل إلا أنها خصوصيات غير دخيلة في النجاسة المعلومة بالإجمال، وإنما الدخيل هو كونها من دم، وعليه لا تكون هذه الخصوصيات مأخوذة في المعلوم بالإجمال وما يعلمه إجمالاً هو نجاسة من دم وهو ينطبق على ما يعلمه تفصيلاً فيتحقق الانحلال الحقيقي، بمعنى أنَّ المكلف لم يعد يعلم إجمالاً بنجاسة من دم مرددة بين هذا وهذا، وإنما يعلم بنجاسة من دم في هذا الطرف ويشك في نجاسة الطرف الآخر.