« قائمة الدروس
الأستاذ الشيخ هادي آل راضي
بحث الأصول

46/10/28

بسم الله الرحمن الرحيم

/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية

الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/

 

كان الكلام في الوجه الرابع لبيان قصور المقتضي ومنع اطلاق أدلة البراءة لحالة ما قبل الفحص، هو دعوى أنَّ دليل البراءة وإن كان مطلقاً في حد نفسه إلا أنه مقيد بعدم قيام الأمارة المعتبرة على الخلاف.

وقلنا إنَّ هذا الوجه مبني على دعوى أنَّ الأحكام الظاهرية متنافية فيما بينها كالإحكام الواقعية، فالبراءة تتنافى مع قيام الحجة على التكليف واقعاً، وهذا يعني أنَّ البراءة مقيدة بعدم المنافي، فكأنَّ أدلة البراءة خُصصت بقيام الأمارة على الخلاف، فتجري البراءة إلا إذا قامت الأمارة المعتبرة على الخلاف، وقبل الفحص توجد شبهة مصداقية لهذا المخصص فالتمسك بالعام – وهو دليل البراءة – يكون تمسكاً به في الشبهة المصداقية لمخصصه، وهو غير جائز لا بلا إشكال.

وأما إذا قلنا بالرأي الآخر الذي لا يرى التنافي بين الإحكام الظاهرية فلا يتم هذا الوجه وذلك باعتبار أنه لا مانع من التمسك بدليل البراءة قبل الفحص لعدم المنافاة بينه وبين ما يُحتمل من وجود حكم ظاهري على خلافه ناشئ من قيام أمارة معتبرة على الخلاف، فلا يكون جريان البراءة مقيداً بعدم الوجود الواقعي للأمارة المعتبرة على الخلاف، ومعه لا يكون التمسك بدليل البراءة تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه.

فإن قيل: لو التزمنا بمبنى غير المشهور فهو يقتضي عدم جواز التمسك بدليل البراءة حتى بعد الفحص وهذا مما لا يمكن الالتزام به، أما أنه يؤدي الى ذلك لبقاء احتمال وجود أمارة معتبرة على الخلاف حتى بعد الفحص، فإنَّ الفحص لا يستلزم القطع بعدم وجود الأمارة، فيأتي الكلام المتقدم من أنَّ التمسك بأدلة البراءة يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه، وهذا يؤدي الى المنع من جريان البراءة مطلقاً قبل الفحص وبعده وهذا ما لا يمكن الالتزام به.

قلنا: من الواضح أنَّ الأمارة المحتملة بعد الفحص وعدم العثور عليها لا تكون في معرض الوصول وإلا لعثر عليها بالفحص، ومثلها لا يكون حجة ولا يكون معتبراً فلا يكون وجودها الواقعي مانعاً من جريان البراءة، لأنَّها ليست مقيدة بعدم هذه الأمارة وإنما هي مقيدة بعدم الأمارة المعتبرة وهي التي تكون في معرض الوصول، وعليه لا يكون الشك في مثل هذه الأمارة شكاً بنحو الشبهة المصداقية للمخصص حتى يمنع من التمسك بأدلة البراءة، بخلاف الأمارة المحتملة قبل الفحص فإنها معتبرة لأنها في معرض الوصول أو على الأقل لم يثبت كونها ليست في معرض الوصول.

وأما عدم حجية الأمارة التي لا تكون في معرض الوصول فباعتبار أنَّ ما لا يمكن للمكلف الوصول إليه فلا يكون حجة عليه، لأنَّ الحجية تعني التنجيز واستحقاق المؤاخذة والعقاب على المخالفة وهذا لا يثبت لما لا يتمكن المكلف من الوصول إليه، بمعنى أنَّ الشارع لا يجعل شيئاً حجة ومنجزاً على المكلف إلا إذا كان بإمكان المكلف الوصول إليه.

وبناءً عليه يندفع الاشكال السابق أي المنع جريان البراءة حتى بعد الفحص.

والظاهر أنَّ هذا الوجه يتم حتى على مسلك حق الطاعة فإنه ناظر الى حكم العقل وكلامنا هنا بلحاظ جعل الشارع الحجية لما يتمكن المكلف من الوصول إليه.

والى هنا يبدو أنَّ الوجه الرابع يكون تاماً ولكن على المبنى القائل بأنَّ الأحكام الظاهرية متنافية واقعاً وبحسب وجوداتها الواقعية فيكون جريان البراءة مقيداً بعدم قيام الأمارة على الخلاف.

أقول: إنَّ الذي يثبت بهذا الجواب هو عدم حجية الأمارة إذا لم تكن في معرض الوصول، ولكن هل تثبت حجيتها إذا كانت في معرض الوصول وإن لم تكن واصلة فعلاً أو أنها لا تكون حجة إلا بالوصول الفعلي؟

فإذا قلنا بالثاني فهو يعني أنَّ أدلة الحجية لا تشمل الأمارة إذا كانت في معرض الوصول ولم تصل فعلاً، فلا يتم الوجه الرابع لأنَّ المفروض عدم وصول الأمارة على الخلاف الى المكلف فلا تكون حجة فلا يمنع وجودها الواقعي من جريان البراءة، ولا يكون التمسك بأدلة البراءة تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه، لأنَّ دليل البراءة ليس مقيداً بعدمها وإنما هو مقيد بعدم الأمارة المعتبرة أي الواصلة والمفروض أنها غير واصلة، نعم يتم على الوجه الأول أي يكفي في شمول أدلة الحجية للأمارة أن تكون في معرض الوصول.

هذان وجهان، قد يقال بالثاني – أي أنَّ الحجية مقيدة بالوصول الفعلي – بدعوى أنَّ أدلة حجية الأمارة لا اطلاق فيها لما قبل الوصول، أما بناء العقلاء فهو مختص بالأمارة الواصلة لأنه دليل لُبي يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو الأمارة الواصلة فعلاً.

وأما الأدلة اللفظية المستدل بها على بعض الأمارات كخبر الثقة منها آية النبأ وقوله عليه السلام: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان...) فهي مختصة بفرض الوصول أيضاً، أما الآية فالاستدلال يكون بمفهومها وهو إن جاءكم غير الفاسق بنبأ فلا يجب التبيُّن، فعدم وجوب التبيُّن يثبت عند مجيء العادل بالنبأ وهو بمعنى الوصول، وكذا الحديث فإنَّ قوله عليه السلام (أدّيا إليك عنّي) بمعنى الوصول، فالحجية فيهما ثابتة لما بعد الوصول ولا اطلاق فيها يشمل ما قبل الوصول.

logo