46/10/27
/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ الشرائط المعتبرة في جريان البراءة/
كان الكلام في اشتراط وجوب الفحص لإجراء البراءة الشرعية وذلك بدعوى قصور المقتضي عن الشمول لما قبل الفحص، وانتهينا الى البيان الثاني لهذه الدعوى وهو ما ذكره السيد الشهيد قده ، ولوحظ عليه بملاحظتين تقدم ذكرهما.
ويمكن التأمل في الملاحظة الأولى - التي تقول بأنَّ المتكلم ليس في مقام بيان من جهة عقد المستثنى – بأنه ليس هناك ضابط عام يقول كل دليل يرد فيه الاستثناء فالمتكلم ليس في مقام بيان من جهة المستثنى ، وهل يمكن الالتزام بذلك في سائر ما يلحق بالكلام كما قيل في الاستثناء! هذه الدعوى لا دليل عليها، وإنما المتكلم في مقام البيان من ناحية المستثنى والمستثنى منه.
الوجه الثالث لقصور المقتضي وهو: دعوى أنَّ احتمال القرينة المتصلة بالكلام يوجب اجماله ويمنع من التمسك بظهوره، كما هو الحال في احتمال قرينية الموجود إذ اتفقوا على أنه يوجب الاجمال، وهناك رأي شاذ مخالف للمشهور يقول إنَّ احتمال وجود القرينة يوجب الاجمال أيضاً ويمنع من التمسك بالظهور، وهذا الوجه يجري بناءً على هذا الرأي فيقال نحتمل وجود قرينة متصلة بأدلة البراءة الشرعية توجب إجمالها وتمنع من التمسك بظهورها واطلاقها لحالة ما قبل الفحص، ثم تُبين هذه القرينة المحتملة فيقال: إنَّ الشارع اهتم ببيان الاحكام الشرعية اهتماماً بالغاً كما اهتم بنشرها وأمر الناس بتعلمها والفحص عنها، وهذا ما يكون موجباً لاحتفاف أدلة البراءة بهذه القرينة المتصلة الموجبة لعدم انقاد الظهور في الاطلاق، وذلك لأنَّ البراءة لو جرت قبل الفحص فما هي فائدة وجوب التعلم والفحص! وحيث أنَّ الشارع اهتم بهما فيكون ذلك قرينة متصلة تحتف بأدلة البراءة وتوجب اختصاصها بما بعد الفحص وهو المطلوب.
وقد يعترض عليه: بأنَّ احتمال وجود القرينة المتصلة يمكن نفيه بشهادة الراوي بعدم وجودها، فإنَّ مقتضى أمانة النقل هو نقل القرينة المتصلة بالكلام فإذا نقل الراوي الرواية من دون نقل قرينة فهذا يعني أنه يشهد بعدم بوجود قرينة متصلة بالكلام، ومعه لا يكون احتمال وجودها موجباً لإجمال الكلام وعدم إمكان التمسك بالظهور، وعليه يمكن التمسك بإطلاق أدلة البراءة لأثبات جريانها قبل الفحص.
وجوابه: إنَّ صحة التمسك بشهادة الراوي لنفي وجود القرينة المتصلة فيما إذا كانت القرينة مقالية وإلا لم يكن أميناً في النقل، بل يشعر الراوي أنه ملزم بنقلها، وأما إذا كانت القرينة حالية - كالقرينة المذكورة في المقام المتصيدة من مجموع أحوال الشارع - فلا يمكن نفيها بشهادة الراوي لأنه لا يرى نفسه ملزماً بنقل القرائن الحالية.
ويضاف الى ذلك إنَّ اثبات الظهور استناداً الى شهادة الراوي التي تثبت حجيتها بالتعبد الشرعي محل تأمل، فإنَّ معنى حجية شهادة الراوي هو أنَّ الشارع أمرنا بأن نتعامل مع مضمون الخبر معاملة الواقع، وهذا تعبد شرعي، فهل يمكن أن نستند إليه لإثبات ظهور الكلام بحيث نقول إنَّ الكلام ظاهر في الاطلاق والشمول لحالة ما قبل الفحص ؟
هذا غير واضح ، نعم يمكن الاستناد الى شهادته لإثبات وجوب العمل بشهادته وإثبات حرمة مخالفة خبر الثقة مثلاً، وأما الاستناد اليها لإثبات الظهور وهو أمر واقعي تكويني وهي تعبد شرعي فغير ممكن، وإنما يثبت بالتعبد الشرعي الأمور الاعتبارية التعبدية وأما إثبات الظهور بشهادة الراوي فصعب جداً.
ومنه يظهر الجواب عن إشكال آخر قد يُذكر في المقام وهو اجراء الاستصحاب لإثبات عدم وجود القرينة المتصلة عند الشك في وجودها.
وجوابه: لا يمكن إثبات الظهور استناداً الى الاستصحاب الذي هو تعبد صرف كما هو واضح، وانما يثبت وجوب العمل بالظهور وحرمة مخالفته ونحو ذلك من الأمور الاعتبارية.
ومن هنا يظهر أنَّ العمدة في الجواب عن الوجه الثالث هو إنكار المبنى - أي أنَّ احتمال القرينة المتصلة يوجب الاجمال كاحتمال قرينية الموجود – وهو الصحيح وإليه ذهب المشهور، فلا بد من التفصيل بين احتمال قرينية الموجود وبين احتمال وجود القرينة فالأول يوجب الإجمال دون الثاني.
الوجه الرابع: وهو دعوى أنَّ دليل البراءة وإن كان في نفسه مطلقاً لكنه مقيدٌ بعدم قيام الامارة المعتبرة على خلاف البراءة ، وبناءً عليه يحتمل الفقيه قبل الفحص وجود أمارة على التكليف فلا يجوز له أن يتمسك بالبراءة لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه، والعام هنا هو أدلة البراءة والمخصص لها هو قيام الأمارة المعتبرة على التكليف، وعليه لا يجوز التمسك بالبراءة قبل الفحص ويجوز ذلك بعد الفحص، وهذا ما ينتج اختصاص أدلة البراءة بما بعد الفحص، وهذا الوجه مبني على مسلك لا يبني عليه المشهور ويبني عليه السيد الشهيد قده وحاصله:
إنَّ الأحكام الظاهرية متنافية فيما بينها في الواقع كما هو الحال في الأحكام الواقعية، فكما لا يمكن اجتماع الاحكام الواقعية كذلك لا تجتمع الاحكام الظاهرية المتنافية، فلا تجتمع البراءة مع الاحتياط، وهذا منه بناءً على أنَّ ملاكات الإحكام الظاهرية هي نفس ملاكات الإحكام الواقعية التي يُجعل ذلك الحكم الظاهري لغرض حفظها، وحينئذٍ يكون الوجود الواقعي للأمارة المعتبرة مانعاً من جريان البراءة فتكون البراءة مقيدة بعدمه، فإنَّ البراءة حكم ظاهري والأمارة المعتبرة حكم ظاهري أيضاً فلا يجتمعان، وعليه تكون البراءة مقيدة بعدم قيام الأمارة المعتبرة على الخلاف، وحينئذٍ يأتي الوجه السابق فيقال إنَّ المكلف قبل الفحص يشك في وجود الأمارة المعتبرة فلا يجوز التمسك بأدلة البراءة لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لمخصصه.