46/06/29
دوران الأمر بين الأقل والاكثر في المحصِّل/ أصالة الاحتياط / الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / دوران الأمر بين الأقل والاكثر في المحصِّل
حاصل الوجه الثاني:
لو سلَّمنا جريان البراءة في سببية الأكثر فلا يثبت بذلك سببية الأقل إلا على القول بالأصل المثبت، فيحكم العقل بالاحتياط للاشتغال اليقيني بالمسبَّب ولا فراغ للذمة يقيناً إلا إذا جاء بالأكثر.
وفيه: إنه إنما يتم إذا لم نلتزم بالبيان الثاني المتقدم لجريان البراءة إذ يمكن حينئذٍ فرض أنَّ المسبَّب داخل في العهدة يقيناً فلا بد القطع بالفراغ بالإتيان بالأكثر حتى إذا نفينا سببيته بالبراءة، وأما إذا التزمنا بالوجه المتقدم فلا يتم هذا الوجه لأنّ ما نتيقن دخوله في العهدة ليس هو المسبَّب بحده الواقعي بل المسبَّب بمقدار ما تم عليه البيان من سببه - وهو الأقل - وأما زاد عليه فهذا مما لا يُعلم اشتغال الذمة به، فيكفي الاتيان بالأقل.
الوجه الثالث: أن يقال بأنَّ السببية والجزئية أحكام وضعية انتزاعية وليست أمراً مجعولاً من قبل الشارع، والبراءة يُشترط في جريانها أن يكون المشكوك من المجعولات الشرعية، وعليه لا تجري البراءة في السببية ولا في الجزئية.
وأجيب عنه: بأنَّ السببية وكذلك الجزئية وإن لم تكن مجعولة من قبل الشارع بالأصالة لكنها مجعولة بالتبع أي بتوسط الحكم التكليفي الذي هو منشأ انتزاعها فتجري فيها البراءة.
وفيه: إنَّ هذا الجواب يُسلِّم بالشرط المذكور وفي قباله رأي آخر يقول يكفي في جريان البراءة أن يكون المشكوك قابلاً للتنجيز لأنَّ وظيفة البراءة هي التأمين من ناحيته، نعم إذا لم يكن قابلاً للتنجيز ولإيجاب الاحتياط فلا معنى لجريان البراءة فيه بل لا بد أن يكون قابلاً للتنجيز وإلا فلا تجري البراءة حتى إذا كان مجعولاً شرعياً، وحينئذٍ فالسببية أو الجزئية إن لم تكن قابلة للتنجيز فلا تجري فيها البراءة حتى إذا كانت مجعولة شرعاً.
وهنا قيل إنَّ الصحيح هو أنها - أي الأحكام الوضعية - غير قابلة للتنجيز، والحكم الوضعي غير قابل للوضع الظاهري لإيجاب الاحتياط حتى يكون قابلاً للرفع الظاهري بالبراءة، وهو يعني المنع من جريان البراءة فيها، وإنما الذي يقبل الوضع الظاهري والرفع الظاهري هو منشأ انتزاعها وهو وجوب الأكثر في الجزئية وترتب الطهارة على هذا الفعل في السببية، وأما نفس الجزئية والسببية فليست كذلك.
والحاصل إنَّ السببية والجزئية لا تقبل التنجيز وإنما الذي يقبله هو منشأ انتزاعها فلو فُرض محالاً تحقق الجزئية من دون منشأ انتزاعها فلا يكون المكلف ملزماً بالإتيان بالأكثر.
والتعليق عليه: لا إشكال في إمكان أن يقول الشارع: (رفعتُ عنك جزئية السورة عند الشك فيها) فحينئذٍ مراد القائل بجريان البراءة في الجزئية والسببية إذا كان بمعنى رفع منشأ انتزاعها فلا اشكال في جريان البراءة.
مضافاً الى أنَّ البراءة لا تجري في سببية الأكثر أو جزئية الزائد المشكوك حتى يُعترض عليه بما ذُكر، بل تجري في نفي المسبَّب الشرعي المأمور به بالمقدار الذي لم يتم على سببه البيان من الشارع، وهو مجعول شرعي قابل للتنجيز وايجاب الاحتياط من جهته فيكون قابلاً لجريان البراءة.
والحاصل: إنَّ إثبات عدم لزوم الاحتياط وجواز الاكتفاء بالأقل لا ينحصر بإجراء البراءة في سببية الأكثر أو جزئية الزائد بل يمكن اجراؤها في نفس المسبَّب، بل هذا هو المتعين على ما تقدم في الأمر الثاني، فننتهي الى نفس النتيجة وهي الاقتصار على الأقل وعدم لزوم الاتيان بالأكثر.