46/05/10
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين/ أصالة الاحتياط / الأصول العملية
الموضوع: الأصول العملية/ أصالة الاحتياط / دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين
كان الكلام في المانع الأول من إجراء البراءة في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين بحسب الأجزاء، وهو العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر، قالوا إنَّ مقتضى القاعدة أنه ينجِّز كلا الطرفين ويمنع من إجراء البراءة فيهما، والطرفان هما الأجزاء الأقل والأكثر، وأنَّ الدوران بينها في الواقع هو من الدوران بين المتباينين وليس بين الأقل والأكثر، فإنه على تقدير وجوب الأقل فالأكثر ليس واجباً، وعلى تقدير وجوب الأكثر فالأقل ليس واجباً، فإذا صح ذلك فلا ينحل العلم الإجمالي لأنه إنما ينحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الزائد.
وبعبارة أخرى إنَّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي المتعلق إما بالأقل أو بالأكثر والنسبة بينهما التباين، وليس هو الأقل والأكثر لأنَّ وجوب الأكثر لا يعني وجوبين وجوب الأقل ووجوب الزائد عليه حتى يقال بأنَّ الأقل معلوم الوجوب على كل تقدير فينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك في الزائد، بل هو وجوب واحد متعلق إما بالمركب من عشرة أجزاء أو بالمركب من تسعة أجزاء ولا علم بأحدهما تفصيلاً.
وأجيب عن هذا المانع بوجوه:
الوجه الأول ما ذكره الشيخ الأنصاري في الرسائل، وحاصله إنَّ العلم الاجمالي المذكور منحل بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل إما بوجوب نفسي على تقدير عدم وجوب الزائد، وإما بوجوب غيري على تقدير وجوب الأكثر، ويكون الأقل مقدمة للكل فيتصف بالوجوب الغيري فهو واجب على كل تقدير، وعليه يكون الأقل معلوم الوجوب بالتفصيل وينحل العلم الإجمالي، ولا مانع من جريان البراءة لنفي الزائد المشكوك.
وهذا الوجه يتوقف على أمور لا بد من افتراض صحتها، منها القول بوجوب مقدمة الواجب، فيتصف الأقل بالوجوب الغيري على تقدير وجوب الأكثر، وبالوجوب النفسي على تقدير عدم وجوب الأكثر، وهو محل نظر.
ومنها القول بأنَّ الأجزاء من المقدمات الداخلية للواجب، وهو محل نظر أيضاً لأنها هي الكل مجتمعة وليست غيره.
توجيه المحقق النائيني لكلام الشيخ الأنصاري:
ولما كانت هذه الأمور غير مسلَّمة ذكر المحقق النائيني بأنَّ مقصود الشيخ ليس هو الوجوب الغيري المقابل للوجوب النفسي وإنما الوجوب الضمني المقابل للوجب الاستقلالي، بمعنى أنَّ الأقل يُعلم وجوبه وجوباً نفسياً لكنه مردد بين أن يكون استقلالياً أو ضمنياً لأنه على تقدير وجوب الأكثر فالأقل يكون واجباً بوجوب ضمني، وعلى تقدير عدم وجوب الأكثر يكون واجباً بوجوب نفسي استقلالي، فالتردد يكون بين الضمنية والاستقلالية لا بين النفسية والغيرية، فيدعى انحلال العلم الإجمال بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل بوجوب نفسي وشك في الزائد فتجري البراءة لنفيه.
ولوحظ على هذا الوجه بملاحظات:
الملاحظة الأولى: إنَّ العلم التفصيلي بوجوب الأقل المردد بين النفسي والغيري لا يصلح لحل العلم الإجمالي لكونه معلولاً للعلم الإجمالي فيكون في رتبة متأخرة عنه، وفي مثله يكون العلم الإجمالي في رتبة سابقة مؤثراً في تنجيز معلومه على كلا التقديرين، فلا يبقى مجال لتأثير العلم التفصيلي المتأخر حتى يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي.
وبعبارة أخرى إنَّ العلم الإجمالي لما كان أسبق رتبة يكون قد أثر أثره في الرتبة السابقة، أي أنَّ الأقل تلقى التنجيز في الرتبة السابقة على العلم التفصيلي، فيستحيل أن يتنجز بالعلم التفصيلي في مرتبة لاحقة لقاعدة أنَّ المنجَّز لا يتنجز، فلا يكون موجباً لانحلال العلم الإجمالي.
وأجيب عنها: بأنَّ العلم التفصيلي المذكور وإن كان متأخراً عن العلم الإجمالي لكنه ليس متأخراً رتبة عن أثره وتنجيزه، لأنَّ العلم التفصيلي وتنجيز العلم الإجمالي معلولان لعلة واحدة وهي العلم الإجمالي، إذن العلم التفصيلي في رتبة أثر وتنجيز العلم الإجمالي لكن ذلك لا يستلزم أن يكون تنجيز العلم التفصيلي متأخراً رتبة عن أثر وتنجيز العلم الإجمالي حتى يقال أنَّ العلم الإجمالي أثر أثره ونجَّز الأقل في رتبة سابقة والمنجَّز لا يتنجز، وذلك لعدم صحة قانون أنَّ المتأخر عن أحد المتساويين رتبة متأخر عن الآخر رتبة، وعليه فالأثران والتنجيزان للعلمين في رتبة واحدة وفي عرض واحد كما هو الحال في العلمين الإجمالي والتفصيلي في الموارد الأخرى.
نعم يرد على هذه الملاحظة أنه إن ادُعي الانحلال الحقيقي فهو مشروط بتعلق العلم التفصيلي بأحد طرفي العلم الإجمالي، وهذا غير متحقق في المقام لأنَّ طرفي العلم الإجمالي عبارة عن الوجوب النفسي للأقل أو الوجوب النفسي للأكثر، والعلم التفصيلي لم يتعلق بالوجوب النفسي للأقل بل تعلق بالجامع بين الوجوب النفسي والوجوب الغيري للأقل وهذا لا يوجب الانحلال الحقيقي.
وإن ادعي الانحلال الحكمي بتقريب أنَّ وجوب الأقل منجَّز على كل حال فلا تجري فيه البراءة فتجري في الطرف الآخر بلا معارض، ففيه أنَّ الوجوب الغيري لا يصلح لتنجيز متعلقه وإنما المنجِّز هو الوجوب النفسي فقط فكيف يُدعى أنَّ الأقل منجَّز على كل تقدير مع أنه على أحد التقديرين وهو ما إذا كان الأكثر واجباً لا يكون منجَّزاً.
هذا هو حال الوجه الأول للجواب عن المانع والتعليقات التي ذُكرت عليه.