46/04/29
الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء
الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء
تبين مما تقدم أنَّ كِلا الاحتمالين - السببية والتبعية - ممكن ثبوتاً، ومن هنا يقع الكلام في مقام الإثبات:
ومن الواضح أنه على السببية لا يكفي في وجوب الاجتناب عن الملاقي مجرد وجوب الاجتناب عن الملاقى لما تقدم من أنَّ السببية تعني أنَّ لكل منهما حكماً مستقلاً لا بد أن يثبت بالدليل، فإن ثبت بالدليل وجوب الاجتناب عن الملاقى فلا يكفي ذلك في إثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي ولا بد من فرض جعل وتشريع جديد غير التشريع المتعلق بالاجتناب عن الملاقى.
وبناءً على السببية نقول في فرض العلم التفصيلي بنجاسة شيء يثبت وجوب الاجتناب عن النجس وعن ملاقيه لقيام الأدلة على أنَّ ملاقي النجس نجس يجب الاجتناب عنه، وأما على الاحتمال الآخر فلا حاجة الى دليل لإثبات وجوب الاجتناب عن الملاقي، ويكفي فيه الدليل الدال على وجوب الاجتناب عن الملاقى، لأنَّ الملاقي من شؤون وتبعات الملاقى، فنفس الدليل الدال على نجاسة النجس ووجوب الاجتناب عنه يدل على نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه، هذا هو الفرق بينهما.
ومن هنا يقال إنَّ وجوب الاجتناب عن ملاقي أحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة يتنجَّز بنفس العلم الإجمالي المذكور على الاحتمال الثاني ولا يتنجَّز بذلك على القول بالسببية.
وقد يعترض على ذلك بأنَّ ظاهر دليل الحكم بوجوب الاجتناب عن الملاقي كونه حكماً مستقلاً جديداً فيكون الالتزام بأنه من شؤون وتوابع الحكم بوجوب الاجتناب عن النجس خلاف ظاهر الدليل.
والجواب عنه هو أن نقول إنَّ الدليل وإن دلَّ على ذلك لكنه أعم من كونه وجوباً استقلالياً أو تبعياً لأنَّ التبعية يثبت بها أيضاً وجوب الاجتناب عن الملاقي.
وبعبارة أخرى لو فرضنا أنَّ الشارع أراد بيان حكم ملاقي النجس على الاحتمال الثاني وأنه وجوب الاجتناب فيُبينه بلسان (اجتنب عن ملاقي النجس) أيضاً فهو لازم أعم فلا يمكن الالتزام به على نفي التبعية
الاستدلال على التبعية:
وقد يُستدل على التبعية في مقابل السببية بأنها مقتضى الارتكاز العرفي، ويُستشهد له بأمور:
منها: الارتكاز العرفي بعدم سراية النجاسة من النجس الى الماء العالي الوارد عليه، بخلاف العكس بأن يكون العالي هو النجس ويرد على الماء فإنَّ السراية حينئذٍ مركوزة في أذهان العرف، ومن الواضح بأنَّ نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه لو كان حكماً تعبدياً مستقلاً مسبباً عن وجوب الاجتناب عن الملاقى لما كان هناك فرق بين الفرضين فإنَّ السببية ثابتة في كل منهما.
ومنها: ما ينقل عن السيد ابن زهرة حيث استدل بقوله تعالى: ﴿وَٱلرُّجزَ فَٱهجُر﴾[1] على وجوب هجر الملاقي، فإنه يكشف عن ارتكاز التبعية وإلا لما صح الاستدلال لما عرفت من أنَّه على السبية لا يثبت وجوب هجر ملاقي النجس إلا بدليل غير هجر النجس.
والغرض من هذا الوجه هو بيان ارتكاز التبعية وأنه الدافع الى هذا الاستدلال، وليس قبول نفس الاستدلال.
ومنها: رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) (قال: أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن، أو زيت، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): لا تأكله، فقال له الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر (عليه السلام): إنّك لم تستخف بالفأرة، وإنما استخففت بدينك، إنَّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء.)[2]
والاستدلال بالعبارة الأخيرة فإنَّ الامام عليه السلام جعل الاجتناب عن الطعام الذي وقعت فيه الفأرة استخفاف بالدين، وفسره بتحريم الميتة فقال (إنَّ الله حرّم الميتة من كلّ شيء) فكأنَّ تحريم الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي الاجتناب عن الملاقي لها، لأنَّ نجاسة الملاقي للميتة إذا كانت فرداً آخر من النجاسة تثبت بتعبد آخر من الشارع وراء التعبد بنجاسة الميتة كان ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بوجوب الاجتناب عن الملاقي لها لا استخفافاً بتحريم الميتة، لأنَّ حرمة الميتة على هذا لا ربط لها بحرمة الملاقي حتى يكون ترك الاجتناب عن الملاقي استخفافاً بحرمة الميتة.
والحاصل: إنَّ الرواية ظاهرة في أنَّ نجاسة الملاقى تقتضي بنفسها نجاسة الملاقي ووجوب الاجتناب عنه وهو معنى التبعية، إلا أنَّ الرواية غير تامة سنداً من جهة عمر بن شمر فإنَّ النجاشي ضعفه مرتين، كما ضعفه ابن الغضائري أيضاً.
ومنها: أنَّ الالتزام بالتبعية مطابق للنظر العرفي في باب القذارات العرفية، فإنه يرى بأنَّ اجتناب ملاقي القذر من شؤون الاجتناب عن القذر نفسه، وأنَّ من يرتكب الملاقي لا يُعد مجتنباً عن القذارة، وهذا النظر العرفي هو المُحكَّم في دليل الاجتناب عن النجس شرعاً، لظهوره في أنه يأمر بالاجتناب عن النجس بالنحو الذي يجتنبه العرف، والمفروض أنه يفهم أنَّ الاجتناب عن النجس يقتضي الاجتناب عن ملاقيه.
هذا وذكروا ثمرتين بين هذين الاحتمالين تظهران في محل الكلام.