46/04/12
الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء
الموضوع: الأصول العملية/ تنبيهات العلم الإجمالي / التنبيه الثاني انحلال العلم الإجمالي/ خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء
تبين مما تقدم أنَّ الوجوه التي استدل بها على اشتراط التكليف بالدخول في محل الابتلاء غير تامة، فالتكليف ثابت سواءً كان متعلقه داخلاً في محل الابتلاء أو كان خارجاً عنه، وبذلك يفترق الخروج عن محل الابتلاء عن عدم القدرة العقلية، حيث لا يكون التكليف فعلياً في الثاني ويكون فعلياً في الأول.
ومن هنا يظهر أنه إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجاً عن محل الابتلاء فلا مجال لدعوى انحلال العلم الإجمالي لأنَّ التكليف معلوم على كل تقدير وهو المناط في وجود العلم الإجمالي ويكون منجِّزاً.
قد يقال إنَّ العلم الإجمالي وإن لم يكن منحلاً حقيقة كما بُيِّن لكنه ينحل حكماً، فلا أثر له في التنجيز، وذلك لأنَّ الدخول في محل الابتلاء وإن لم يكن دخيلاً في فعلية التكليف لكنه يكون دخيلاً في جريان الأصل المؤمِّن، أي يمكن إجراء الأصل المؤمِّن في الطرف الداخل في محل الابتلاء ولا يُعارض بالأصل المؤمِّن في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فينحل العلم الإجمالي حكماً، وذلك لأنَّ منجزية العلم الإجمالي ناشئة من تعارض الأصول في الأطراف - بناءً على الاقتضاء - وتساقطها، وهنا يُدعى عدم جريان الأصل في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فإذا تمت هذه الدعوى فيجري الأصل في الطرف الداخل في محل الابتلاء بلا معارض، فلا يكون العلم الإجمالي مؤثراً في التنجيز وهو معنى الانحلال الحكمي.
وهذا الكلام متوقف على إثبات عدم جريان الأصل المؤمِّن في الطرف الخارج عن محل الابتلاء، فما هو الدليل على ذلك؟
ويجاب عنه بما تكرر ذكره عن السيد الشهيد قده بأنَّ أدلة الأحكام الظاهرية - ومنها الأصول المؤمِّنة - تُجعل لعلاج حالة التزاحم الحفظي بين الأغراض الواقعية المتزاحمة في مقام الحفظ، بمعنى أنَّ ما يُحفظ به أحدهما غير ما يُحفظ به الآخر، والمولى يلاحظ هذا التزاحم بين الأغراض فيجعل في مقام التشريع حكماً ظاهرياً يحفظ به الغرض الأهم بنظره، فالحكم الظاهري يكشف عن شدة اهتمام المولى بالأغراض الواقعية، سواءً كانت هذه الأغراض لزومية أو كانت ترخيصية كمصلحة التوسعة وإطلاق العنان، فيجعل الاحتياط لحفظ الأولى ويجعل البراءة لحفظ الثانية، وعليه يمكن القول في كل مورد يُعقل فيه التزاحم الحفظي يكون جعل الحكم الظاهري فيه مقبولاً، كما هو الحال في المورد الداخل في مورد الابتلاء، فإنَّ الأغراض الواقعية متزاحمة فيه فإذا كان الغرض اللزومي هو الأهم بنظر الشارع فيجعل الاحتياط لحفظه وإذا كان الغرض الأهم هو التوسعة واطلاق العنان فيجعل البراءة لحفظه وإن لزم من ذلك الوقوع في المفسدة، فيتزاحمان في مقام الحفظ، فيكون جعل الحكم الظاهري في هذا المورد واضحاً، وأما الطرف الخارج عن محل الابتلاء فلا يكون مورداً للتزاحم بحسب الفهم العرفي، بنحو يوجب انصراف دليل الحكم الظاهري عن هذا المورد، وهذا ما يمنع من شمول دليل الحكم الظاهري للطرف الخارج عن محل الابتلاء.
نعم التزاحم موجود بحسب النظر الدقيق فإنَّ المكلف يتحمل حرمته أو اباحته وإن كان خارجاً عن محل ابتلائه كما هو الحال في الطرف الداخل في محل الابتلاء، والغرض اللزومي في الطرف الخارج عن محل الابتلاء يحفظ بالاحتياط والغرض الترخيصي يحفظ بالبراءة، فيقع التزاحم بين الغرضين في مقام الحفظ، فيقدم الشارع ما هو الأهم بنظره ويجعل حكماً ظاهرياً على وفقه لحفظه، لكن المدعى هو أنَّ هذا التزاحم غير مقبول عرفاً، وذلك باعتبار أنَّ العرف يرى أنَّ الغرض اللزومي في الطرف الخارج عن محل الابتلاء مضمون الحصول لأنه لا يصدر من المكلف عادة، فلا مجال حينئذٍ لجعل الاحتياط لحفظه، كما لا مجال لجعل البراءة والتأمين لأنَّ المفروض أنَّ المكلف غير قادر على الفعل، وبالجملة إنَّ الغرض من جعل البراءة هو الحفاظ على مصلحة إطلاق العنان والسعة للمكلف وهذا غير مقبول عرفاً في الموارد التي يكون العبد غير قادر على الفعل فيها.
هذا هو الوجه الذي ذُكر لإثبات الانحلال الحكمي.
التعليق عليه:
من الواضح أنَّ هذا الوجه يتوقف على القول بالاقتضاء، وأما على القول بالعلية التامة فإجراء الأصل في أحد الطرفين ولو لم يكن له معارض ممنوع لأنه تفكيك بين العلة التامة ومعلولها، كما يتوقف على القول بالتزاحم الحفظي أيضاً، وأما إذا قلنا بأنَّ الأحكام الظاهرية الترخيصية تنشأ من مصلحة التسهيل النوعية فلا مانع من جعل مثل هذا الحكم الظاهري الترخيصي في كل مورد يُحتمل فيه التكليف لأجل التسهيل على نوع المكلفين سواء كان داخلاً في محل الابتلاء أو كان خارجاً عنه، لأنَّ الخارج عنه يُحتمل فيه التكليف لكونه مقدوراً عقلاً.