47/04/18
الموضوع: الدرس (الثاني والسبعون): تفسير الآية (27) من سورة البقرة
تفسير الآية 27 من سورة البقرة، وهي قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[1] .
جاءت هذه الآية في مقام بيان صفات الفاسقين، إذ أن الآية ستة وعشرين من سورة البقرة ختمت بقوله تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾[2] ، أي الخارجين عن طاعة الله.
[صفات الفاسقين الثلاثة]
السؤال: من هم الخارجون عن طاعة الله؟ والجواب: هم مَن تتوفر فيهم ثلاث صفات:
الصفة الأولى: ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
الصفة الثانية: يقطعون ما أمر الله به أن يوصل.
الصفة الثالثة: يفسدون في الأرض.
ثم تأتي النتيجة والخاتمة: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[3] .
وإليكم شرح مفردات الآية الكريمة:
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[4] :
النقض: هو الفت والفكّ والفسخ، ويُستعمل في مقابل الإبرام، ولا يُستعمل النقض غالباً إلا فيما فيه القوة واستعداد البقاء، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾[5] . إذاً النقض يكون للأمر المحكم والمُبرَم، لذلك النقض في مقابل الإبرام، ويتعلق النقض أيضاً بالميثاق نظراً لكون الميثاق موثوقاً وقوياً ومحكماً يَعسُر نقضه، قال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾[6] .
ميثاق: أخذ من الوثوق، أي الشيء الموثَّق المحكم الموثوق.
العهد: حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، ومادة (العهد) في أي هيئة استُعملت فإنها تفيد الالتزام والثبات والعزيمة. والمراد بالعهد في هذه الآية هو دين الله عز وجل، ﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ﴾ يعني ينقضون دين الله ﴿ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾.
الميثاق: ما يُوثَق به الشيء، كالميقات لِما يتحقق به الوقت. ويجوز أن يُضاف الميثاق إلى الله تعالى، ويجوز أن يضاف ويُنسب الميثاق إلى العبد، فإذا أُضيف الميثاق إلى الله تبارك وتعالى فحينئذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به الله تبارك وتعالى عباده. وإذا أُضيف الميثاق إلى العباد فيُراد به عباد الله الذين قبلوا عهد الله ظاهراً ثم نقضوه، فيكون المراد: من بعد ما أوثقوه. فيصير مفاد الآية: ﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ ﴾، أي دين الله ﴿ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾، يعني من بعد ما أوثقوه وأحكموه وتمسكوا به ظاهراً.
[الأوصاف الثلاثة للفاسقين]
والمعنى: إنه تبارك وتعالى لما وصف الضالّين بالفسق فقال: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾[7] ، فذكر لهم أوصافاً ثلاثة:
الأول: نقض العهد، أي نقض الدين.
الثاني: قطع ما يجب أن يوصل.
الثالث: الإفساد في الأرض.
والمراد بعهد الله هنا: ما عاهد الله تعالى به أنبياءه ورسله من المعارف والشرائع الراجعة إلى تربية العباد، أي دين الله عز وجل.
[العهد الفطري والتشريعي]
قد يُقال إن المراد العهد الأعم من العهد الفطري والعهد التشريعي، فهناك عهد فطري موثَّق بالعقل الذي هو أعظم حُجج الله تعالى، وهناك عهد تشريعي بإنزال الدين، فالمراد بنقض العهد: عدم الوفاء بالحجة الظاهرة وهي الأنبياء والمرسلون، والحجة الباطنة العقل، فعدم الوفاء بعهد الله قولاً وعملاً واعتقاداً، وهذا أمر وجداني، لكن ظاهر سياق الآية هي عدم الوفاء بعهد الله التشريعي، أي دين الله تبارك وتعالى.
قوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾[8] :
صلة كل شيء بحسبه. والمراد بقوله: ﴿مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ﴾[9] الأعم من الأمر التكويني والأمر التشريعي، والآية مطلقة:
- فصلة العقيدة بالله ورسله عبارة عن جعلها راسخة في النفس.
- وصلة الأحكام الإلهية التكليفية عبارة عن العمل بها والمواظبة على إتيانها.
- صلة النبي عبارة عن الاهتداء بهديه والعمل بما جاء به من ربه.
- صلة الرحم عبارة عن التآلف والتودد مع الرحم.
- وكذلك صلة المؤمنين مع بعضهم البعض بحيث تعمّهم الرحمة.
هذه صلة تشريعية.
[أنواع الصلة: العقيدة، الأحكام، النبي، الرحم، المؤمنون]
هناك صلة تكوينية وهي معرفة منافع ومضار الأشياء تكويناً ونتائجها المترتبة عليها، فقد يُقال إن المراد بقوله تعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾[10] المراد: مطلق الأوامر التكوينية والتشريعية، لكن ظاهر الآية هو خصوص الأوامر التشريعية، فأول صفة من صفات الفُسّاق أنهم ينقضون دين الله ويخالفونه، وثاني صفة: يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، أي يسعون في عدم وصول شيء من أوامر الله التشريعية إلى محالّها.
قوله تعالى: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾[11] ، الفساد في الأرض خلاف الصلاح. والصلاح والفساد أعم من الفردي والاجتماعي، ولكن بقرينة قوله تعالى: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾[12] قد ينصرف الفساد إلى خصوص الفساد الاجتماعي، فلعل ذكر الأرض قرينة على الحمل على خصوص الفساد الاجتماعي. والإفساد في الأرض هو إضلال الناس بالظلم والفتنة والغيبة والنميمة وغير ذلك.
قوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[13] ، هذه نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة، فإن مَن اتصف بهذه الصفات الثلاث استحق الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا خسران مبين.
[تطبيق الصفات على الواقع الاجتماعي]
وهذه الصفات الثلاث لو تأملنا في الواقع الاجتماعي لوجدنا أنها مستحكمة فالفسقة كالكثير من الحكام الظلمة:
أولاً: يحاربون دين الله، فهم ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فيدّعون أنهم مسلمون، ولكن في مقام العمل ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه.
وثانياً: يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، يمنعون الصدقات عن الفقراء ومستحقيها، ويمنعون العلماء والمبلغين عن إيصال ما أمر الله به.
الصفة الثالثة: ويفسدون في الأرض، يجعلون الفساد في الأرض منتشراً.
فتكون النتيجة: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[14] .
هذا تمام الكلام في بيان مفردات الآية سبعة وعشرين.
وبالنظر إلى الآية ستة وعشرين وسبع وعشرين من سورة البقرة يُطرح بحث الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين، إذ جاء في الآية ستة وعشرين: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾[15] [16] فنسب الهداية والإضلال إلى فعل الله تبارك وتعالى، فهل يُفهم من ذلك الجبر على الهداية والجبر على الضلال؟ ثم قالت الآية: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾[17] ، أي أن الله هو الذي يُضل خصوص الفاسقين، فنسب الفعل إلى الله تبارك وتعالى.
لكن الآية سبعة وعشرين التي وصفت الفاسقين نسبت الأفعال إلى نفس الفُسّاق لا إلى فعل الله، فقالت: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[18] فهم الذين ينقضون، ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾[19] فهم القاطعون، ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾[20] فهم الذين يقومون بالفساد، ونتيجة ذلك: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾[21] .
من هنا ذهبت بعض فِرق المسلمين إلى الجبر، فقالوا: إن الله عز وجل يُجبر العباد على أفعالهم ولا دخل لهم في اختياراتهم. وفي مقابل المُجبِرة خرج المُفوِّضة، وقالوا: إن الله عز وجل خلق الخلق ثم فوضهم في أفعالهم، فالله خلق أصل الخلق ولم يخلق أفعال الخلق، فالله عز وجل خلق الإنسان لكنه لم يخلق أفعال الإنسان وإنما فوّض هذه الأفعال إلى الإنسان.
وذهب الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري صاحب كتاب (مقالات الإسلاميين) إلى الجبر، وذهب المعتزلة أتباع واصل بن عطاء الذي اعتزل المسلمين إلى التفويض، والأكثر المسلمين من أهل السنة في العقائد اليوم هم أتباع أبي الحسن الأشعري، وأما المعتزلة فقد انقرضوا.
[مذاهب المسلمين في الجبر والتفويض]
إذاً هناك اتجاهان:
الاتجاه الأول: الجبر، وقالت به الأشاعرة.
الاتجاه الثاني: التفويض، وقالت به المعتزلة.
لكن الشيعة الإمامية لم تقل لا بالجبر ولا بالتفويض، فلم تقل بمذهب الأشاعرة ولم تقل بمذهب المعتزلة، بل ذهبت إلى ما ذهب إليه أئمة أهل البيت عليهم السلام كالإمام الصادق والكاظم والباقر بالقول بالأمر بين الأمرين، فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين.
والأمر بين الأمرين غير المنزلة بين المنزلتين. هناك بحث في علم الكلام بين الخوارج والمرجئة، فقال الخوارج بكفر مرتكب الكبيرة، وقال المرجئة بإيمان مرتكب الكبيرة، فقالوا: هو مؤمن ونُرجئ الحكم عليه ونؤخره إلى الله عز وجل. وقالت المعتزلة بالمنزلة بين المنزلتين، أي أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر - هذه منزلة - وليس بمؤمن كما قالت المرجئة، بل هو مسلم فاسق، فهذه منزلة - يعني منزلة الفسق - بين المنزلتين: بين منزلة الكفر وبين منزلة الإيمان والصلاح، هذا مصطلح المنزلة بين المنزلتين، هذا خاص بمرتكب الكبيرة، بحث كلامي.
أما مصطلح الأمر بين الأمرين فهذا يعني أنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين: بين الجبر والتفويض.
بيان ذلك: إن أصل الفعل وأصل الإقدار من الله لكن نحو الفعل وتسيير الفعل من العبد. مثال ذلك: يقول السيد الخوئي رحمه الله – كما ينقل عنه الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه (العدل الإلهي) - يقول: ضرب السيد الخوئي في مجلس الدرس
مثالاً وقال: لو أن إنساناً مشلولاً غير قادر على تحريك يده وافترضنا أنه قد صُنع جهاز إذا وُضع على يده استطاع أن يحركها، فهنا لو وضع الجهاز على يده وحرّك يده وضرب واحد أو حرّك يده وأطعم واحداً، فهنا أصل القدرة على الضرب والإطعام من الجهاز لكن نحو القدرة - توجيه القدرة - نحو الضرب أو الإطعام فمن العبد، فالعبد لا يمكن أن يُذنب من دون أن يُقدره الله على الفعل، العبد أراد أن يطيع أو يعصي لا بد من أصل القدرة، وأصل القدرة من الله، لكن نحو القدرة وتحريك القدرة من العبد.
مثال ثاني: لو افترضنا أن شخصاً في سيارة وقد أمسك المقود لكن لا يوجد في السيارة بنزين ولا يوجد شخص يدفع السيارة، أفهل يمكن الحركة؟ كلا، وألف كلا. لكن لو وُضع البنزين أو دفع السيارةَ دافعون كالريح أو يد الإنسان فإن أصل الحركة يُستند إلى البنزين أو الريح أو الدافع للسيارة، لكن اتجاه السيارة إلى اليمين أو الشمال أو الأمام إنما هو باختيار المُكلَّف.
[خلاصة الموقف الإمامي]
إذاً نحن مختارون في أفعالنا ولسنا مجبرين، أصل الاختيار منا، لكن أصل القدرة على اختيار الشيء من الله عز وجل، لذلك نقول: أمر بين أمرين فلا جبر ولا تفويض.
إذا قلنا بالجبر يعني الإنسان ليس له أي اختيار لا في أصل القدرة ولا في نحو القدرة، إذا قلنا بالتفويض هذا يعني أن الله عز وجل خلق الإنسان وفوّض إليه الأفعال وهو لا يعلم ماذا سيُقدم عليه هذا الإنسان، وهذا يلزم منه نسبة الجهل إلى الله عز وجل، كيف الله عز وجل لا يعلم أن هذا الإنسان سيقوم بماذا وماذا سيفعل؟
لكن أمر بين أمرين يعني الله عز وجل أقدرهم ولم يُجبرهم ولم يُفوّض إليهم ذلك بحيث لا يعلم بماذا سيقدمون عليه، ولكن أقدرهم وهو يعلم أنهم بماذا سيقومون.
وهذا يُستفاد من الروايات عن الصادق عليه السلام: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين". وعن الرضا عليه السلام: "القائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك، والمراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا وترك ما نُهوا عنه. والإرادة والمشيئة من الله تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات: الأمر بها والرضا لها، وبالنسبة إلى المعاصي: النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها. وما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء، والقضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة".
[تعليق السيد عبد الأعلى السبزواري]
هنا يُعلّق المرجع الكبير السيد عبد الأعلى السبزواري في تفسير (مواهب الرحمن)[22] :
أقول: أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى الله تعالى الظلم ومع ذلك يعاقب العبد عليه. وأما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل إرادة الله. وأما ما ذكره عليه السلام في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال، وإلا فهو عام لجميع الأفعال.
هذا تمام الكلام في بيان مفردات هذه الآية، تتمة الحديث تأتين.