47/04/11
الموضوع: الدرس (السبعون): تفسير الآية (26) من سورة البقرة
تفسير الآية ستة وعشرين من سورة البقرة، قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۖوَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾[1] آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم.
في بداية سورة البقرة تطرقت السورة إلى تقسيمات ثلاث: الأول المؤمنون حقاً، الثاني الكفار المعاندون، الثالث المنافقون، ثم مثّلت للمنافقين بقوله تعالى: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾[2] إلى آخر الآية الكريمة.
في هذه الآية - الآية تسعة وعشرين - يشير القرآن الكريم إلى أنه كتاب هداية وأنه جاء لعموم الناس، ومن أفضل أساليب هداية عموم الناس ضرب الأمثال نظراً لوقع الأمثال في نفوس الناس، وفي هذه الآية الكريمة يقول الله عز وجل: إنه لا يمتنع من أن يضرب مثلاً ولو بسيطاً لأضعف المخلوقات كالبعوضة، فالقرآن الكريم كتاب هداية عامة لعموم الناس، وفي هذا الكتاب المقدس أمثال لعموم الناس مهما كانت هذه الأمثال كبيرة أو صغيرة.
ولنشرع في بيان مفردات الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾، إنَّ: حرف توكيد ونصب، الله: لفظ الجلالة، إما من "أله" أو "لاه" وقد أُضيف له "ال" التعريف فتصير "أله" أي احتار، الله يعني الذات التي أحتير فيها، أو من "لاهَ" كما قرّبنا ذلك، "لاهَ" بمعنى ارتفع، الله يعني الذات التي ترتفع عن الفهم وأفهام الناس، ولفظ الجلالة "الله" اسم علم للذات الإلهية المقدسة.
لا يستحيي: من الحياء، والحياء هو انقباض النفس عن الشيء وانزجارها عنه خوفاً من اللوم، ويلازم الحياء ترك ذلك الشيء، لذلك أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة يقول: "قُرِن الحياء بالخيبة"، الذي يستحي ويخجل يخيب ويخسر، إذاً هذا في الإنسان، وأما إذا أطلق الحياء على الله سبحانه وتعالى فالمراد به نفس الغاية وهي الترك، فقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ أي لا يترك ولا يدع، وهكذا الكلام في جميع الصفات التي يلزم من إطلاقها على الله تبارك وتعالى وجود نقص، فحينئذٍ يكون استعمال هذه الصفات بالنسبة إلى الله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك، إذاً ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي﴾ يعني لا يترك ولا يدع.
سؤال: ما الفرق بين الحياء والخجل؟ يقولون: الحياء هو وضع الشيء في موضعه، والخجل وضع الشيء في غير موضعه، ويُفرّق بينهما بأن الخجل من عوارض الجسم، لذلك يحمرّ الوجه، كما أنه في حالة الخوف يصفرّ الوجه، فالخجول يحمرّ وجهه بخلاف الحياء فإنه من صفات الروح والنفس، ولذلك عُدّ الحياء من جنود العقل، فإذا راجعنا بعض الروايات سنجد أنها تنص على أن الحياء من جنود العقل.
أن يضرب: الضرب يُستعمل في معانٍ كثيرة، والمراد بالضرب هنا التوصيف والتبيين، فضرب الأمثال توصيفها وبيانها.
قوله تعالى ﴿مَثَلًا﴾: المثل صفة مشبهة مثل "حسن" وهي بمعنى أن الشيء يتصف بالمثلية وأن التماثل ثابت فيه، والمثل على أنحاء:
منها: المثل بمعنى الأُسوة والقدوة، وهو ما يستعمل في خصوص الأسوة العلمية، كما في قوله تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾[3] ، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ﴾[4] ، وقوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[5] ، فالمراد بالمثل في هذه الآيات هو الأُسوة والقدوة الحسنة.
المعنى الثاني للمثل: هو المثل الكلامي، وهو ما يستخدم لتفهيم مبحث عميق فيضرب مثال ويشرح ذلك المثال لتقريب الفكرة، وضرب المثل بالبعوضة في الآية الكريمة هو من قبيل المعنى الثاني أي المثل الكلامي، أي أن الله تبارك وتعالى لكي يهدي الناس يضرب الأمثال ولو كانت أمثال حقيرة مثل البعوضة أو أحقر من البعوضة وهو ما فوق البعوضة أي ما هو أصغر وأدنى منها.
﴿مَثَلًا مَّا﴾: "ما" للإبهام والتنكير، وما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر والحقارة، أي أن الله عز وجل لا يمتنع من أن يضرب مثلاً حقيراً كالبعوضة أو أحقر منه وهو ما فوق البعوضة: والمراد بما فوق البعوضة يعني ما هو أدنى، لماذا هو فوق البعوضة؟ فوق البعوضة يعني أكثر حقارة، فالبعوضة إشارة إلى الحقير وما فوق البعوضة إشارة إلى الأحقر، ويُقال: إن البعوضة هي أصغر الحيوانات المحسوسة، وإلا في العلم الحديث اكتشف حيوانات وفيروسات أصغر من البعوضة بكثير، لكن أصغر الحيوانات المحسوسة هو البعوضة، وحياة البعوضة في جوعها، فإذا شبعت ماتت.
وضرب المثل بالبعوضة، لأن البعوضة فيها جميع أجهزة الفيل مع زيادة جهازين، هذه البعوضة فيها مراكز حساسة مثل الرادارات، كيف الآن هذه الرادارات ترصد الطائرات، البعوضة فيها أجهزة حساسة مثل الرادار.
بعوضة: البعوض والبعوضة مثل التمر والتمرة، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم كما هو الحال بالنسبة للفيل والنحل، فذكرت البعوضة والفيل والنحل مرة واحدة، بخلاف العنكبوت فقد ذكرت مرتين.
﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾: الكلام يتمحور حول حقارت البعوضة فيكون ما فوق البعوضة ما هو أحقر من البعوضة.
خلاصة الكلام: الله عز وجل إذا أراد أن يهدي الناس فإنه لا يدع أن يترك مثالاً ولو حقيراً أو أحقر منه من أجل هداية الناس.
والسر في ذلك: أن الله عز وجل حكيم وكلامه موافق للحكمة، ولا بأس بالحكمة سواء كانت في الشيء العظيم أو الشيء الحقير واليسير، وبما أن القرآن نزل لكي يهدي عامة الناس فلا بد أن يقترن بالأمثال جرياً على طريقة الناس العاديين لكي تتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾، هذه الآية من باب ذكر العلة والمعلول معاً، فالعلة هي الإيمان وبمقتضى هذه العلة والإيمان يتحقق المعلوم وهو علم المؤمنين بأن هذا المثل حق من ربهم، فعلة قولهم ﴿إنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾ إنما هو إيمانهم الذي معهم واعتقادهم بكلام الله تبارك وتعالى، فهم يؤمنون أن الله حكيم وأنه لا يضرب مثلاً إلا لحكمة وفائدة للناس.
إذاً نظر المؤمنين إلى المُمثِّل (بالكسر، اسم الفاعل) قبل أن يكون النظر إلى المثل، فالمؤمنون ينظرون إلى المُمثِّل وهو الله تبارك وتعالى نظرة إعظام وإجلال، فكل ما يأتي منه من مثل صغير أو كبير هو مثال الحق في الحكمة والموعظة.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا﴾، هنا أيضاً في هذه الآية علة ومعلول، العلة كفرهم وقد نصّت عليه الآية ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والمعلول قولهم ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا﴾، وهذه الآية فيها تقدير فيصير التقدير هكذا: وأما الذين كفروا فهم جهلة، ولجهلهم يقولون ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا﴾، أي أنه لجهلهم لم يفهموا المراد من تمثيل الله عز وجل بالبعوضة، وسر كلامهم هو أنهم نظروا إلى نفس المثل وهو البعوضة ولم يلتفتوا إلى عظمة المُمثِّل وهو الله عز وجل ولا إلى أهمية ما مُثِّل لأجله، نظراً لجهلهم وعنادهم فأعرضوا عن الحجة، وهذا هو مقتضى اختيارهم أصل الكفر والضلال.
إذاً لاحظ هذين المقطعين، كل منهما فيه علة ومعلول:
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾: الإيمان علة، ﴿أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ معلول، ونظرهم إلى المُمثِّل لا المِثل.
قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا﴾: هنا علة وهي الكفر، ومعلول قولهم: ﴿مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا﴾، وقد نظروا إلى المثل وغفلوا عن عظمة المُمثِّل.
قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يعني آمنوا بالله وكتبه ورسله ﴿فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ﴾.
سؤال: ما المراد بالحق؟ الجواب: الحق هو بمعنى الثابت، تقول: ثوب محقّق أي أُحكم نسجه، والحق قسمان: الحق الذاتي والحق الفعلي.
الحق الذاتي: هو الذي يُطلق على الرب الأزلي غير المحدود وهو عين الذات الإلهية، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ أي الثابت ذاتاً، ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾[6] ، هنا الفصل بضمير المنفصل "هو" مع كون المخبر معرفاً، هذا يدل على الحصر، أي أن الحق الثابت ينحصر في خصوص الذات الإلهية وهي الله تبارك وتعالى.
القسم الثاني: الحق الفعلي، أي أن هذا الفعل حق وثابت، قال تعالى: ﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾[7] ، وتقول في تلقين الميت: "واعلم أن الموت حق، والنشر حق، والقيامة حق، وأن الله يبعث من في القبور"، هذه كلها أفعال الله عز وجل وقد أُطلق عليها أنها حق، إذاً الحق بمعنى الثابت، وهذا الحق إما أن يُطلق على الذات الإلهية أو على فعل الذات الإلهية.
قال تعالى: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، بعض المفسرين ذهب إلى أن هذه المقولة هي مقولة الكفار، فتكون الأقوال ثلاثة:
القول الأول: مقول الكفار هو هذا: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾، هذا القول الأول، ثم التعقيب: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، هذا كلام الله عز وجل.
القول الثاني: خصوص المقطع الأول الإضلال، هذا مقول الكفار دون الهداية، فيصير هكذا: كلام الكفار ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا﴾، ثم يأتي كلام الله: ﴿وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾، يُراجع تفسير البحر المحيط[8] فقد تخيّل البعض أن الجملتين هما من كلام الكفار، وأعتقد البعض ذلك في خصوص الجملة الأولى فقط.
والصحيح: إن هذا كلام الله تعقيباً على كلامهم، فيصير القول الثالث: قول الكفار هو خصوص هذا: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا﴾، التعقيب هنا كلام الله: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾.
الفسق: هو بمعنى الخروج، فالخارج عن طاعة الله وعن الصراط المستقيم يصبح فاسقاً، إذاً المراد بالفسق الخروج عن طاعة الله، وتختلف مشتقات الفسق باختلاف موارد الاستعمال، فسق الإنسان: خروجه عن طاعة الله اعتقاداً أو عملاً لكبيرة أو صغيرة.
سؤال: لِمَ قدّم الله الإضلال على الهداية؟ قال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ ولم يقدّم الهداية على الإضلال؟
الجواب: هذا بلحاظ نفس الكفار، نفس الكافر عنده قابلية ومقتضي الضلال، والهداية والضلال على قسمين:
القسم الأول: الابتدائي، الهداية الابتدائية والضلال الابتدائي.
القسم الثاني: الجزائي، الهداية الجزائية والضلال الجزائي.
وبالنسبة إلى الذات الإلهية يتصور في حقها الهداية الابتدائية والهداية الجزائية، لكن بالنسبة إلى الضلال والإضلال فيتصور في حق الذات الإلهية خصوص الإضلال الجزائي دون الإضلال الابتدائي، الإضلال الابتدائي هذا من شأن الشيطان إبليس ومن شأن شياطين الإنس والجن، هذا من شأنهم الإضلال الابتدائي.
إذاً عندنا هداية ابتدائية: هداية الله تشريعاً وتكويناً للإنسان إراءة الطريق، وهناك هداية جزائية، يعني هذا الإنسان الذي اهتدى ببركة هداية الله ابتداءً فإن الله عز وجل يجازيه بهداية أخرى جزاءً لثباته.
وأما بالنسبة إلى الضلال والإضلال فإن الله عز وجل لا يُضل ابتداءً، الله عز وجل يهدي ابتداءً، ولكن من يأتي بأمور الضلال فإن الله يكله إلى نفسه فيزداد غياً فيحصل الضلال.
هذا تمام الكلام في بيان مفردات هذه الآية.