« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث التفسیر

47/04/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الدرس (الثامن والستون): تفسير الآية (25) من سورة البقرة

تفسير الآية خمسة وعشرين من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ۖ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[1]

القوانين بين الترغيب والترهيب، وسُنن الله تبارك وتعالى أيضًا بين الترغيب والترهيب، فكلما يذكر شيء من مظاهر غضب الله في القرآن الكريم يعقبه بشيء من موجبات رحمته إتمامًا للحجة ولأن ييأس الناس، وكلما ذكر شيئاً من رحمته تبارك وتعالى أعقبه بشيء من موجبات غضبه لكي لا يتكل المرء على عمله ويرغب في عفو ربه.

أكبر الكبائر الشرك بالله، وثاني أكبر الكبائر اليأس من روح الله، وثالث أكبر الكبائر الأمن من مكر الله. أما الذنب الأول فهو غير مُغتفر، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[2] . وأما الذنب الثاني وهو اليأس من روح الله أي اليأس من رحمة الله تبارك وتعالى، فمن يقصر نظره على غضب الله وعقابه وأليم عذابه قد يشعر باليأس وهذا كبيرة من الكبائر. وأما الذنب الثالث وهو الأمن من مكر الله، فمن يقصر نظره على عفو الله ورحمته وحلمه فإنه قد يغتر ويغفل عن عقاب الله، الله عز وجل كما هو غفور رحيم هو أيضًا شديد العقاب.

كان الحسن البصري يقول: العجب كل العجب ممن نجا كيف نجا؟! فقال الإمام السجاد عليه السلام: العجب كل العجب ممن هلك كيف هلك؟! يعني أمام رحمة الله الواسعة كيف يهلك؟ فالله عز وجل رحمته تسبق غضبه.

إذًا المؤمن بين الخوف والرجاء، يخاف ذنوبه ويرجو رحمة ربه وعفوه وكرمه. اللهم عاملنا بلطفك ولا تعاملنا بعدلك. نحن نطلب من الله أن يعاملنا بفضله وعطفه وكرمه ولا يعاملنا بعدله.

الآية السابقة آية أربعة وعشرين كان فيها عذاب، فجاءت الآية خمسة وعشرين لإعطاء الثواب. الآية ثلاثة وعشرين: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾[3] ، فجاءت بعدها الآية خمسة وعشرين: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾[4] .

هذا الآن في القوانين، قوانين العقوبات وقوانين عالم اليوم يوجد ترغيب ويوجد ترهيب، بل حتى في سياسة الدول سياسة العصا والجزرة، العصا سياسة العقاب والجزرة سياسة الترغيب.

ولنشرع في بيان مفردات الآية وتفسيرها:

قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

البشارة هي الإخبار بما يوجب ويقتضي ظهور آثار السرور في بشرة المُخبر، وبما أن البشارة تغير ملامح المُبشر فقد استُعمل لفظ البشارة في الإخبار بالشر، والأصل في البشارة الإخبار بالخير كقدوم الولد أو قدوم مسافر أو إجابة الدعوة. لكن قد يُستخدم لفظ البشارة في الإخبار بالشر توبيخًا وتعييرًا كما في قوله تعالى: ﴿فبشرهم بعذاب أليم ﴾[5] .

الإيمان أمر قلبي جوانحي والعمل الصالح أمر جوارحي خارجي. العمل الصالح من المفردات الواضحة مفهومًا ومصداقًا عند عامة الناس، المراد بالعمل الصالح هو العمل الذي يحبه الله ويرتضيه.

وفي هذه الآية: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

إشارة إلى حُسنيين:

الأول الحُسن الفاعلي وهو الإيمان

الثاني الحُسن الفعلي وهو العمل الصالح

فلا بد من إتقان الحُسن الفاعلي أي الإيمان والاعتقاد القلبي، هذا نظر إلى الفاعل ونية الفاعل واعتقاد الفاعل، ولا بد من إتقان الفعل وهو العمل الصالح.

وإذا أردنا أن نُلخص الدين ونُلخص القرآن نقول: ينبغي للعبد أن يهتدي في طريقه إلى ربه، وأفضل وسيلة لسلوك الطريق إلى الله هي الإيمان والعمل الصالح، فالإيمان والعمل الصالح يوجب دخول الجنة.

الإيمان أي الاعتقاد بالله وملائكته وكتبه وعدله والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة، أي الاعتقاد بأصول الدين الخمسة: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة. فهذه ناظرة إلى الجنان والقلب، والعمل الصالح ناظر إلى إتقان الفعل، إتيان الصلاة والصوم والزكاة والحج والخُمس والجهاد وسائر الواجبات وترك المحرمات.

قوله تعالى: ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾.

مادة "جنن" تأتي بمعنى الستر، والجنات جمع جنة وهي البستان الملتف بالأشجار التي فيها أنواع الفواكه والثمار المستترة بالأشجار. وسُميت الجنة بالجنة لاستتارها، فالبستان إذا سترت أشجاره ما فيه من ثمار وخيرات سُمي جنة.

والمراد بالجنات في القرآن الكريم ليس هو خصوص البساتين، بل المراد نعيم الآخرة من باب إطلاق الخاص وإرادة العام، فأُطلق الخاص وهو الجنات وأُريد العام وهو نعيم الآخرة من باب أن الجنات هي أبرز مصداق من مصاديق الآخرة، وإلا يوجد في الآخرة غير الجنات، وهو ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾[6] ، رضوان الله نعيم من نعيم الآخرة وهو أعظم من الجنات. لكن بما أنه بين الناس أبرز مصداق للنعيم هو الجنات تُذكر الجنات، هنا: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، يعني لهم نعيم أبدي ومن أبرز مصاديقه الجنات.

ولفظ "جنن" يفيد الاستتار في مختلف مفرداته، تقول الجنين لأنه مستتر في بطن أمه، وتقول مجنون نظرًا لاستتار عقله، وتقول العقل جُنة لأنه وقاية ويسترك ويمنعك من الوقوع في الخطأ، وسُمي القلب جنان لأنه مستور في جوف الإنسان، وسُمي الجن جنًا لاستتارهم عن أعين البشر.

إذًا أصل مادة "جنن" تفيد الاستتار، وسُميت الجنة جنة لاستتارها أي أن الأشجار والأغصان تستر الخيرات الموجودة فيها عن نظر الناظرين.

بعض اللغويين ذكر أن البستان إذا كان فيه الكرم وهو العنب يُسمى فردوس، وإذا كان فيه النخل يسمى جنة، فإن أراد هذا اللغوي اصطلاحًا خاصًا في عصر مخصوص فلا بأس به، وأما إذا أراد الاصطلاح العام وأن هذا الاصطلاح العام فيه تخصيص فالفردوس ما فيه عنب والجنة ما فيها نخل فلا دليل على هذا التخصيص، بل ورد في القرآن الكريم ما يخالف هذا المعنى، قال تعالى: ﴿وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ﴾[7] ولم يُطلق عليها فردوس. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا﴾[8] ، والسياق في الجميع واحد، فأُطلقت الجنة على الفردوس وأُطلقت الفردوس على الجنة.

وقد ورد لفظ الجنة والجنات كثيرًا في القرآن الكريم بأنحاء واستعمالات مختلفة تشعر بالاعتناء بالجنات نظرًا لأنها نعيم أبدي لا يزول، وأن الجنة هي دار الأبرار والمتقين وهي عوض ما اشتراه الله تبارك وتعالى من المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾[9] .

وكلما كان العوض أعلى وأغلى تكون للعوض المكانة العليا.

هناك مقولة حلوة للإمام الخميني رضوان الله عليه يقول: نحن لسنا السكان الأصليين لهذه الأرض، موطننا الأصلي هو الجنة حيث أُخرج أبونا آدم عليه السلام منها، ووجودنا في الأرض مؤقت، فينبغي أن نعمل العمل الصالح لكي نرجع إلى موطننا الأصلي وهو الجنة.

وإذا رجعنا إلى القرآن الكريم نجد أن مفردة الجنة إذا جيئت بالجمع "جنات" ففي الغالب تُقرن بأنه ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾، فلفظ ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ تُستعمل هذه الجملة في القرآن الكريم مع لفظ الجنات غالبًا.

ولفظ ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ عام، لم يُذكر فيه نحو الجريان، هل يجري بنحو الشلال يصب من فوق، أو يجري بنحو الفوارة من تحت إلى الأعلى، أو يجري بشكل مستقيم كالنهر، وكما هو معروف في اللغة العربية حذف المُتعلق يدل على العموم والشمول، وهنا نُص على جريان الأنهار لكن لم يُنص على كيفية جريان الأنهار، فهنا لم يُبين الله تبارك وتعالى خصوصيات الجريان تعميمًا لجميع مراتب الحسن الكمال.

قال تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ أي أن أصحاب الجنة كلما تناولوا ثمرة من ثمرات الجنة يقولون هذا يشبه الذي تناولناه، فهذه الثمرات متشابهة ومتماثلة.

فما هو المراد بالتماثل والتشابه؟

توجد ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: التشابه في الدنيا، فالظرف هو الدنيا. أي أن ثمار الجنة تماثل وتشابه ثمار الآخرة، فثمار الدارين متحدتان اسمًا وجنسًا ولكنهما مختلفتان في اللطافة والذوق والالتذاذ، يعني كما يوجد في الدنيا عنب يوجد في الآخرة عنب، كما يوجد في الدنيا تفاح يوجد في الآخرة تفاح، ولكن تفاح وعنب الآخرة يختلف في طعمه عن تفاح وعنب الحياة الدنيا.

إذًا الاحتمال الأول التشابه بلحاظ ظرف الدنيا، يعني كلما يتناولون ثمرة يقولون هذه الثمرة أكلناها في الدنيا، لكن في الآخرة قياس مع الفارق، فرق بين السماء والأرض بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة، هذا الاحتمال الأول.

الاحتمال الثاني: التماثل والتشابه بلحاظ الآخرة. فكلما قطف المؤمن ثمرة يعود مكانها ثمرة مثلها، يقطف تفاحة تطلع مكانها تفاحة، يقطع عنقودًا من العنب يخرج مكانه عنقود من العنب، يأكله يقول هذا العنب مثل اللي أكلته، هذا التفاح مثل اللي أكلته من قليل منذ قليل. فهنا الظرف بلحاظ ماذا؟ بلحاظ الآخرة.

الاحتمال الثالث: أن... طبعًا ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾، "به" الضمير يعود على ماذا؟ على الرزق. لاحظ الآية: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا ۙ قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾، يعني وأُتوا بهذا الرزق، أُتوا بالرزق متشابهًا.

الاحتمال الثالث أن يُراد من الرزق الثاني نفس الأعمال الصالحة التي هي بمنزلة البذور لثمار الجنة، فيكون المراد إن ثمار الجنة لنا من جزاء أعمالنا.

وبعبارة أخرى: يوجد عندنا سبب وعلة وهو العمل الصالح، وعندنا مُسبب وهو الجنة وثمار الجنة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾[10] ولم يقل ستحيط بالكافرين، قال جهنم محيطة بالكافرين، يعني نفس الذنب فيه عذاب لكن يوجد فاصل بينهما أنت لا تدركه في الآخرة يتجلى هذا بناء على نظرية تجسم الأعمال وتجسد الأعمال، فيصير الإنسان يعيش جنته ويعيش جهنمه في الدنيا، لكن حقيقة الذنب وأنه جهنم، وحقيقة العمل الصالح وأنه جنة يكتشفه في الآخرة: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[11]

يعني يريد أن يقول بناء على الاحتمال الثالث: يقولون هذه خيرات الجنة هي جزاء أعمالنا الصالحة التي قمنا بها في الدنيا.

قال تعالى... طبعًا بلحاظ الظاهر، ظاهر الآية يُفهم أن أصحاب الجنة وجدوا ثمار الجنة متشابهة يشبه بعضها بعضًا، أما وجه التشابه هل هو بلحاظ الدنيا؟ هل هو بلحاظ الآخرة؟ هل هو بلحاظ الأعمال والأفعال؟ الآية لا تكشف عن ذلك. نعم يُفهم منها أن التشابه في الآخرة، قال: ﴿ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا ﴾ يعني أُعطوا هذا الرزق متشابهًا، ولعله من أسرار الجنة أن الثمار متشابهة ولكن طعمها مختلف.

طبعًا بناء على أن هذه الخيرات هي خيرات الدنيا، هذا ما يتنافى مع قوله أن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فيُقال في خصوص هذه الثمار: هي تشبه ثمار الجنة، ولكن يوجد في الجنة غير الثمار أيضًا، يوجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

لكن من الواضح أن الجنة متميزة عن الحياة الدنيا في شؤونها المختلفة.

قال تعالى: ﴿ وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾

الأزواج جمع زوج بمعنى القرين، ويُطلق على كل من الذكر والأنثى، وفي الغالب يُطلق على الزوجة. ﴿ أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ يعني في غاية التطهر، وحذف المُتعلق يفيد العموم، مطهرة من ماذا؟ لم يُذكر الدنس المادي أو الدنس المعنوي. الدنس المادي مثل الحيض والنفاس وسائر الأقذار الخلقية. الدنس المعنوي مثل المكر والكذب والخداع، أي أن هذه الأزواج فيها جميع المحامد النفسانية والجسمانية.

وقد ورد في الروايات أن المراد أنها مطهرة من الحيض والنفاس، هذا بيان لبعض المصاديق وليس لجميع المصاديق.

قوله تعالى: ﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي البقاء بشكل نهائي، وخلود والخلود لا يكون إلا في الجنة، قال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾[12] .

هذا تمام الكلام في تفسير الآية خمسة وعشرين من سورة البقرة


logo