47/03/29
الموضوع: الدرس (السادس والستون): تأملات في الآية ٢٣ من سورة البقرة
تأملات في الآية ثلاثة وعشرين من سورة البقرة
توجد بعض التفاسير التي تعنى بالنكات وإثارة الإشارات واللطائف، مثل تفسير "براهين محكمات" لأكبر دهقان بالفارسية رحمة الله عليه، مثل تفسير "راهنما" للمرحوم الشيخ هاشمي رفسنجاني (عشرين مجلداً)، ومثل تفسير "النور" (عشرة مجلدات) للشيخ محسن قراءتي.
ومن التفاسير التي عنيت بذكر اللطائف والإشارات "تسنيم" في تفسير القرآن لسماحة آية الله العظمى الشيخ عبد الله جوادي آملي حفظه الله، وقد ذكر جملة من الإشارات في هذه الآية في تفسير "تسنيم" الجزء الثاني صفحة أربعمائة وتسعة وثلاثين وما بعدها. فلنتطرق إلى بعض هذه النكات:
النكتة الأولى: انغماس وانغمار مخالفي القرآن الكريم في الريب
لو تأملنا في قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾[1] ، ولم تقل الآية: "إن كنتم في شكٍ" ولم تقل الآية: "إن ارتبتم"، بل قالت: ﴿إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾، فهذه الظرفية "في ريبٍ" أي أنكم قد توغلتم في مستنقع الريب وهو الشك المشفوع بالافتراء. وهذا من التعابير العميقة والدقيقة التي تشير إلى أن الكفار المعاندين من جهة والمنافقين المتصلبين من جهة أخرى هم قابعون في مستنقع الريب والشك والفرية والاتهام.
وبعبارة أخرى، يوجد تعبير رقيق ولطيف: "إن شككتم"، "إن ارتبتم"، ويوجد تعبير أشد غلظة: "إن كنتم في شك"، "إن كنتم في ريب"، أي واقع في هذا المستنقع السحيق. ففي ذلك إشارة إلى أن الذين خالفوا القرآن الكريم عن تعصب إنما هم في مستنقع عميق جداً.
النكتة الثانية: سلوك التقوى العلمية
فهذه الآية تعلمنا هذه المقولة: "نحن أبناء الدليل أين ما مال نميل". فالآية تُعلم الناس طريق التقوى العلمية، ومقتضى التقوى العلمية أن لا يقبل الإنسان أمراً من دون برهان. قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[2] .
ولا بأس أن نشير إلى حقيقة في علم النفس مفادها إن الإنسان يصدق ما يريد أن يصدقه ويكذب ما يريد أن يكذبه. مثال ذلك: لو شخصية محترمة وموقرة عند اليهود أو عند النصارى أو عند المسلمين وجاء خبر بشأنها أنها وقعت في رذيلة أو في أمر غير جيد، فإن اليهودي أو المسيحي أو المسلم الذي يؤمن بهذه الشخصية سيكذب هذا الخبر فوراً، لكن الطرف الآخر وهو المعادي لهذه الشخصية سيصدق هذا الخبر فوراً. لكن الإنسان الموضوعي الذي بنى نفسه على قبول البرهان فإنه لن يصدق بسرعة ولن يكذب بسرعة، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[3] .
فالإنسان الذي عنده تقوى علمية أو تقوى عملية سيلحظ البرهان، الكلام مع دليله.
والقرآن في هذه الآية يخاطب مخالفي القرآن قائلاً: إن المعيار لرفع الشك هو البرهان، فإن كنتم تعتقدون أنه ليس كلام الله فأتوا بمثله وهاتوا برهانكم وأتوا بأعوانكم. وهذا درس عملي مهم جداً للإنسان أن يكون طريقه طريق البرهان الذي يتعلم ويعلم نفسه دائماً يضع يده على الدليل علماً وعملاً. هذه أول خطوة تضعها على سكة قطار طريق الأمان.
النكتة الثالثة: تبيين طريق التماثل
لو رجعنا إلى آيات القرآن الكريم آيات التحدي، نجد أن بعضها يقول: ﴿لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾[4] . والتماثل عبارة عن وجود فردين أو أكثر لنوع واحد له أوصاف مشتركة، فيكون هذا الفرد الأول مثل الفرد الثاني والفرد الثاني مثل الفرد الثالث. إذاً التماثل يحصل بين الأفراد المندرجة تحت نوع واحد، أي أن هذه الأفراد تتصف بصفات مشتركة توجب اندراج جميع هذه الأفراد تحت نوع واحد ومحل فارد.
فالقرآن الكريم حينما يقول: : ﴿لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ يعني لا يوجد أي فرد من أفراد الكتب يشترك في الأوصاف العامة لهذا الكتاب، أي أن القرآن الكريم فريد من نوعه في بيانه ومضمونه. وهذه نكتة مهمة، آيات كثيرة ركزت على المثل، أي الاتصاف بأوصاف مشتركة، أي أنه لا يوجد كتاب وبيان يشترك مع القرآن في هذه الأوصاف المشتركة، فالقرآن الكريم لا يشبه النثر العربي ولا يشبه الشعر العربي، فريد من نوعه، لا يندرج تحته الشعر الذي كان متداولاً أيام الجاهلية، وليس كالنثر الذي كان سائداً في تلك الأيام، إنه بيان فريد من نوعه من حيث البلاغة والفصاحة، وأيضاً فريد من نوعه من جهة المضمون.
النكتة الرابعة: سعة التحدي
القرآن تحدى البشر كل البشر أن يأتوا بمثله، فهذا التحدي لا يختص بخصوص قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله، بل هذا التحدي منذ نزول القرآن إلى يوم القيامة. قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾[5] .
بناءً على هذا، ليس محور التحدي خصوص فصاحة وبلاغة القرآن، بل كل ما في القرآن من ألفاظ ومضامين ومعارف، وهذا التحدي باق إلى يوم يُبعثون.
النكتة الخامسة: الشمولية العالمية للإعجاز
تطرقنا في النقطة الرابعة إلى إعجاز القرآن، ونتطرق في النقطة الخامسة إلى كل معجزات الأنبياء. فقد يُتوهم أن معجزات الأنبياء خاصة بزمانهم، فمعجزة إحياء الموتى خاصة بعيسى أيام حياته مع الحواريين وغيرهم، ومعجزة نبي الله موسى خاصة بالعصا التي تنقلب ثعبان وأخراج يده بيضاء للناظرين وغير ذلك. وهذا يقودنا إلى تعريف المعجزة.
سؤال: ما المراد بالمعجزة؟
الجواب: المعجزة هي الأمر الخارق للعادة الموافق لدعوى المدعي، فالمعجزة لا تخرق قانوناً عقلياً وإنما تخرق ما جرت عليه العادة عند الناس، عادةً الذي يموت لا يرجع إلى الحياة، العقل لا يقول يستحيل إعادة الميت إلى الحياة. والعادة أن العصا جماد لا تنقلب إلى ثعبان حي، لكن العقل لا يرى استحالة انقلاب العصا إلى ثعبان.
المعجزة هي الأمر الخارق للعادة الموافق لدعوى المدعي. أحياناً يحصل أمر خارق للعادة لكن مخالف لدعوى المدعي، كما هو الحال بالنسبة إلى مسيلمة الكذاب، قيل له: هذه بئر قد ضمرت، فهلا باركتها لكي تزداد؟ فبصق فيها فضمر ما فيها، فضمور الماء أمر خارق للعادة لكن مخالف لدعوى المدعي.
إذاً هذه المعجزة التي هي أمر خارق للعادة وموافق لدعوى المدعي، وإن حصل في زمان معين أن النار لم تحرق إبراهيم وأن عصا موسى انقلبت ثعبان، صحيح هذه المعجزة حصلت في ذلك الزمان لكنها تبقى معجزة إلى يوم الدين، يعني ما أحد يقدر يأتي بسفينة تكون كسفينة نوح، وإن كان إعجاز سفينة نوح كان مختصاً بقومه لكن تبقى هذه الآية للعالمين، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم عبر عن سفينة نوح قائلاً: ﴿وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[6] ، وإن كان هي كانت آية لمن؟ لنوح في قومه، لكن تبقى آية وعلامة إلى يوم الدين.
حتى لو كان نبي لبيته وعنده معجزة، ما تختص بأولي العزم والمرسلين، كل الأنبياء.
وقد جاء في حق عيسى بن مريم وأمه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[7] ، فهذا من باب بيان المصداق الكامل والمعروف.
إذاً، معجزة كل نبي هي عالمية بمعنى أنها وإن كانت مختصة بظرف زماني وهو قومه ومن ذهب إلى هدايتهم، لكنها تبقى معجزة يعجز الإنسان العادي عن الإتيان بها إلى يوم الدين.
وبعبارة أخرى: معجزات الأنبياء غير قابلة للتحقق من خلال الطريق العادي لا قبل المعجزة ولا في زمانها ولا بعدها.
النكتة السادسة: إثبات دعوى النبي ودعوته بالإعجاز
سؤال: متى تُقبل دعوى النبوة؟ الجواب: إذا جاء النبي بمعجزة تثبت دعوته.
ومن أنكر على النبي نبوته على نحوين:
النحو الأول: من لا يؤمن بوجود الله أساساً كالملحد الذي لا يؤمن بإله.
النحو الثاني: من يؤمن بوجود إله لكنه ينكر التوحيد كالوثنيين، هم يؤمنون بوجود الله ولكن يعتقدون بأن الآلهة والأوثان شركاء لله.
فإذا جاء النبي وقال: إن الله الواحد الأحد هو الذي بعثني وأنا أدعوكم إلى التوحيد، وهم يؤمنون بالله لكن ينكرون التوحيد، يعني ينكرون دعوة النبي إلى الله.
فإذا جاء النبي بالمعجزة فإنه يثبت أمرين معاً:
الأمر الأول: دعوى النبوة.
والأمر الثاني: دعوته إلى الله.
بخلاف الملحد، الملحد هذه المعجزة لا تثبت له دعوى النبوة ولا تثبت له الدعوة إلى ذلك الدين لأنه أساساً لا يؤمن بوجود الله، فلا بد أولاً يؤمن بوجود الله، "ثبت العرش ثم النقش" - لا بد أن يؤمن أولاً بالله ثم يؤمن بولي الله الذي هو النبي، لذلك يحتاج إلى معجزة لإثبات الخالق، هذا بالنسبة للملحد.
وأما المشرك يحتاج إلى معجزة لإثبات النبوة، وإذا جاء النبي بمعجزة تثبت نبوته فإنه في نفس الوقت قد جاء بمعجزة تثبت دعوته.
إذاً بالنسبة إلى القرآن الكريم، جاء إلى أهل الحجاز أهل مكة، وهؤلاء أكثرهم كان من الوثنيين وبعضهم من المسيحيين وبعضهم كان على الحنيفية ملة إبراهيم، فالقرآن الكريم كما يثبت نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله، أيضاً يثبت دعوته، يعني يثبت التوحيد.
النكتة السابعة: محور ريب المخالفين للقرآن الكريم
لو رجعنا إلى القرآن سنجد أن بعض الآيات ذكرت حيثيات في نزول القرآن اعترض عليها الكفار، كقوله: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾[8] ، ما هو موطن اعتراضهم؟ يقولون: ينبغي أن ينزل القرآن دفعة واحدة وليس منجماً خلال ثلاثة وعشرين سنة.
الآية الأخرى: ﴿لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ﴾[9] .
الآية الثالثة: ﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا﴾[10] ، يعني اعترضوا أنه لا بد أن يكون الرسول ماذا؟ من الملائكة وليس من البشر.
لكن عند التأمل في هذه الآيات المختلفة، فإن محور نظر المخالفين للوحي هو مخالفة أصل نزول القرآن الكريم، أصل وجود القرآن، لكنهم تذرعوا بذرائع، فقالوا: "ينبغي أن ينزل مرة واحدة ودفعة واحدة" تارة، وتارة أخرى قالوا: "ينبغي أن ينزل على ملك وأن يكون الرسول من الملائكة وليس من البشر".
إذاً محط نظر المخالفين هو أصل نزول القرآن الكريم وليس كيفية نزول القرآن الكريم، بمعنى أنهم كانوا يرون أن القرآن مفتراً، وبالتالي نزوله بشكل تدريجي أو بشكل دفعي، لا يغير من واقع أمرهم شيئاً، إذ أنهم ينكرون هذا الأصل.
هذه مجموعة نكات بالنسبة إلى التأمل في هذه الآية واقتناص لطائف وإشارات تتصل بمبحث الآية، تتمة الحديث تأتي.