47/03/28
الموضوع: الدرس (الخامس والستون): الإعجاز والتحدي القرآني
دور القرآن الكريم
القرآن الكريم كتاب هداية، دور القرآن الكريم هو الهداية إلى الله تبارك وتعالى، فكل آيات القرآن من آيات العقائد والأحكام والأخلاق والقصص والتاريخ والمواعظ، كلها تندرج في سياق هداية المخلوق إلى الخالق.
وقد ركز القرآن الكريم على أصول الدين الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد (يوم القيامة).
التوحيد في سورة البقرة
وفي مستهل سورة البقرة، تطرق القرآن الكريم إلى الأصل الأول وهو توحيد الله تبارك وتعالى، وذكر ثلاثة أصناف:
1. الصنف الأول: المؤمنون بالله حقاً.
2. الصنف الثاني: الكفار المعاندون.
3. الصنف الثالث: المنافقون.
النبوة والمعجزة
وبعد أن ذكر الأصل الأول وهو التوحيد وموقف هذه الفئات الثلاث تجاه الأصل الأول، شرع في بيان الأصل الثاني وهو النبوة. وأهم شيء في إثبات النبوة هو المعجزة، ومعجزة النبي الخاتم أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله هي القرآن الكريم.
التحدي والإعجاز القرآني (الآيتان 24 من سورة البقرة)
من هنا، شرعت الآية ثلاثة وعشرين، وأربعة وعشرين من سورة البقرة في بيان التحدي والإعجاز القرآني.
الآية 23
قال تعالى في الآية ثلاثة وعشرين من سورة البقرة: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[1] .
الآية 24
ثم جاءت الآية أربعة وعشرين: ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾[2] .
مواضع التحدي في القرآن الكريم
لو راجعنا آيات القرآن الكريم، سنجد أن القرآن الكريم تحدى الناس في الإتيان بمثل القرآن في أربعة مواضع:
1. الموضع الأول: قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾[3] ، وفي هذا الموضع تحدى بالإتيان بمثل القرآن بأكمله.
2. الموضع الثاني: قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[4] ، وفي هذا الموضع الثاني تحدى بعشر سور كاملات.
3. الموضع الثالث: قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[5] ، وفي هذا الموضع الثالث تحدى بسورة واحدة.
4. الموضع الرابع: قوله تعالى: ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾[6] ، والمراد بمثله القرآن بأكمله، فيندرج تحت الموضع الأول.
هذه أربعة مواضع في القرآن الكريم غير موطن بحثنا.
موطن البحث (الموضع الخامس)
موطن بحثنا يمثل الموضع الخامس: الآية ثلاثة وعشرين من سورة البقرة: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[7] .، والتنوين يدل على الوحدة، أي بسورة واحدة. وليس المراد بالسورة الواحدة أنها من مثل سورة البقرة، بل المهم سورة واحدة، حتى لو كانت أصغر سورة في القرآن الكريم وهي سورة الكوثر.
سر اختلاف التحدي
فما هو السر في اختلاف هذا التحدي؟ فتارة يتحداهم بسورة واحدة، وتارة يتحداهم بعشر سور، وتارة يتحداهم بكل القرآن.
ذكرت عدة وجوه، نذكر بعضها ولا داعي للإطالة فيها:
الوجه الأول: اختلاف الدعوى
الوجه الأول في اختلاف التحدي هو اختلاف الدعوى، فبعض العرب ادعى أنه يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، وبعضهم ادعى أنه يستطيع المجيء بعشر سور، وبعضهم ادعى أنه يمكن أن يأتي بسورة منه، فتحداهم القرآن الكريم.
وفي هذا التحدي أمران:
إعجاز: إذ تتجلى عظمة القرآن وعظمة بيانه وعظمة مضمونه، بحيث لا يمكن لأي فرد أن يأتي بمثله.
تعجيز: ويتجلى أيضاً التعجيز إذ يعجز الإنسان عن الإتيان بسورة منه فضلاً عن مثله.
الوجه الثاني: اختلاف الأزمنة
اختلاف الأزمنة، ففي أوائل البعثة اتفقوا على الإتيان بالمثل، وبعد ظهور العجز بشكل عام ادعوا الإتيان بعشر سور مثله، وبعد استقرار العجز عن الإتيان بعشر سور تحداهم رب العالمين بالإتيان بسورة من مثله.
التحقيق في سبب الاختلاف
والتحقيق إنه لا دليل على خصوص الاحتمال الأول أو الاحتمال الثاني، بل لعله تفنن في التعبير لكي يكون الوقع أقوى في التعجيز وبيان الإعجاز، فتحداهم تارة بالإتيان بمثله، وتارة بالإتيان بعشر سور، وتارة بالإتيان بسورة واحدة. وفي اختلاف هذا التعبير بيان عجزهم على مختلف المستويات تجاه القرآن الكريم.
إشكال حول المتحدي والمتحدى
وهنا قد يرد إشكال، وهو أن المتحدي (بالكسر) هو الله تبارك وتعالى أو النبي صلى الله عليه وآله، والمتحدَّى (بالفتح) هو عامة الخلق، ولابد من سنخية بين المتحدي (بالكسر) وهو الله أو النبي وبين المتحدَّى (بالفتح) وهو عامة الخلق، فالمتحدي وهو الله (الملك العظيم) لا يُعقل أن يتحدى سواد الناس في شيء، فلابد من وجود سنخية بين المتحدي والمتحدى، وهذه شبهة أطال فيها بعض المتكلمين وتبعهم جمع من المفسرين.
الرد على الإشكال
لكن هذا الإشكال ليس بتام لأمور، يُراجع مواهب الرحمن في تفسير القرآن[8] :
الأمر الأول: إتمام الحجة
إن أصل التحدي لإتمام الحجة على الأمة، حتى لا يكون للناس على الله حجة، فإذا تحققت هذه الجهة وهو إتمام الحجة، يصح التحدي.
الأمر الثاني: العناية واللطف الإلهي
هذا عناية ولطف من رب العالمين ومنبه وجداني للبشر، فرب العالمين يعامل الخلق ويتماشى معهم ويظهر لهم ضعفهم في الأمور التي يتوهمونها، فيأتي هذا التحدي في هذا السياق.
ولنرجع إلى تفسير الآية الكريمة: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[9] .
تفسير "وادعوا شهداءكم"
" وَادْعُوا ": الدعاء هو النداء والاستعانة. "الشهداء": جمع شهيد، وهو من يُعتد بحضوره ممن له اعتبار في القول أو الحل والعقد.
الخلاصة: ليس المراد خصوص الشهيد الذي هو شاهد، بل المراد الخبير في ذلك الشأن. وهنا في موضع النزاع، الشهيد إنما هو العون والنصير، " وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم " أي ادعوا أنصاركم.
تفسير "من دون الله"
" مِن دُونِ اللَّهِ ": أي مما سوى الله، يعني يكون هكذا الآية: إن كنتم صادقين في دعواكم، فائتوا بسورة من هذا القرآن، ولو كان بمعونة ما سوى الله، فإذا عجزتم عن ذلك، كان ذلك حجة قاطعة على ثبوت أصل الدعوة، وهي أن القرآن الكريم معجزة إلهية لإتمام الحجة على البشر.
نكتة في الفرق بين القرآن والإنجيل
وهنا لا بأس بالإشارة إلى نكتة مهمة في الفارق بين رأي المسلمين في القرآن ورأي المسيحيين في الإنجيل:
فالمسلمون: يعتقدون أنّ القرآن الكريم إنما هو كلام الله وليس كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله، والمسلمون قاطبة يعتقدون أن القرآن الكريم كلام الخالق وليس بكلام المخلوق، فليس هو كلام النبي وليس بكلام أصحاب النبي.
بخلاف رأي المسيحيين فيما يُسمى الكتاب المقدس (الإنجيل)، الآن الإنجيل كم إنجيل عندنا؟ أربعة وستون إنجيل، أشهرها أربعة أناجيل: إنجيل متى ومرقس ويوحنا. هذه الأناجيل الأربعة (لوقا ومرقس ومتى ويوحنا).
إذا سألت المسيحيين: إذا كان الإنجيل كلام الله، فكيف يكون أربعة وستين إنجيل؟ وأقربها إلى الإسلام هو إنجيل برنابا. لأجاب المسيحيون بأننا لا ندعي أن الإنجيل كلام الله، ولا ندعي أن الإنجيل كلام عيسى بن مريم، بل يرون أن الإنجيل هو ما كتبه الحواريون من أصحاب عيسى بن مريم، لذلك وقع الاختلاف، لذلك حتى هذه ترجمة الكتاب المقدس ترجمة غير دقيقة.
واعتقادهم بالأربعة والستين، يعني يعتقدون فيهم كلهم؟
لا، لأن في كاثوليك وفي بروتستانت وفي أرثوذكس، يختلفون في اعتقادهم بأي إنجيل، يعني أشبه بالمذاهب.
إذاً نحن لا نعتقد في القرآن بما يعتقده المسيحيون في الإنجيل، هذا لا يصلح أن يُطلق عليه كتاب مقدس لأنه ليس كلام الله ولا كلام النبي، كلام الحواريين ولا يدعى العصمة لهم، بخلاف القرآن الكريم أحرى أن يُقال له الكتاب المقدس لأنه كلام الله المقدس المنزه.
الآية 24: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا﴾
ثم جاءت الآية الأخرى أربعة وعشرين في التحدي: ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾[10] .
قوله " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا ": بيان لثبوت عجزهم وعدم استطاعتهم لما يدعونه، فالجملة الأولى " فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا " إشارة لإيكال الأمر إلى اختيارهم، يعني أنتم مختارون، ائتوا بمثل القرآن، فإن لم تفعلوا يعني لن تستطيعوا.
وأما الآية الثانية " وَلَن تَفْعَلُوا ": فهي إخبار واقعي عن الواقع المحقق في علم الله تعالى من أنكم لا قدرة لكم على الإتيان بمثل القرآن الكريم.
ثم فرّع على ذلك فقال: " فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ".
"الوقود" (بفتح الواو): ما تُوقَد به النار.
و"الناس": هم الكافرون والعصاة، هم وقود جهنم.
و"الحجارة": قيل هي حجر الكبريت أو سائر المعادن الحجرية التي تُستعمل للوقود.
لكن يمكن أن يقال إن نفس الكفار بعضهم بالنسبة إلى بعض هم عبارة عن ماذا؟ وقود جهنم. قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾[11] ، بناءً على ذلك أن الكفار هم الوقود يصير الموقود والوقود واحد وهم الكفار، فهم بمثابة الحجارة التي تشكل وقوداً لاستمرار اشتعال النار.
قال تعالى: " فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ "، هذا العطف ظاهر في المغايرة، الحجارة غير الناس، والمراد بالناس الكفار والعصاة.
" أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ": في هذه الآية تصريح بأن الله خلق النار للكفار، وفيها تصريح بأن النار موجودة، لم يقل "سيُعدها للكافرين"، قال " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ "، كما أن الجنة قد أُعدت للمتقين، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [12] .
إذاً أصل خلق الجنة لأهل التقوى، وأصل خلق النار للكفار، وهذه بشارة للمؤمنين بأن الله عز وجل لم يخلق النار لهم، بل خلقها لأعدائهم وهم الكفار أعداء الدين.
خاتمة حول الإعجاز القرآني
هذا تمام الكلام في شرح مفردات هاتين الآيتين، ويمكن الحديث في حقيقة الإعجاز وحقيقة التحدي، وأنحاء إعجاز القرآن الكريم كإعجازه في معارفه وتشريع الأحكام وفي العلوم، وإعجاز القرآن في بيانه، وإعجاز القرآن في الإخبار بالغيب، وإعجاز القرآن بعدم وجود اختلاف فيه، وما شاكل ذلك، وهذا أين يُبحث؟ عادة ما يُبحث في علوم القرآن.
[عدم التعرّض لمباحث علوم القرآن والتركيز على التفسير الآيات]
وسابقاً في كتب التفاسير القديمة مثل تفسير التبيان للشيخ الطوسي وتهذيبه مجمع البيان للشيخ الطبرسي، تُذكر علوم القرآن في مقدمة التفسير، فمن أراد علوم القرآن عند القدماء يجدها في مقدمات التفاسير، ثم أُفرد علم خاص يتطرق إلى الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والإعجاز والقراءات القرآنية والرسم القرآني، كله يُدرس في علم خاص يُطلق عليه "علوم القرآن"، فلا داعي لبحثها هنا في ضمن التفسير، لأنها إما أن تُذكر في مقدمات التفاسير كما في التفاسير القديمة، أو في علم خاص بها كما في كتب علوم القرآن.
هذا تمام الكلام في بيان مفردات هاتين الآيتين.