47/03/27
الموضوع: الدرس (الرابع والستون): التحدي القرآني تفسير الآية (23) من سورة البقرة
قال تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[1] .
المراد من نفي الريب عن القرآن الكريم
والريب هو الشك المشفوع بالافتراء، فما هو المراد من نفي الريب؟
يوجد احتمالان:
الاحتمال الأول: أنه لا ينبغي الشك في القرآن.
الاحتمال الثاني: أنه ليس من منشأٍ للشك في القرآن على الإطلاق.
والفرق بينهما أن المعنى الأول يرى أنه ليس من شأن القرآن أن يُشك فيه، بينما المعنى الثاني ينفي منشأ الشك. والنتيجة تكون واحدة: أن القرآن لا ريب فيه، فإما لا ينبغي الريب فيه، وإما لا يوجد منشأ للريب فيه، فلا يكون هناك ريب في القرآن الكريم.
وهذه الآية من آيات التحدي القرآني ومن آيات إعجاز القرآن الكريم؛ لإثبات صدق دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله من ناحية، وإثبات كذب المخالفين له من ناحية أخرى.
تدرج التحدي القرآني
والقرآن الكريم تدرّج في تحدي الكفار، فتارة طالبهم بمثل القرآن، وتارة طالبهم بعشر سور مثله، وتارة طالبهم بسورة واحدة.
تفسير المفردات
ريب
سؤال: ما الفرق بين الشك والريب؟
الجواب: الريب هو شك مع التهمة، فإذا كان شك المرء مصحوباً بشبهة الاتهام والافتراء يُقال له ريب. فقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ بمعنى: إذا شككتم في أن هذا القرآن هو كلام الله، وأن النبي صلى الله عليه وآله قد افتراه على الله - والعياذ بالله - فهذه دعوى اختلاق القرآن، وأن النبي قد تقوّل على الله، فإن كنتم تقولون ذلك فأتوا بسورة من مثله.
بسورة
السورة اصطلاحاً: مقطع من كلام الله في القرآن الكريم يتضمن عدة آيات ذات محتوى منسجم.
وأما معنى السورة في اللغة العربية: فالسَّوْر هو عبارة عن الثوران والهيجان مع الارتفاع والاعتلاء، إذ عندما يثور غضب الإنسان أو الحيوان تراه يهيج ويرتفع ويعتلي حتى يصل إلى ذروته، فيُقال: سار غضبه. وإذا غضبت الحية وهجمت يُقال: سارت الحية. وفي ضمن هذا المعنى والسياق: سور المدينة أو سور القرية، إذ أنه يقف سداً منيعاً أمام نفوذ الغرباء.
وبهذا التناسب: السور هو الثورة والهيجان والارتفاع، بحيث يشكل هذا السور مانعاً. أُطلق لفظ السورة على كل مقطع في القرآن الكريم يتضمن عدة آيات منسجمة في محتواها، فكل سورة من سور القرآن هي بمثابة فاصل بين المؤمنين والكافرين.
فالسورة مانع معنوي يُدفع به تعدّي المخالفين المشوب بالإغواء والوسوسة، فيُقال: كل سورة مظهر لغضب الله واعتلائه وظهوره في مقابل المعاندين.
هذا تحليل معنوي يوجد في تفسير تسنيم في تفسير القرآن الكريم للشيخ عبدالله جواد آملي[2] .
استعمالات لفظ السورة في القرآن الكريم
سؤال: تكرر لفظ السورة في القرآن الكريم، فهل يُراد به سورة كاملة أو يُراد به بعض السورة؟
جواب: بعض الآيات أطلقت لفظ السورة على السورة الكاملة، كقوله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾[3] ، ويُراد بهذه السورة كل سورة النور. وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[4] ، وهنا المراد عشر سور كاملات.
لكن في بعض آيات القرآن الكريم ورد لفظ سورة ولا يُراد به كل السورة، بل بعض السورة، كقوله تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾[5] ، وليس المراد أن تُنزل سورة كاملة، يكفي أن تُنزل بعض آيات السورة تُنبئ المنافق بما في قلبه لكي يرتاب ويخاف.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ﴾[6] ، فهنا ليس المراد أُنزلت سورة كاملة، أي بعض السورة الذي فيه هذا المضمون.
وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ﴾[7] ، أي أن هذا المضمون - ذكر القتال - ينفرهم، فليس المراد من لفظ السورة في هذه الآيات أنها سورة كاملة، بل المراد بعض آيات السورة الذي يتضمن هذه المضامين.
التحدي بسورة كاملة
التحدي يمكن أن يكون ببعض السورة الذي جاء في الآية؟
ما جاء في الآية - يُراد به سورة كاملة، وهذا يُستفاد من التنوين في قوله: ﴿بِسُورَةٍ﴾، وهذا التنكير والتنوين يفيد الوحدة: أي سورة واحدة. فتكون هذه الآية - وهي أول آيات التحدي في القرآن الكريم - أول ما يُشرع التحدي بهذه الآية الثالثة والعشرين من سورة البقرة، في مقابل الآيات التي تحدت بعشر سور، كقوله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[8]
إلى هنا أخذنا مفردة "ريب" "بسورة".
المفردة الثالثة: شهداءكم
ليس المراد من الشهداء هنا الشاهد أو الخبير المتخصص، بل يُراد به النصير والمعين؛ لأنه في ميدان المبارزة والمعارضة يطلب النصير والمعاون لكي يكون ذا تأثير، ولا ينفع الشاهد أو الخبير أو المتخصص إلا في المحكمة أمام القضاء، فإنما يأمنّ العنصر الأساسي لمحتوى آية التحدي هو المبارزة، لا المحاكمة.
معنى الآية الإجمالي
فالآية الكريمة تقول: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾، يعني: عندكم شك مع تهمة، ﴿مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا﴾، يعني: مما نزّلنا من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله، ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾، أي: من مثل القرآن الكريم، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم﴾، هنا ليس المراد - يعني: وادعوا مَن ينصرونكم ويؤازرونكم على دعواكم، ﴿وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ﴾، يعني: ينصرونكم من دون الله، ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
تفسير مفردة "عبدنا"
يبقى الكلام في مفردة "عبدنا". لفظ العبد ورد بشكل مطلق وورد بشكل مقيد، فبعض آيات القرآن ذكرت العبودية وقيّدت المراد بالعبد، كقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾[9] ، والمراد بالعبد هنا النبي نوح. وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾[10] ، فيكون المراد بالعبد أيوب.
لكن أحياناً ذُكر لفظ "عبدنا" من دون اسم، ولا قيد، وهناك دعوى أنه إذا جاء لفظ "عبد" أو "عبدنا" في القرآن الكريم ولم يُذكر الاسم ولم يُقيد، فإن المراد بالعبد المحض لله تعالى هو المصداق الأبرز لمن تمحّضت العبودية، وهو سيد الخلق أبو القاسم محمد صلى الله عليه وآله.
يُراجع تفسير القرآن الكريم لصدر المتألهين، إذ يقول: إن القرآن الكريم إذا استخدم كلمة "عبد" بشكل مطلق ومن دون ذكر الاسم فهو يريد النبي محمد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله خصوصاً لأن الله سبحانه وتعالى كلما عبّر عن سائر الأنبياء عليهم السلام بتعبير العبد أتى باسم النبي الخاص قبله أو بعده، وأما النبي محمد صلى الله عليه وآله فقد يُنص عليه من دون ذكر اسمه، وتقول في التشهد: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله" صلى الله عليه وآله.[11]
والآية مورد بحثنا واضحة، إذ قالت: "عبدنا"، وهي في مقام الاحتجاج على من ارتاب في القرآن، فيكون من الواضح أن المراد بالعبد هو الشخص الذي جاء بالقرآن الذي ارتاب فيه المبطلون والكفار، فتكون النتيجة: المراد بالعبد في خصوص هذه الآية هو النبي محمد صلى الله عليه وآله.
مرجع الضمير في "مثله"
قال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾
سؤال: الهاء هذا الضمير في كلمة "مثله" يعود على ماذا؟
إذ لم يتقدم مرجع الضمير، وبحسب الظهور البدوي المراد بسورة من مثله، يعني: من مثل ما نزّلنا على عبدنا، هذا يصير مرجع الضمير يعني القرآن.
لكن خالف البعض في ذلك وقال: تمتاز هذه الآية بخصوصية غير موجودة في سائر آيات التحدي، وهي أن كلمة "مِن" ذُكرت هنا ولم تأت في آيات التحدي الأخرى، فقال تعالى: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾، بخلاف الآيات الأخرى ليس فيها "مِن"، في سورة يونس: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾[12] ، وفي آية أخرى: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾[13] .
وكذلك في آيات التحدي بأصل القرآن، قوله تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾[14] ، وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ۖ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾[15] .
فهذه الآيات - آيات الإعجاز كلها - لم تذكر لفظ "مِن"، وقد اختصت أول آية من آيات التحدي وآيات إعجاز القرآن الكريم وهي آية ثلاثة وعشرين من سورة البقرة بإضافة لفظ "مِن"، وهذا دفع البعض إلى الاعتقاد بأن مرجع الضمير في "مثله" هو كلمة "عبدنا"، بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان أمياً ولم يتلق دروساً وما كان يجيد القراءة والكتابة، وعلى الرغم من ذلك فقد جاء بالقرآن الكريم، فأتوا أنتم بإنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب ويمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن الكريم.
نقد الرأي السابق
وقد تطرق الشيخ الطوسي إلى هذا الاحتمال وضعّفه. يُراجع تفسير التبيان، الجزء الأول، صفحة مائة وأربعة، ببيان أنه إذا كان الضمير في "مثله" عائداً إلى العبد لاستوجب ذلك انعدام الدليل المتين على إعجاز القرآن، إذ على فرض كهذا فإن إعجاز القرآن وعدم توفر النظير له سينحصر في جهة واحدة، وهي أن الذي أتى به هو بشر أمي[16] . هذا التعبير يقلل من عظمة القرآن، في حين أن عظمة القرآن وسر التحدي أنه لا مثيل له ولا يمكن أن تأتى ببيان مثله.
والخلاصة: من الواضح بمقارنة هذه الآية بمثيلاتها من الآيات الأخرى أن المراد بمثله هو ماذا؟ القرآن، أكثرها جاءت بالجار "بمثله"، ولعل المناقشة في هذا الرأي الآخر وإطالة الكلام فيه أشبه بالكلام في أمر واضح وبديهي جداً.
خلاصة تفسير الآية
هذا تمام الكلام في بيان هذه الآية الكريمة، إذ أن بداية سورة البقرة تطرقت إلى ثلاثة أقسام وهم: المؤمنون حقاً، والكفار المتعصبون ، والمنافقون - ثلاثة أصناف. الآية تطرقت إلى ثلاثة: المسلمين حقاً، الكفار المعاندين، المنافقين، ثم بدأت بالتحدي لإثبات صدق دعوة القرآن الكريم ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله.
تتمة الكلام تأتي.