< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/02/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تبعيّة صفاتِ المقدّمة لصفات ذِيها

تبعيّة صفاتِ المقدّمة لصفات ذِيها

إعلمْ أنّ مقدّمة الواجب ـ بنحو الغالب لا بنحو الإستغراق التامّ ـ محبوبةٌ غالباً وواجبةٌ دائماً ، فقد تكون بعض أفراد هذا الجامع الكلّي مبغوضاً ، كما لو كان يسير إلى الحجّ في سيّارة مغصوبة ، وكما لو اختار شخصٌ دخول أرضٍ غصباً لإنـقاذ الغريق مع وجود طريق آخر مباحٍ للناس ، فلا شكّ في كون الإنـقاذ واجباً عقلاً وشرعاً ، ورغم ذلك يكون دخول الأرضِ مبغوضاً . نَعَم ، لو انحصر طريق الإنـقاذ بدخول الأرض المغصوبة لكان جائزاً فِعْلاً ، بل واجباً عقلاً وشرعاً ، لكونه يرتكب السيِّئَ لِدَفْعِ الأسوأ ، ولذلك إذا انحصر الإنـقاذ بهذا الفرد فهو لا يستحقّ العقابَ ، وإنما يُثِيـبه اللهُ جلّ وعلا . نعم ، يجب ضمانُ ما تلف مِنَ الزرعِ بلا شكّ .

تـفصيل ذلك : لا شكّ أنّ هناك بعضَ أمور منهيّاً عنها في الشرع ولكنها ليست مبغوضةً ذاتاً ، وإنما النهي عنها هو لأجل حفظ النظام العام ونحو ذلك ، فمثلاً : دخولُ أرض الغَير غصباً على صاحبها ، لأجل إنـقاذ الغريق غيرُ مبغوض ذاتاً ، سواءً ترتّب على ذلك ضررٌ على الأرض والزرع أو لم يترتّب ، وذلك لأنّ الأرض والزرع وكلَّ شيء هو في الواقع لله تعالى ، وليست للإنسان ، ولذلك لا يمكن أن يـبغِضَ اللهُ تعالى دخولَنا للأرض التي يملكها شخصٌ لئيمٌ لا يَرضى أن نَدخُلَها لإنـقاذ إنسان محترم الدم ، وإنما ربُّنا تعالى يأمرنا بدخولها للأهمّ ، ولا يـبغِضُ ذلك أصلاً بل يحبّ ذلك .

نعم ، هناك أمور لا شكّ قرآنياً في أنها مبغوضةٌ ذاتاً ، كأكْلِ الميتة ، فإنّ الميتةَ هي من الخبائث الواضحة ، قال الله تعالى ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيـباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ[1] فاعتبر الخبائثَ ذاتاً في مقابل الطيـبات ذاتاً ، وقال تعالى ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّـباً ، وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِن كُنـتمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) ﴾ [2] فالظاهر من مجموع الآيات أنّ الميتةَ هي مِنَ الخبائث ذاتاً .

المهم ، لو اضطُرّ إنسانٌ لأكْلِ المَيتةِ لإنـقاذ حياته ، فسوف يكون أكْلُه للمَيتة مبغوضاً في ذاته ، حتى ولو كان مضطرّاً إلى أكْلِها ، ومع ذلك على مستوى التـنجيز هو يفعل الواجبَ شرعاً وعقلاً .

ثم إنه من الواضح أنه إذا كان شرطُ وجوب الحجّ هو الإستطاعة ، فح لا شكّ في أنّ الوجوب العقلي للسير إلى الحجّ سوف يكون مشروطاً أيضاً بالإستطاعة ، وإذا كان الوجوبُ مطلقاً نحو (تصدّقْ) فسوف يكون وجوبُ المقدّمة أيضاً مطلقاً ، وهذا مقتضى ترشّحِ وجوب المقدّمة عن وجوب ذيها ومقتضَى معلولية وجوب المقدّمة لوجوب ذيها في الإطلاق والإشتراط ، وهذه المسألة يعبّرون عنها بـ (تبعيّة وجوب المقدّمة لوجوب ذيها في الإطلاق والإشتراط) .

ثم اعلم أنه إذا كان ذو المقدّمة عباديّاً فإنه يمكن أن ينوي الممتـثلُ نِـيّةَ التوصّل بالمقدّمة ليحوِّلَ المقدّمةَ إلى عبادة حتى ولو كانـت توصّليّةً بالأصل ، كما في الحجّ ، فبما أنه عبادي فإنه يمكن أن يمشي الإنسان إليه مشياً على أقدامه لإظهار شدّة الإطاعة والإمتـثال لله سبحانه وتعالى ، كما ورد في الروايات المستـفيضة من أنّ أئمّتـنا)عليهم السلام) كانوا يمشون على أقدامهم إلى الحجّ مع كون دوابّهم تـقاد خلفهم أو أمامهم[3] ، ولا يمكن تـفسير هذا إلاّ لزيادة إظهار الطاعة والثواب ، وهو يعني تحويلَها إلى عبادة ، وإلاّ فما معنى العبادة غير امتـثال أوامر الله سبحانه بأمور محبوبةٍ إليه ، ولو بتحويلها إلى محبوبةٍ إليه فنمتـثلها ليُحِبَّنا وليَتَـقَبَّلنا عنده ، وإلاّ لكان ذلك المشيُ لغواً محضاً .

 

حُكْمُ المقدّمةِ المبغوضةِ للواجب الأهمّ

كان الكلام في الفقرة السابقة في مرحلة الملاك ، وكلامُنا الآن هو في مرحلة الجعل والتشريع ، والسؤال هنا هو : هل يكونُ هذا الدخولُ للأرض المغصوبة حراماً فِعْلاً رغم الدخول للإنـقاذ ـ طبعاً فيما لو انحصر إنـقاذ الغريق بالدخول في الأرض المغصوبة ـ سواءً ترتّب على ذلك أضرارٌ على صاحب الأرض أو لم يترتّب ؟ وهل يكون أكْلُ المَيتةِ حراماً جعلاً وفِعْلاً فيما إذا اضطُرّ الشخصُ لأكْلِها لإنـقاذ حياته ؟

الجواب : قد تـقول نعم ، بتـقريـب أن الحرمة جعْلاً وفِعْلاً هي نـتاج عقلي للمبغوضيّة التامّة ، فهي أشبه شيء بالجعل القهري التكويني ، خاصّةً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد .

أقول : الصحيح هو عدم إمكان أن يجعل اللهُ تعالى القبـيحَ في حال الضرورة حراماً دائماً ـ أي على مستوى الجعل ـ وإنما يجب ـ عقلاً ـ أن يحصل في عالم المبادئ كسْرٌ وانكسار دائماً ، ثم تحصل النـتيجةُ ، ثم يشرِّعُ الباري جلّ وعلا الحكمَ على أساس النـتيجة ، والمفروضُ أنّ النـتيجة هنا هي لصالح عدم حرمة دخول الأرض المغصوبة ، مراعاةً للأهمّ الذي هو الإنـقاذ ، فيختصّ التحريمُ بغير حالات الضرورة ، لا ، بل بعد الكسر والإنكسار في عالم المبادئ يجب أن يكون التشريع هو وجوب الدخول إلى الأرض المغصوبة للإنـقاذ ، طبعاً كلامنا في حال انحصار طريق الإنـقاذ بدخول الأرض المغصوبة .

على أنه لا يمكن أن يشرّع اللهُ تعالى تحريمَ الدخول إلى الأرض المغصوبة قهراً عليه في حال الضرر أو الضرورة ، معاذَ الله، وإنما يجب أن يكون التشريع اختيارياً ، وفي حال الإختيار لا يمكن أن يقول الله تعالى ـ بعد الكسر والإنكسار في مرحلة المبادئ ـ لا يمكن أن يقول ـ في مرحلة الجعْلِ ـ إنّ أكْل المـَيتةِ في حال الضرورةِ حرامٌ ، وذلك لأنه هو الذي أجاز ذلك بل أوجبه بعنوان ثانوي ، فكيف يحرّمُه في نفس الوقت ؟!

إذن ، الأفعال نوعان : فإمّا أن تكون مبغوضةً ذاتاً كأكْلِ المـَيتة ، وإمّا أن تكون مبغوضةً عرَضاً كدخول الأرض المغصوبة وتحطيم زرعها ، ففي الحالة الأولى تبقى المبغوضيّةُ الذاتية حتى في حال الضرورة ، ولكن مع ذلك قد يصير الفعل واجباً ـ رغم مبغوضيّتـه الذاتيّة ـ لكن بلحاظ ما يطرأ عليه من مَلاك معارِض ـ كما لو اضطُرّ إلى أكْلِ الميتة ليـبقَى على قيد الحياة ـ يصير واجباً ، ولا نـقول يصير محبوباً . وفي الحالة الثانية لا تبقى المبغوضيّة قائمة في حال الضرورة ، وإنما يَنظر الباري تعالى إلى مجموع المصالح والمفاسد فقد يحبّها ، كما فيما لو انحصر إنـقاذ الغريق بدخول أرض الغير ، ففي هكذا حالة يحب الله تعالى هذا الدخول ولا يكرهه ، إنما لأجل الإنـقاذ ، نعم ، النـتيجة في مرحلة الحكمِ واحدةٌ في كلا نوعَي الأفعال ، وهي أنّ الله يَحكم على أساس الأهمّ .

مثال آخر : الكذبُ ـ ذاتاً أي بالعنوان الأوّلي ـ مبغوضٌ وحرام ، لكنْ في الضرورة قد يصير واجباً جعْلاً وفِعْلاً ، بسبب الكسر والإنكسار في مرحلة الملاك ، ومع ذلك يـبقى مبغوضاً ملاكاً دائماً أي حتى في حال الضرورة ، وكذلك الأمْرُ في الصدق تماماً ، فنقول : الصدقُ ذاتاً حَسَنٌ جدّاً وفي كلّ الحالات ، لكنْ عند التشريعِ ينظر الشارعُ المقدّس إلى مجموع المصالح والمفاسد فيجعل الحكمَ الشرعي على أساس النـتيجة . وكذلك يفعل كلّ العقلاء ، فلو كان السلطان الظالمُ يريد قتْلَ المؤمنِ الفلاني ، وهذا المؤمِنُ مختبئٌ عندك ، فلو سألك الظالمُ عنه هل أنه موجود في بـيتك وقلتَ الصدقَ لأخَذَهُ وقتَلَه ، فالكذبُ في هكذا حالة وإن كان قبـيحاً ذاتاً ، ولكنه بلحاظ مجموع المفاسد والمصالح واجب على صعيد الحكم ، أي بعد الكسر والإنكسار بـينهما ، والصدقُ وإن كان حسناً جداً في ذاته ، لكنه قد يصير في هكذا حالة حراماً ويَذِمُّ عليه كلُّ الناس ، ولا نقول يصير الصدقُ قبـيحاً في حال الضرورة ، وذلك لأنّ الحَسَنَ ذاتاً لا يصير قبـيحاً .

وبما أنّ الجعل يكون بعد الكسر والإنكسار في مرحلة مبادئ الحكم فإنّ الشارع المقدّس ينظر في مرحلة الملاك إلى المصالح والمفاسد في الفعل ثم يتوّلد الحُسْنُ والمحبوبـية أو القبح والمبغوضيّة ، ولذلك فقد يأمر المولى بشيئ مع أنّه قد يشوبه شيء من القبح كالجهاد في سبـيل الله وما يترتّب عليه من قتل وجرح ودمار في سبـيل الله جلّ وعلا ، وقد يَنهَى عن شيءٍ مع أنه قد يشوبه شيءٌ من المنفعة أو اللذّة للإنسان ، كشرب الخمر والغناء .

ولذلك فأكْلُ الميتةِ مبغوضٌ ذاتاً حتى في حالات الضرورة ، ولكنه مع ذلك قد يصير واجباً بلحاظ مجموع المفاسد والمصالح ، أي بلحاظ النظر إلى وجوب حفظ النفس ـ ولا نـقول يصير أكْلُ الميتةِ محبوباً ـ لأنّ المبغوض الذاتي لا يصير محبوباً حتى في حال الضرورة .

والنـتيجةُ هي أنه قد تكون مقدّمة الواجبِ مبغوضةً ذاتاً أي بالعنوان الأوّلي ـ كأكْلِ المَيتة ـ ومع ذلك بعد الكسر والإنكسار قد تصير واجبةً في الضرورة ، أي بلحاظ النظر إلى حال الضرورة وتلف النفس ، وذلك لأنّ الجعولات تـترتّب على مجموع المصالح والمفاسد وبعد الكسر والإنكسار بـينها ، فقد يتغيّرُ الجعلُ عن الملاك الذاتي الأوّلي فيصير أكْلُ الميتةِ واجباً جعْلاً وفِعْلاً لدفع الأسوأ ـ وهو تلف النفس ـ بالسيّئ ـ وهو أكْلُ الميتةِ ـ .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo