< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

المراد بالقدرة بالمعنى الأعمّ هي القدرة الأعمّ من القدرة العقليّة ، أي القدرة العقليّة والعاديّة والشرعيّة ، فقد عرفتَ اشتراطَ القدرةِ في التكليف ، عقلاً وشرعاً .

أمّا القدرةُ العقليّة فهي بعكس الإستحالة العقليّة ، والإستحالةُ العقليّة هي من قبـيل الجمع بـين النقيضين في وقت واحد وزمان واحد ، ومن قبـيل الجمع بين إنقاذ غريقين في نفس الوقت إن كان الجمع بـينهما مستحيلاً ، ولذلك يُشترَط في التكليف القدرةُ عليه عقلاً ، فلو كان المكلّفُ عاجزاً عن الجمع بين الإنقاذين أو بين الصلاة والإنقاذ فلا يمكن تنجيزُ كلا الحُكْمَين عليه ، لذلك قال علماؤنا باشتراط عدم وجود مزاحِم للمكلَّف به في مرحلة الإمتـثال . وقد أدخلْنا التزاحمَ في العجز العقلي لأنّ المفروض أنه لا يمكن الجمعُ عقلاً ، وقد يعبَّرُ عن القدرة العقليّة هنا بـ (عدم الإشتغال بالضدّ) ، وذلك لأنّ نظر العلماءِ في هذا البحث هو إلى (عدم الإبتلاء بالضدّ) .

والقدرةُ العاديّة هي بعكس العجز العادي كالطيران في السماء ، فإنّ الطيران في السماء ممكن عقلاً ، لكنه مستحيل لنا عادةً إلاّ بوسائل .

وأمّا القدرةُ الشرعية فهي القدرة الشرعيّة على أداء التكليف كالإستطاعة إلى الحجّ وسلامة البدن في مورد الصيام ، ويعاكسها العجزُ الشرعي ، فمثلاً : أنت غير قادر شرعاً على شرب الخمر والكلام أثـناء الصلاة ... مع أنك قادر عقلاً وعادةً . وقد تكون قادراً عقلاً وشرعاً على فعلٍ ما ، لكنك تقع في حرج أو ضرر ، ففي هكذا حالة يسقط التكليفُ ، وقد يحرم ـ على تفصيل ذكرناه قبل قليل عند بحثـنا في قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، وهو استـثـناء الأمور المبنيّة على الضرر أو الحرج ـ .

ومرادُنا من (عدم الإشتغال) هو أنه إنْ كان يشتغلُ بالأهمّ ـ كالإنـقاذ ـ فلا يجب عليه ـ عقلاً ـ الإشتغالُ بالواجب المهمّ ـ كالصلاة ـ ، نعم يـبقى المهمُّ واجباً فِعليّاً عليه بمقتضى تماميّة محبوبـيَّتِه فعلاً ، وعليه فلو فرضنا أنه ترك الأهمّ وفَعَلَ الصلاةَ ـ مثلاً ـ لَوَقَعَت الصلاةُ صحيحةً وذلك لبقاء فِعليّة الأمر بالصلاة ولبقاء محبوبـيّة الصلاة عقلاً وشرعاً ، بل بهذا يحكم العقلُ ، وتفصيلُ ذلك يظهرُ في البحث التالي .

مسألة الضدّ ونـظـريّـةُ الـتـرتّـب

والسؤال هنا هو : هل الأمْرُ بالشيء يقتضي النهيَ عن ضِدِّه أم لا ؟ ثم بالمناسبة نـتعرّض لنظريّة الترتّب فنقول :

لا بدّ من التـفصيل في المقام ، فالضدّ إمّا أن يكون ضدّاً عاماً وهو النقيض ـ والمتـناقضان هما الموجود وعدمُه ـ وإمّا أن يكون الضدُّ ضدّاً خاصّاً ـ والمراد من الضدّين هنا هما الأمران الوجوديّان المتزاحمان كالصلاة بالنسبة إلى الإنـقاذ ـ .

أمّا في النقيض :

فإنْ وجبتِ الصلاةُ حَرُمَ نـقيضُها ـ أي ترْكُها ـ لكنْ بالحرمة العقليّة ، وهو ما يعبَّر عنه بالممنوعيّة([1] ) ، لا بالحرمة الشرعيّة المستقلّة ، يعني لا أنّ نفس (ترك الصلاة) صار مبغوضاً وحراماً ، فليس ترك الواجب مبغوضاً شرعاً ، وإنما فِعْلُ الواجبِ حَسَنٌ ، وفرقٌ بـينهما . وبتعبـيرٍ آخر : حين يوجب الباري تعالى الصلاةَ مثلاً فإنه لا يَفْعَلُ تشريعين : (وجوب الصلاة) و (حرمةَ تركها) ، فإنه لغو محض ، وإنما يُشَرِّع تشريعاً واحداً بسيطاً وهو الوجوب فقط ، وحينما يشرّع حرمةَ شرْبِ الخمر فإنه لا يشرّع تشريعين : (حرمة شرب الخمر) و (وجوب تركه) ، فإنه ـ كما قلنا ـ لغو محض . نعم ، يَحكم العقلُ بممنوعيّة ترك الصلاة ، لأنَّ ترْكها يكون معصيةً لله سبحانه وتعالى ، لا لأنّ في تركها مبغوضيّةً شرعيّة ، وإلاّ لقال المولى تعالى (يحرم ترك الصلاة) وهذا لا يصحّ . وكذا في شرب الخمر ، فحينما يحرّمه اللهُ عزّ وجلّ فهذا يكشف عن وجود مفسدة ومبغوضيّة فيه ، ولا يعني وجودَ مصلحةٍ في ترك شرب الخمر ، وبالتالي لا يعني وجوبَ ترْكِه ، فلو نام الإنسانُ ولم يشربِ الخمرَ فلا يُقال : المصلحةُ الملزمة عليه الآن ـ أي حين نومِه ـ هي في عدم شربه للخمر ولا يقال : المصلحة الآن ـ حين نومه ـ هي في عدم كَذِبِه ، كما لا يقال : المصلحة الآن هي في عدم غِيـبته وعدم سرقته ... كما لا يقال له إذا كان لا يشرب الخمر : هو يفعل الواجب .

وبتعبـير ثالث : قد يقال للتاجر إنك إن تاجرتَ بالسلعة الفلانية فإنك سوف تربح كثيراً ، فهذا لا يعني أنه إذا ترك هذه التجارةَ فإنه سوف يخسر كثيراً ، وكذا الأمر تماماً في الوجوب ونـقيضه وفي الحرمة ونـقيضها ، فإذا لم يربح الشخصُ ثوابَ الصلاة فإنه لن يخسر شيئاً ، وإذا ترك شرب الخمر فهذا لا يقتضي أنه سوف يربح شيئاً ، فقد يذهب وينام أو يلهو ويلعب .

فإن قيل : إنّ معنى (الصلاة واجبة) هو : (الصلاة واجبة) و (ترْكُها حرام) ،

قلنا : هذا خطأ واضح ، فإنه ـ إضافةً إلى عدم الدليل عليه ـ مخالف للعقل ، لأنّه يكفي تشريعٌ واحد في إبداء المعنى المراد ، وهو الوجوب البسيط ، الذي يعني الإلزامَ بالفعل ، وبالتالي يكون ترْكُ الإمتـثال ممنوعاً عقلاً ، ويستحقّ المكلّفُ العقابَ عليه ، ولذلك يكون من اللغو أن يتضمّن الحكمُ الإلزامي حكمَين اثـنين كالحكمين المذكورَين .

على أنّ التروكات ـ كترْكِ الصلاة وتركِ شُرْبِ الخمر ـ لا يمكن أنْ تـتـصف بالصفات الوجوديّة كالحرمة والوجوب لأنّ التروكاتِ أعدامٌ ، ولا يصحُّ وصْفُ العدم بصفة وجوديّة ، فلا يصحّ أن تقول (ترك الصلاة أو ترك التـنـزّهِ أو ترْكُ الأكل أمور جميلة أو طويلة أو عريضة .. ) وذلك لأنها أعدام ، وإنما تقول (الصلاة واجبةٌ) و (التـنـزّهُ مُريحٌ) ...

ومن هنا تعرفُ أنه لا وجه لما قد يقال من أنّ (الصلاة واجبة) هي عين (ترْكُها حرام) ، فإنّ الوجوب غيرُ الحرمةِ ملاكاً ، فالوجوب صفةٌ لما فيه مصلحةٌ ملزِمةٌ ، وترْكُ الصلاةِ لا مفسدة فيها لأنّ التركَ أمْرٌ عدمي ، وإنما التركُ يفوّت مصلحةً ملزمةً ، إضافةً لما قلناه قبل قليل من أنّ التركَ لا يتّصف بالحرمة .

إذن ممنوعيّةُ ترْكِ الصلاةِ عقليّة لا شرعيّة ، وحتى لو سألت نَـبـياً من أنبـياء الله لقال لك ترْكُ الواجبِ ممنوعٌ عقلاً ، ولذلك يستحقّ الإنسانُ العقابَ من المولى تعالى على ترْكِ الصلاة ، لأنّ تركها يعني معصيةَ الله تبارك وتعالى وعدمَ امتـثال أمره ، وشرب الخمر هو الحرام شرعاً ، وليس نقيضه هو الواجب شرعاً ، أي ليس ( ترْك شرب الخمر ) واجباً شرعاً ، وإنما هو واجب عقلاً .

 


[1] تميـيزاً له عن الحرمة الشرعيّة، فإذا قلنا ممنوع أي عقلاً، وإذا قلنا حرام أي شرعاً .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo