< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : آخر بحث المفاهيم

... ومِثالُها من كتاب الله الكريم قولُه تعالى ( لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ، وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)) [1] ، فإنّ الإستـثـناء فيها هو استـثـناء من الحكم ، لأنّه يفيد معنى (إلاّ من ظُلِمَ فإنّ الله يحبّه ...) ، ولذلك كان هذا القول الكريمُ ظاهراً في أنه يجوز للمظلوم أن ينـتصر لنفسه من الظالِمِ بالقول السيّئ ويجهرَ بذلك ويحبّ اللهُ ذلك ، ومن شدّة ظهوره في المفهوم قد يُتراءَى لك أنّ هذا المفهوم هو مدلول مطابقي . والمصاديقُ المعروفةُ للقول السيِّئ في هكذا حالة هما الغِيـبةُ والشَّتْمُ ، فإنهما اللذان ينصرَفُ إليهما الذهنُ ، وفي مرسلة العياشي عن الفضل بن أبـي قرة عن أبـي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى ( لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ) قال (عليه السلام) : ( مَن أضاف قوماً فأساء ضيافتَهم فهو ممّن ظَلَمَ ، فلا جُناحَ عليهم فيما قالوا فيه )[2] أي مِن شتْمٍ وغِيـبة ، وقريـب منها مرسلةُ العياشي أيضاً عن أبـي الجارود عن أبـي عبد الله (عليه السلام) قال : ( الجهر بالسوء من القول أن يُذكَر الرجلُ بما فيه )[3] أي من عيوبٍ كسُوءِ الأخلاق مثلاً .

المهم هو أنّ آيةَ ( لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ ) تفيد أصالةَ كراهة الله جلّ وعلا للجهر بالقول السيّئ ، أي تـفيد عمومَ كراهةِ القول السيّئ ـ كالشتم والغِيـبة ـ فهو الأصلُ الأعلائي في المقام ، فما خرج منه هو استـثـناء ، فيُؤخذ ـ مع الشكّ بمقدار المستـثـنَى ـ بالقدر المتيقّن من المستـثـنَى . المهم هو أنّ المفهوم هنا هو (أمّا ما كان منطلِقاً مِنَ المظلوميّةِ فإنّ اللهَ يحبّه) ، والأحوط أن يكون من باب الإنـتصار للنفس والإنـتصاف من الظالم ، لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنـتصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ، إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انـتصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبـيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبـيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيـبغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)) [4] ، ومن الطبـيعي عدمُ جواز أنْ يزيدَ الإنـتصارُ للنفس على مقدار الظلم، وإلاّ لصار المظلومُ ظالماً .

إذَنْ ، إذا كانـت جملة الإستـثـناء إيجابـيةً فلا ينبغي أن نجعلَها تحت عنوان جملة الحصر ، لما ذكرناه قبل قليل ، وإن كانـت سلبـيةً ثم جاءت (إلاّ) لكان الأحسنُ أن نجعلَها في جمل الحصر ، لأنها تفيد الحصرَ بوضوح ، لما قلناه ، ويكون لها ح مفهومٌ .

والنـتيجةُ هي أنّ الجملة الإستـثـنائيّة قد يكون لها مفهوم ، وقد لا يكون لها مفهوم .

 

وقد يُفاد الحصرُ بأداة الحصْرِ (إنما) أو بغيرها ، وهذه الأدوات تفيد المـفهوم بلا شكّ ولا خلاف ، والحصْر قد يكون حصْراً للموضوع بحكم واحد ، وليس له حكم آخر ، مثل قولِنا ( زوجيّةُ المرأة لا يترتّب عليها إلاّ وجوب واحد فقط ـ أي حُكْم واحد فقط ـ وهو وجوب التمكينُ ، ولا يترتّب عليها إلاّ حرمة واحدة فقط وهي حرمةُ الخروجِ من بـيت الزوج بغير إذنه) ، وهكذا حالةٌ يكون لها مفهوم بوضوح ، لأنـنا كلّما نشكّ في حالةٍ ما فلنا أن نرجع إلى هذا العموم .

وقد يكون حَصْراً للحكم بموضوع واحد فـقط ، كما في موثقة عبد الله بن أبـي يعفور عن أبـي عبد الله (عليه السلام) قال : ( إذا شككتَ في شيء من الوضوء وقد دخلتَ في غيره فليس شكك بشيء ، إنما الشك إذا كـنـت في شيءٍ لم تَجُزْه )[5] ، فإنها تفيد أنّ حكم التجاوز ـ أي البناء على الصحّة ـ مختصٌّ بموضوع واحد وهو حالة العلم بتحقّقِ التجاوز ، فقط لا غير ، ففي غير حالة العلم بالتجاوز لا تجري هذه القاعدةُ أصلاً ولأيّ سبب ولأيّ ملاك ، إذن هكذا روايةٌ تُفيد المفهومَ بلا شكّ ، بمعنى أنه في حالة الشكّ في البقاء أو التجاوز فإنه يُرجَعُ إلى عموم قاعدة استصحاب عدم الإتيان بالجزء ، وذلك لأنّ قاعدة التجاوز هي على خلاف القاعدة الأوّليّة . بتعبـير آخر : قاعدةُ التجاوز ـ أي قاعدةُ البناء على الإتيان بالجزء المشكوك ـ لا تجري إلا إذا علمنا بتحقّق التجاوز ، فمع الشكّ في تحقّق التجاوز لا تجري هذه القاعدة .

وكذا الحكمُ مع الرواية عن رسول الله (ص) : ( إنما الأعمالُ بالنيّات )[6] ، فإنها تفيدُ أنّ الحكم بقبول الأعمال يتوقّف على شرط واحد فـقط ، وهو وجود النيّةِ الصالحة ، والعكس صحيح ، فلو كانـت النيّةُ سيّئة ، لكان الحكم هو عدم قبول الأعمال أو استحقاق العقاب ، وكذا الكلام في قولنا "إنما حُرِّمَ عليكم كذا وكذا" ، وكذا الكلام أيضاً فيما رواه في الفقيه بإسناده الصحيح عن زرارة عن أبـي جعفر (عليه السلام) أنه قال : ( لا تُعادُ الصلاةُ إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود )[7] .

ولعلّك لاحظتَ أنه مع انحصار الموضوع يكون حكمه محصوراً لا محالة ، كما رأيتَ في كلّ الأمثلة السالفة الذكر . فمثلاً : حديثُ ( لا تُعادُ ) يفيدنا انحصارَ الإعادةِ في الموارد الخمسة المذكورة فـقط ، هذا الكلامُ يعني : في غير الموارد الخمسة المذكورة لا تعادُ الصلاةُ أصلاً ولأيّ سبب ـ طبعاً إلاّ في حال التعمّد ـ .

ومِنَ الحصْرِ تـقديمُ ما حـقُّه التأخيرُ كقولنا (إنّ عمودَ الدينِ الصلاةُ) ، وكقولِ الأستاذ للآباء عند توزيع التلاميذ بلحاظ آبائهم : (أنـت إبنُك محمد ، وأنـت إبنُك عليّ ، وذاك الشخصُ إبنُه حسن) ، بدل أن يقول محمد هو ابنك ، وعليٌّ هو ابن فلان ... كما هو الأصل في الكلام .

ومن هذا البابِ تقديمُ المفعولِ به ، نحو قوله تعالى ( إيّاكَ نَعْـبُدُ وإيّاكُ نَسْـتَعِينُ ) .

ومِنَ الحصْرِ أيضاً ذِكْرُ الموضوعِ بنحو الطبـيعة ، كقولِنا (الإنسانُ هو الذي يكون عقلُه كاملاً وعنده دِينٌ وحياء ، وأمّا الذي لا يتمتّع بكمال العقل والدين والحياء فليس بإنسان) ، فإنّ قولَك (الإنسان) هنا يفيدُ إرادةَ حصْرِ (الإنسانِ) بمَن كان يتمتّعُ بالأمور المذكورة ، لأنّ (الإنسان) هنا معرّف بلام الجنس ، وبالتالي يفيد الطبـيعة ، وبالتالي يفيد إرادةَ الإستغراق . ومِثلُه إن استعملنا الإسمَ الموصول بدل اسم الجنس ، كما لو قلنا (الذي هو إنسانٌ هو الذي يتمتّع بالخصال الفلانيّة) .

ومن هذا الباب أيضاً قولُ الشاعر : إذا قالَتْ حَذامِ فَصَدّقوها فإنّ القولَ ما قالتْ حَذامِ[8]

هذا ما يفيدنا وما ينفعنا من بحث الحصر ، ومَن يريدُ التفصيلَ فلينظرْ إلى علم البلاغة فقد ذكروا الحصْرَ بتوسعة قد لا تـنفعنا في علم الأصول كقَصْرِ الصفة على الموصوف نحو ما وَرَدَ في كتب السير والأخبار من أنّ جبرئيل (عليه السلام) نادَى يومَ أُحُدٍ ( لا فَتَى إلاّ علِيّ ، ولا سيف إلاّ ذو الفقار ) وكقصْرِ الموصوفِ على الصفة نحو ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ )[9] و ( إنَّما أنـت مُنْذِرٌ ) [10] ...

وبالتأمّل في بعض أمثلة الجمل الإستـثـنائيّة والجمل الحَصْرِيّة تلاحظُ أنهما من واد واحد ، ولذلك قد تـتردّد في بعض الأمثلة هل يجب أن نجعلها تحت الجمل الإستـثـنائيّة أو تحت الجمل الإنحصاريّة ، مثل (لا إلهَ إلاّ اللهُ) ، وهي الجمل السلبـية التي يتعقّبها حرفُ (إلاّ) ، من قبـيل ما رواه في الفقيه بإسناده الصحيح عن زرارة عن أبـي جعفر (عليه السلام) أنه قال : (لا تُعادُ الصلاةُ إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود )[11] .

بقي شيء حول دلالة بعض الجمل على الحصر الإضافي ، مثل صحيحة زرارة عن أبـي جعفر (عليه السلام) قال : ( لا صلاة إلا بطهور )[12] فإنّ الحصر فيها هو حصر إضافي ، أي أنّ الحصر فيها هو من حيثيّة معيّنة وهي حيثيّة الطهور، عَرَفنا ذلك من قرائنَ خارجيّة ، ولذلك لا مشكلة ـ مع هذه الرواية ـ في ورود ما رواه في الفقيه بإسناده عن زرارة عن أبـي جعفر (عليه السلام) أنه قال : ( لا صلاة إلاّ إلى القبلة )[13] صحيحة السند ، وكذا لا مانع من ورود الحديث النبويّ الشريف : ( لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب )[14] ولا نشعر بأيّ مجازيّة أو تعارضٍ بـين هذه الروايات ، ولذلك لا يكون لهكذا رواياتٍ مفهومٌ أصلاً لأنها بمعنى : يُشترط في الصلاةِ الطهورُ والإستقبال وفاتحة الكتاب ، ولا تُقبل الصلاةُ من دونها ، فإذن التقيـيدُ هنا هو تقيـيد للصلاة لا للحكم .

 


[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج8، ب155، من أبواب أحكام العِشْرة، ح6، ص605، الاسلامية. . والفضل بن أبـي قرة تميمي ـ قال فيه النجاشي ـ ( من السهند بلد من آذربـيجان . إنـتقل إلى أرمينية، روى عن أبـي عبد الله (عليه السلام)، لم يكن بذاك . له كتاب يرويه جماعة، أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثـنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثـنا محمد بن أحمد الكلابـي قال حدثـنا علي بن إسحق بن عمار قال حدثـنا شريف بن سابق عن الفضل بكتابه) (إنـتهى جش) . وقال عنه الطوسي في رجاله ... التفليسي . وفي رجال ابن الغضائري (هُوَ ضَعِيْفٌ، مُضْطَرِبُ الأمْرِ )، وقال فيه أيضاً (آذربـيجاني، أصله كوفي)
[3] تفسير العيّاشي : ج1، ح297، ص283. . في وثاقة أبـي الجارود كلام معروفٌ، ولكننا نوثّقه لتوثيق المـفيد له ولمدحه مدحاً بليغاً، ولتوثيق سعد بن عبد الله له، نقله النجاشي في ترجمة زياد بن عيسى، وقاله ابن فضّال، نَـقَلَه عنه الكشّي، وقال العلاّمة ثقة صحيح، ولا يضر فساد عقيدته بوثاقته
[8] حذام هي أم عجل، واسمُها : حَذام بنـت جسر بن تيم بن يقدم بن عنزة، وبها يُضرَبُ المثلُ في الصدق، والشعر المذكور هو لزوجها لُجَيم بنِ مصعب بن علي بن بكر بن وائل .
[9] آل عمران : 144 .
[10] الرعد :ـ 7 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo