< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/12/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مفهوم الجمل الوصْفِيّة واللقبـية والغائيّة

مفهوم الجملتين الوصْفِيّة واللقبـية

قد يقول المولى (أكرِمِ الفقيرَ العادلَ) فهل هذه الجملة الوصفيّة تـفيد معنى (إن لم يكن الفقير عادلاً فلا يجب إكرامه بأيِّ ملاك آخر) ؟ وبتعبـير آخر : هل قولُه (أكرِمِ الفقيرَ العادل) تفيد معنى (لا يجب إكرام الفقير أصلاً وبأيّ ملاكٍ إلاّ إذا كان عادلاً) ؟ وبتعبـير ثالث : لو ورد روايةٌ أخرى تقول : (أكرِمِ الفقيرَ الهاشمي) ، فهل تـتعارض هاتان الروايتان ؟

من البديهي ـ كما قلنا في الجملة الشرطيّة ـ أنه إن لم يَرِدْ إلاّ جملةُ (أكرِمِ الفقيرَ العادلَ) فسوف لن يـبقَى محلّ للشكّ والإشكال في عدم وجوب إكرام الهاشمي ، وذلك لفرض عدم ورود إكرام الهاشمي في رواية ، وإن لم نجد فقيراً عادلاً وإنما وجدناه فاسقاً فإنّ الحكم الشخصي لن يتحقّق .

وأمّا إن ورد رواية صحيحة ثانية تقول (أكرِمِ الفقيرَ الهاشمي) فكلّ العلماء يَجمَعون بـين الجملتين بـ (و) طبقاً للفهم العرفي ، كما قلنا في الجملة الشرطيّة تماماً ، ممّا يعني أنّ لكلّ موضوع حُكمَه الشخصي . وبتعبـير آخر : الجملة الوصفيّة هي بمثابة الجملة اللقبـية ، فقولك (أكرم الفقير العادل) بمثابة قولك (أكرم هؤلاءِ) أو (أكرِمْ هذا الصنفَ مِن الناس) ، أي أنه ليس هناك توقّف لطبـيعي الحُكْم على العدالة ـ كما كان الأمر في الجملة الإنحصاريّة ـ وإنما هناك نظر إلى صنف معيّن من الناس . ولك أن تقول : إنّ بـين الإكرام والفقير نسبةً ناقصة ، وبـين الفقير والعادل أيضاً نسبة ناقصة تقيـيديّة، وبالتالي فكأنّ المتكلّم قال : أكرمهم أو تصدّق عليهم ، من دون أيّ دالّ على توقّف طبـيعي الحكم على الشرط . ولذلك قال العلماء إنه لا مفهوم للجملة الوصفيّة .

وبعدما عرفت عدمَ وجودِ مفهوم للجملة الوصفيّة لا يـبقى مجالٌ للبحث في احتمال وجود مفهوم لـ جملة اللقب كقولنا (أكرم العالِمَ) ، وذلك لوضوح أنّ هذا القولَ لا يُفيدنا انحصارَ طبـيعي وجوب الإكرام بـ (العالِم) ، فهو لا يفيدنا معنى (لا يجبُ إكرامُ أحدٍ في العالمين أصلاً وبأيّ ملاكٍ إلاّ إذا كان عالماً) ، وإنما يفيدنا معنى (أكرِمِ العالِمَ9 فقط ، أي يفيدنا حكماً خاصّاً ناظراً إلى موضوع خاصّ ، ولا يـنفي مجيءَ حكمٍ آخر يفيدنا وجوبَ إكرام الفقير ، ومجيءَ حُكْمٍ ثالث يفيدنا وجوبَ إكرام الهاشمي ... وأنـت تعلم أنّ المراد من مفهوم اللقب هو نـفْيُ طبـيعيّ الحكم عمّا لا يتـناوله اللقبُ . والنـتيجةُ في جملة اللقب هي أيضاً عدم وجود مفهوم لها .

مفهوم الجملة الغائيّة

والمراد منه ما يستفاد من الجملة الغائيّة من مفهوم سلبـي بشرط توقّف طبـيعي الحكم على علّة منحصرة ـ وهي عدم تحقّق الغاية ـ وذلك كما قلنا في الجملة الشرطيّة تماماً [1] ، والمفهومُ هو أنه (إذا تحقّقت الغايةُ فإنّ طبـيعي الحكم يتغيّر) ، وما لم يثبت توقّفُ طبـيعي الحكم على بلوغ الغاية فلا مفهوم ، لما ذكرناه في الجملة الوصفيّة تماماً [2] .

وسترَى أنّ الجملة الغائيّة قد تفيد توقّفَ طبـيعي الحكم على العِلّة المنحصرة ، وقد لا تفيد المفهوم ، ولذلك سنقدّم عدّةَ أمثلة على موضوعنا ، وسنصنّفُها ضِمن صنفين لينظرَ القارئُ متى يُفهمُ التوقّفُ المذكور ـ الذي يفيدنا المفهومَ المطلوبَ ـ ومَتَى لا يُفهمُ :

الصنف الأوّل ، ما يدلّ من الجملة الغائيّة على المفهوم ، وهي فيما لو أفادت معنى توقّف طبـيعي الحكم على علّة منحصرة :

قال الله تعالى ( وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ ـ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ حَتَّى يـبلُغَ أَشُدَّهُ ([3] ، فمدلولُها المطابقي هو : يَحْرُمُ بأيّ وجهٍ التصرّفُ بمال القاصر إلاّ بالتي هي أحسن ، وهذا حصْرٌ واضحٌ لجواز التصرّف بمال القاصر ببلوغه فقط ، لأنها بمعنى (إلاّ إذا بَلَغَ) ، إذن فمفهومُها هو أنه إنْ لم يَعُدْ قاصراً فلَكُمْ أن تَقْرَبوا مالَه ـ طبعاً بإذنه ـ ، بل قد يقال إنّ هذا المفهومَ من شدّة ظهوره أشبهُ بالمدلول المطابقي .

والفرقُ بـين هذه الآية ـ في الدلالة على الإنحصار ـ وقولِنا (أكرِمِ الفقيرَ العادلَ) هو أنّ هذه الجملة الوصفيّة لا تدلّ على الإنحصار ، أي لا تدلّ على معنى (لا يجبُ إكرامُ الفقيرِ إلاّ إذا كان عادلاً) وإنما تقول (أكرِمْ هذا الصنفَ من الناس) فهو حكمٌ مترتّبٌ على موضوع خاص ، ممّا يجعل الحكمَ خاصّاً ، أمّا الآيةُ فإنها تفيد الحرمةَ من كلّ وجهٍ في حال عدم البلوغ ، فكأنها تقول : لا يجوز التصرّفُ أصلاً قبل بلوغه مرحلةَ الرشد ، نعم ، إذا بلغ جاز ، فإذن للآية مفهوم واضح.

ومثلُها قولُه تعالي ( وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً ، وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا ، وَاكْسُوَهُمْ ، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا اليَتَامَى ، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ، وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا ، وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ ، وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ، وَكَفَى بِاللهِ حَسِيـباً (6)) [4] ، إلاّ أنها هي بنفسها تصرّح بالمدلول الإلتـزامي ، فلو لم تصرّح وقالت ـ مثلاً ـ (لا تؤتوا الصغارَ أموالَكم أصلاً ولأيّ سبب إلاّ إذا بلغوا مرحلةَ الزواج والرشد) ، لكان لها مفهوم ، لأنها ح تدلّ على الحصر بوضوح ، فيكون مفهومها (إذا بلغوا مرحلة الزواج والرشد فأتوهم أموالهم) .

بتعبـير آخر : قولُنا (لا يجوز أن تعطيَ اليتيمَ مالَه حتى يرشدَ) له مفهوم ، لأنّ الحرمةَ هنا هو طبـيعيَّ الحكم ، لا شخص الحكم ، دليلُنا هو وجود معارضة إذا جاءتـنا روايةٌ اُخرى تجيز التصرّف بمال القاصر في حالةٍ ما وسنقع ح في المجازيّة .

مثالٌ آخر : قال اللهُ تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ، فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ ، وَلاَ تَـقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابـينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ (222))[5] فالمدلول المطابقي للآية هو (لا يجوز مقاربتهنّ إلاّ إذا طهرن) إذن الآيةُ تفيد الحصرَ ، فإذا أفادت الحصر فإنها تفيد المفهوم بالإجماع ، فح يكون مفهومُ الغاية هنا هو (فإذا طَهُرَتْ فلا تَحْرُمُ مقاربتُها) ، والمشهور بـين الأصحاب هو عدم الحرمة حتى قبل الغُسل، ويَتِمّ الجمعُ بـين ( وَلا تَـقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) وبـين (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ) بحمْلِ الآيةِ الثانية على كراهة الوطء من دون تطهير موضع الدم أو من دون الإغتسال [6] . إذن إنْ فهِمْنا معنى (طبـيعي حرمة مقاربة الزوجة يتوقّف على علّة منحصرة وهي الحيض) أي لا حرمة بعد فترة الحيض أصلاً ولأيِّ سبب ، فللآية مفهومٌ، وأمّا إذا فهِمْنا معنى (جعل اللهُ حرمةَ الوطء في أيام الحيض) ـ أي كأنما قال جَعَلَ اللهُ الحرمةَ على شرب الخمر ـ فهذا المعنى لا يُفهم منه طبـيعي الحِليّة بعد الطهر من الحيض ، بمعنى أنه قد يحرم الوطءُ بسبب آخر ، كتلوّثِ مخرج الدمِ أو عدمِ الإغتسال .

بتعبـير آخر : إنْ فهِمْنا معنى الحصر من جملة الغاية كان لها مفهوم ، أي إنْ فهِمْنا من الآية المعنى التالي ( إنما يَحْرُمُ مُقاربتُها إذا كانـت حائض فقط ، ولا يَحْرُمُ الوطءُ بَعد طُهْرِها ) يكن لها مفهوم وإلاّ فلا .

 


[1] إدَّعَى العلاّمة السيد حسن بن علي أصغر الموسوي البجنوردي في كتابه منـتهى الأصول : ج1، ص438، وجودَ مفهومٍ للجملة الغائية، ورجّحه أيضاً الشيخ محمد رضا المظفّر في كتابه أصول الفقه : ج1، ص176 .
[6] بحَثـنا في هذه النقطة بتوسعة في القسم الثاني من كتابنا هذا، ص290 .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo