< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/12/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : طبيعي الحكم وشخص الحكم

وإنما قلنا (طبـيعي الحكم) لأنّ المولى قد يقول مثلاً : (أكرِمِ الفقيرَ العادلَ) فإن وجدنا فقيراً فاسقاً ـ لا عادلاً ـ فإنّ شخص (أكرِمِ الفقيرَ العادلَ) لا يَثبتُ في هذا الفقير الفاسق ، ولكن قد يَثـبُتُ شخصٌ آخر لوجوب إكرام الفقير الفاسق ، وذلك كما لو ورد روايةٌ صحيحة اُخرى تقول (أكرِمِ الفقيرَ الهاشمي) ـ مثلاً ـ فح يجب إكرامُ هذا الفقير الفاسق لكنْ بملاك الهاشميّة ، ولا يحصَلُ تعارضٌ أصلاً بـين الروايتين ، وذلك لأنه يمكن ـ عُرفاً ـ الجمعُ بـينهما بالواو ، بمعنى أكرِمِ الفقيرَ العادل وأكرم الفقير الهاشمي .

أمّا لو ورد (لا يجب على الصبـي الصلاةُ إلاّ إذا احتلمَ) فإننا ح نفهم انحصارَ طبـيعي وجوبِ الصلاة باحتلامِه ، بمعنى أنه لو وَرَدَنا روايةٌ صحيحة تقول (يجب على الصبـي الصلاةُ عند بلوغه ثلاث عشرة سنة) لوقعنا في التعارض لأنّ الرواية الثانية سوف تعارض الإنحصار في الإحتلام ، بدليل أنه لا يمكن الجمعُ بـين العلامتين .

أمّا في مثال (أكرِمِ الفقيرَ العادلَ) فلا يظهر انحصارُ طبـيعي وجوب الإكرام بالفقير العادل ، بدليل عدم وجود أيّ مشكلة في مجيء رواية اُخرى من قبـيل (أكرم الفقير الهاشمي) .

ومن هنا تعرفُ وجودَ تلازم بـين الإنحصار وبـين طبـيعي الحكم ، ولذلك لك أن تكتفي بأحدهما . صحيحٌ أنك يصحّ أن تقول (إنّ شخص الحكم بوجوب الإكرام ينحصر بالفقير العادل) ، كما يصحّ أن تقول ـ في مثال (أكرِمِ الفقيرَ) ـ ينحصر شخصُ الحكم بوجوب الإكرام بالفقير ، لكن تشمئز النفس من هكذا تعبـير ، وتعتبره نحواً من اللغو ، ولذلك لا يقول واحدٌ في العالَم هكذا جملةً ، وإنما يعبّرون بالإنحصار إذا كان الحكم هو الطبـيعي ، كما في (لا تجب الصلاةُ على الجارية إلاّ إذا حاضت)، ولذلك حينما يذكرُ العلماءُ الإنحصارَ فإنما يقصدون دائماً انحصارَ طبـيعي الحكم بتحقّق شرطه .

واعلمْ أنّ ظاهر (لا تجب على الجارية الصلاةُ إلاّ إذا حاضت) أنّ الحيض هو العلّة لوجوب الصلاة عليها ، طبْعاً نقصد العلّةَ الظاهريّة ، أي بحسب ظاهر الكلام .

ثم اعلمْ أنّ الظاهرَ مِنَ قول المولى (لا يجب على الجاريةِ الصلاةُ إلاّ إذا طمثت) أنّ طمثها هو العلّةُ التامّة ـ لا جزء العلّة ـ لوجوب العبادات عليها ، إذ لو كان يوجد جزءٌ آخر لوجب على المتكلّم الحكيم أن يَذكر ذلك ، وهذا ما يعبّر عنه بالإطلاق ، سواء كان الإطلاق مقامِيّاً ـ لأنّ الأصل أن يكون المتكلّم في مقام البـيان ولم يَذكر قيداً آخر ـ أو أحوالِيّاً ـ بأنّ تقول يجب على الجاريةِ الصلاةُ على أيّ حال سواء كانـت قادرةً على التحجّب أم لا ـ ...

ومع الشكّ في وجود انحصار وعدمه كما في الجملة الشرطيّة ، فما هو الأصل ؟ هنا محطّ رحالنا ، وهنا كلامُ رِجالنا ، والبحثُ المهم هنا هو في الجملة الشرطيّة فنقول :

مفهوم الجملة الشرطيّة

مثال الجملة الشرطيّة من القرآن الكريم قولُه تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنـتم مِّن وُجْدِكُمْ ، وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُـضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ، وَإِن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ، فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، وَأْتَمِرُوا بـينَكُم بِمَعْرُوفٍ ، وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6))[1] ، والسؤال هنا : هل تدلّ الجملة الشرطيّة على الإنحصار ؟ فلو وَرَدَنا : (إنْ نجح زيدٌ فأكرِمْه) و (إن كان العالمُ عادلاً فأكرِمْه) ، هل الجمل المذكورة هي بقوّة (لا يجب إكرامُ زيدٍ إلاّ إذا نجح) و (لا يجبُ إكرامُ العالِمِ إلاّ إذا كان عادلاً) ؟ أي هل يَتبادر الذهنُ إلى معنى الإنحصار المذكور ؟

وبتعبـير آخر : هل هناك تعارضٌ بـين قول المولى (إن كان العالم عادلاً فأكرمه) وبـين قوله (إن كان العالم هاشميّاً فأكرمه) وقولِه (إن كان العالِمُ أسودَ اللونِ فأكرِمْه) ؟ أي هل تشعر بالمجازيّة مع تعدّد الجمل المذكورة ؟

لا شكّ أنّ التوقّف في الجملة الشرطيّة موجود ، وإلاّ فلا معنى لأداة الشرط ، لكنَّ السؤالَ هو : هل تفهمُ من الحكم ـ في الجملة الشرطيّة ـ الطبـيعي ، أم تفهم منه شخصَ الحكم ؟ وما هو الأصلُ العرفي أو العقلي في ذلك ؟ ومع الشكّ ما هو القدر المتيقّن ؟

مثال آخر : لو ورد (إن خفيت الجدران فقصّرْ) وورد (إن خَفِيَ الأذانُ فقصّرْ) ، فهل تشعر بالمجازيّة أي بالتعارض ، أم أنك تَجمعُ بـينهما بـ (أو) ؟

الجواب : تارةً لا يَرِدُ معارِضٌ للرواية ، فلا إشكال في تمسُّكِ كلِّ العلماء ح بالرواية الموجودة ، ولا خلاف هنا في استفادة المفهوم منها ، ولو من باب عدم وجود علّة أخرى للحكم ، إذ لو كان في ذهن المولى علّةٌ أخرى أو جزء علّة متمّم للعلّة المذكورة لَوَجَبَ ذِكْرُها، فنـتمسّك بالإطلاق لنفي احتمال وجود علّة أخرى أو جزء آخر متمّم للجزء المذكور. وفي هكذا حالة يفهمون معنى الإنحصار الذي فهمناه من روايات بلوغ الجارية .

وتارةً يَرِدُ روايةٌ صحيحة معارِضة ، فح يَجمع العلماءُ بـينهما بـ (أو) طبقاً للفهم العرفي ، وهذا يعني عدمَ إيمانِهم بوجود مفهوم للجملة الشرطيّة . بتعبـير آخر : لو وَرَدَ (إن كان العالِمُ عادلاً فأكرمه) و (إن كان العالم هاشميّاً فأكرمه) فإنّ العرف يحملون كلّ حكم على الحكم الشخصي ، ويعتبرون أنّ كلّ حكم شخصي متوقّفٌ على علّة خاصّة ، فلا نقع في تعارض بـين الروايتين أصلاً . وبتعبـير آخر : يفهم العرفُ ـ من هكذا جملتَين شرطيّتين ـ معنى الإستلزام ، لا معنى التوقّف. مثال آخر : قولُه (عليه السلام) الواردُ في صحيحة معاوية بن وهب وغيرها من أنه ( إذا قصّرتَ أفطرتَ ، وإذا أفطرتَ قصّرتَ )[2] ، مع أنك تعلم أنك قد تقصّرُ أحياناً ولا يجب عليك الإفطار ـ كما لو سافرتَ بعد الزوال ـ ، كما قد تُفْطِرُ في وطنك ـ كما لو كنـت مريضاً ـ ولا تقصّر ، ومثلها قول الناس(إن أكلت السمّ تموت) ويقولون أيضاً في مجلس آخر (إن أطلقت على نفسك الرصاصة فسوف تموت) (ويقولون في مجلس آخر إنْ ألقيتَ بنفسك من شاهق فسوف تموت) ... ويَفهمون من أداة الشرط المذكورة في هذه الجمل معنى الإستلزام ، لا معنى توقّف طبـيعي الحكم على العلّة المنحصرة .

نعم ، هناك شكّ في المسألة التالية : لو وَرَدَ في الشرع ـ مثلاً ـ : (إذا ألقَى شخصٌ شخصاً من شاهق فمات ، فعليه القَوَدُ) فجاء زيد وعمروٌ فألقيا شخصاً من شاهق ، بحيث لو كان زيدٌ لوحده الملقِي لكان كافياً في وقوع الشخص من الشاهق ، وكذا لو كان عَمروٌ هو الملقي لوحده لكان أيضاً كافياً في وقوع الشخص من الشاهق ، فهل في هكذا حالة نقول بالقَوَد ـ أي القتْل ـ على كلّ واحد منهما ؟ أم نقول يحتمل وجود حكم آخر في الشرع ، كدفْعِ نصفِ الدية على كلّ واحد منهما ؟

الجواب : يجبُ قتْلُ كليهما ، وذلك لصدق قتْلِ كلّ واحد منهما ذاك المقتولَ ، وذلك لأنّ فِعْل زيدٍ كان كافياً في القتل من دون عمرو ، فكأنّ عَمْراً معه لا شيء ويساوي صِفْراً ، وكذا الكلام في عمرو . وبكلام آخر : نحن نـتمسّك بالإطلاق الأحوالي لقول المولى (إذا ألقى شخصٌ شخصاً من شاهق فعليه القَوَد) وزيدٌ قد ألقَى فلاناً من الشاهق ، بنحو العلّة الكافية ، سواءً شاركه عمروٌ بما فيه فائدة أو لم يشاركه .

الشرط المسوق لتحقّق الموضوع

قد يقول المولى (إن رُزِقْتَ ولداً فاختـنه) ففي هكذا حالة لا يوجد مفهومٌ لهكذا جملة ، لأنك إن أردت مفهومَها فسوف يكون كما يلي : (إن لم تُرزَق ولداً فلا يجب عليك ختـنه) وهذا غير صحيح ، لأنه لَغوٌ محض ، لأنّ أصل الولد غير موجود ، فيكون سلْبُ الحكم هنا من باب سلب أصل الموضوع .

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo