< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: تحدید المقدّمة الواجبة وقصد التوصّل

تحدید المقدّمة الواجبة وقصد التوصّل

بعدما عرفتَ أنّ المقدّمة واجبة عقلاً لا شرعاً، فلا یعود لهذه المسألة أی قیمة، فإذا کان قصْدُکم من معرفة دخول (قصد التوصّل بها إلی ذی المقدّمة) فی تعریف المقدّمة أو من معرفة دخول (نفس التوصّل الفعلی) فی المقدّمة هو معرفةُ استحقاق العبد للثواب أو العقاب أو لا، وبتعبـیر أشمل: إذا کان سؤالکم عن الواجب من المقدّمة هل هو مطلق المقدّمة ـ وهو قول صاحب الکفایة[1] وجماعة ـ أم خصوص المقدّمة الموصلة ـ وهو قول صاحب الفصول والسید الشهید الصدر وجماعة[2] ، وهو القولُ الحقّ ـ أم المقدّمة بقصد التوصّل ـ أی المقدّمة آلتی قُصِدَ بها التوصّلُ إلی ذیها وهو القول المنسوب إلی الشیخ الأنصاری؟

فنقول ـ کمقدّمة لحدیثـنا ـ:

الواجبُ عقلاً أن یقصد المکلّفُ امتـثالَ أمْرِ مولاه جلّ وعلا دائماً، مثلاً: علیه أن ینطلقَ الإنسانُ بقصد إنـقاذ الغریق ـ فی المثال المعروف ـ سواءً تمّ إنـقاذ الغریق أم لم یتِمَّ لمانعٍ ما، بمعنی أنه لو دخل الأرض المغصوبةَ بقصدِ الإنـقاذ، فهو بریء الذمّة ولا یستحقّ العقابَ، سواءً أنقذ الغریقَ فیما بعد أم غیر رأیه فی اللحظة الأخیرة فلم ینقذْه عمداً أو لمانع ما. وإذا دخل‌ها بلا قصْدِ الإنـقاذ أو انقلب رأیه فی وسط الأرض المغصوبة إلی عدم إرادة الإنـقاذ فهو مأثوم قطعاً، ولو من باب التجرّی، سواءً أنقَذَ الغریقَ صدفةً فیما بعد أم لم ینقذه. فإذن: قصْدُ الإنقاذِ دخیلٌ فی جواز دخول الأرض المغصوبة، ودخیل فی ترتّب الثواب، ولو من باب الإنقیاد، وهذا أمر واضح، لکن متی یطلَقٌ علیها إسم (المقدّمة) أو (المقدّمة الواجبة)؟ فنقول:

متی یطلَق علی المقدّمة إسمُ (مقدّمة)؟ الجواب هو أنه لا فائدةَ مِن معرفة مَتَی یطلَقُ علی المقدّمة إسم (مقدّمة) ومتی لا یطلَقُ علیها إسم مقدّمةً، فغایةُ المسألةِ لا تـتوقّف علی مجرّد التسمیة، وإن کان من الواضح أنّ المقدّمة لا یطلَق علیها أنها مقدّمة إلاّ إذا ترتّبتِ الغایةُ علیها، حتی ولو لم یکن ملتفتاً إلی وجود غریق فی الأرض المغصوبة وحتی لو دخل إلی الأرض المغصوبة بغیر نِـیة الإنقاذ، لکن صادف أن أنقذه بعدما وصل إلیه، فهذا الدخول یطلق علیه علمیاً وتکویناً أنه مقدّمة الإنقاذ، وذلک لأنه لولا تحصیلُ جمیع مقدّمات الإنقاذ ـ ولو بسوء النیة ـ لما تحقّق الإنقاذ، ولما وصل الشخصُ إلی عرفات ... ـ بلا دخلٍ لِقَصْدِ التوصّل بوجه ـ فح نـقول (کان الفعل الفلانی مقدّمةً تکوینیة لهذه الغایة)، وإلاّ ـ إن لم یترتّب الواجب ـ فإنها تکون مقدّمة موهومة أو قُلْ: تکون مقدّمةً مرادة فی عالم الخیال فقط.

وبتعبـیر أوضح: المقدّمةُ هی العلّة التامّةُ الخارجیة لإمکان الإتیان بغایتها ـ وهی ما یطلَق علیه مقدّمة الواجب ـ، والأجزاءُ مع الشرائط هی العلّة الداخلیة، هذا فی المرکب، وفی الأمور البسیطة ـ کإلقاء شخص من شاهق ـ المقدّمةُ هی المقدّمة التولیدیة، فمَن فَعَلَ جوازَ سفرٍ بقصد الحجّ ثم مات وهو لا یزال فی وطنه، فإنه لا یصحّ أن تـقول (فِعْلُ جوازِ السفر کان مقدّمةً للحجّ)، وإنما تـقول (کان قصْدُه من فِعْلِه الحجَّ)، ومَن صَلَّی وقطَعها فی وسطها ولم یکمِلْها، فإنه لا یقال کان الرکوع جزءً من صلاته، وذلک لأنه لم یحصل صلاةٌ أصلاً، نعم کان یراد من الرکوع أن یکون جزءً من الصلاة، ولذلک کان تـتمیم الحجّ شرطاً متأخّراً فی صحّة تسمیة الوقوف بعرفات جزءً من الحجّ، وکان تـتمیم الصلاة شرطاً متأخّراً لتصحیح القول بکون الرکوع جزءً من الصلاة، وکان تـتمیم الغایة شرطاً متأخّراً للقول بکون السیر إلی الحجّ مقدّمةً إلی الحجّ ... نعم یجب علیه أن یفعل ما من شأنه أن یقرِّبَ إلی الواجب، ونحن نطلق علیه ـ مجازاً ـ أنه مقدّمة، لکن بالدقّة هو لیس مقدّمة، حتی تحصل الغایةُ تماماً، أی حتی یسیرَ باتّجاه الغریق ویرمی إلیه الحبلَ ویسحبَه إلیه حتی یصل الغریقُ إلی بَرّ الأمان، هذه هی مقدّمات الإنقاذ، ولی است مقدّمات الإنقاذ أن یصل إلیه وینظر إلیه فقط! أو یرمی الحبلَ إلیه ولا یشُدَّه إلیه، وبالتالی تکون عمدةُ المقدّمات هی المقدّمة التولیدیة، ولذلک لا یصحّ إطلاقُ إسم المقدّمة إلاّ إذا حصلت الغایةُ بتمامها. لذلک کان الصحیحُ هو القولُ بالمقدّمة الموصلة، المنسوبُ إلی صاحب الفصول.

وبتعبـیر ثالث: لو فرضنا حصولَ مقدّمات الغایة من دون قصد، کما لو اُغمی علی شخصٍ فأخذوه إلی مکة المکرّمة لیعالجوه فلا شک فی تحقّق أکثر مقدّمات الحجّ ولو من دون قصده، إذن لا یشترط فی تحقّق مقدّمة الواجبِ قصْدُ نفس الواجب. وکذا لو کان لإنقاذ الغریق طریقان، مباح ومغصوب، فاختار شخصٌ ـ بسوء اختیاره ـ الدخولَ للإنقاذ من الأرض المغصوبة، فلا شک فی تحقّق المقدّمة، نعم لا یثاب علی المقدّمات لأنها حصلت صدفةً ومن دون قصد الإمتـثال أو من دون التفات، أو بل قد یؤثم علیها فی المثال الأخیر.

متی تُوصَفُ المقدّمةُ بالوجوب العقلی؟ أیضاً لا فائدة من هذا السؤال أصلاً، وذلک لأنّ السؤالَ ح یستبطنُ أنّ کون‌ها مقدّمة هو أمْرٌ مفروضٌ ولا بحث فیه، وإنما البحث فی شرط اتّصافها بالوجوب العقلی، فنقول: إذا فرضتم هذا الفرض فهو یعنی أنکم فرضتم السؤالَ بعد تحقّق الغایة، فما الفائدة العملیة إذَنْ فی معرفة اتّصاف المقدّمة ـ بعد تحقّق غایتها ـ بالوجوب العقلی أو عدم اتّصافها؟! سواءً دخل الشخصُ إلی أرض الغیر بغیر إذنه ـ أی غصباً ـ بنیة الإنقاذ أو لا، ما الفائدة؟ فإنه لا یزید عن کون اتّصافها بالوجوب بنحو الإخبار لا بنحو الإنشاء، إذن لا فائدة عملیة من معرفة اتّصافها بالوجوب أو بعدمه، وهذا أشبه شیء بإرادة معرفة لون ناقة نبـی الله صالح (علیه السلام)!! فأنت تعلم أنّ الأحکام العقلیة تـنجیزیة ـ أی فاعلة ومحرّکة ـ، فبَعدَ تحقّقِ الغایةِ، أی تـنجیزٍ یوجد لحکم العقل بوجوبها؟! نعم ینبغی أن یسأل عن الثواب والعقاب، وقد عرفت أنهما متوقّفان علی النیة.

بـیان ذلک: لو دخل شخصٌ أرضَ الغیر من دون إذنه ولغیر إنقاذ الغریق ـ سواءً کان یعلم بوجود غریق ولا یرید إنقاذَه أو لا یعلم بوجوده أصلاً ـ فدخوله هذا لیس واجباً علیه بحکم العقل ـ أی علی مستوی التـنجیز ـ حتی وإن تبدّل رأیه حین وصل إلی الغریق فأنقذه، وإنما کان ـ علی مستوی التـنجیز ـ محرّماً علیه عقلاً، بسبب سوء نِـیتـِه، ویستحقّ العقاب علی هذه المقدّمة لأنه کان عاصیاً، بمعنی أنّ العقلاء یقولون له لا تدخلْ، فإنه یحْرُمُ علیک دخولُ أرض الغَیرِ إلاّ إذا کنت تـقصد الإنقاذ فإنه ح یجب علیک الدخول. ومن هنا تعرف أنّ قصد التوصّل دخیل ـ إضافةً إلی القدرة ـ فی إیجاب المقدّمة أو فی تحریمها، لا فی أصل کون‌ها مقدّمة، فلو اغتسل من دون قصد غُسل الجنابة مثلاً، لم یقع الغسلُ الواجبُ، ولو دَفَعَ شخصٌ مدیونٌ لزید مئةَ دینار لزید من دون قصد أداء الدَین لم یحتسب له من الدین، ولذلک نقول یجب قصْدُ الوجهِ لیقع کما قُصِد. وکذا لو شرب الخمرَ وهو یجهل أنه خمر لم یحتسب حراماً عند الله، لأنه لم یقصد شربَ الخمر، وأغلب الظنّ أنّ قصد الشیخ الأنصاری هو هذا. ومن هنا تَعرف وجوبَ القصد لیکتَبَ عند الله وعند الناس الفعلُ کما قُصِدَ، وتَعرف أیضاً عدمَ صحّة ما قاله بعضُ الناس من کون المقدّمة واجبة مطلقاً سواءً قصد التوصّل أو لم یقصد.

وقد تسأل عمّن دَخَلَ أرضَ الغیر من دون إذن صاحب‌ها لیتـنزّه فی‌ها ویأکلَ ویشرب، لکن صادف قبل دخوله إلی هذه الأرض أن عَلِمَ بوجود غریق یغرَقُ فی بِرْکتها، فتأکدت نیته بالدخول، ففی هکذا حالة لا شک فی اتّصاف نیتَیه هتین بصفتین، فَـنـِیةُ دخول‌ها للتـنزّه قبـیحة ونیتُه علی الإنقاذ حسنة، وأمّا نفس الدخول فلا یتّصف بصفتین متضادّتین، وإنما یکون ـ بعد الکسر والإنکسار بین ملاک الدخول إلی الأرض المغصوبة وبین ملاک الإنقاذ ـ واجباً لا غیر، لکن إذا أنقذ الغریقَ فإنه یجب علیه الخروجُ فوراً، وإلاّ فإنه من حین انـتهاء مهمّة إنقاذ الغریق سوف یقع فی الحرام.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo