< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : هل يستحقّ الممتـثلُ الثوابَ على فِعْلِ الواجب أم هو من باب الـمَنِّ والتـفضّل ؟

هل يستحقّ الممتـثلُ الثوابَ على فِعْلِ الواجب أم هو من باب الـمَنِّ والتـفضّل ؟

كَثُرَتِ الآيات والروايات التي تَعِدُ بثوابٍ عظيم على إطاعة المولى تعالى ، لكن السؤال هو : هل أنّ ذلك بالإستحقاق العقلي ، أم بالمنّ والتفضّل الربّاني ؟ وجهان :

وجه الإستحقاق هو أنه إن كان القيام بعبادة المولى عزّ وجلّ من باب وجوب شكر المنْعِمِ تعالى على ما وهبه للإنسانِ من حياة وعقل ودِين ونِعَمٍ ، فقد يَستـنكر شخصٌ ويقول أنا لا أريد هذه النِّعَمَ ولا أريد أن أشكُرَ عليها ، فلو امتـثلتُ فأنا أستحقّ الثوابَ عقلاً ، وذلك بادّعاء عدم وجوب الواجبات الشرعيّة على الإنسان ، وهذا القول لا يقول به مسلمٌ قطّ ، لا بل ولا كتابيّ ، لأنه يؤدّي إلى ترك الدين بالكليّة ويؤدّي إلى القول بالمنّة على الله بعبادته وامتـثال وجوباته ، وهذا يرفضه عقول عبـيد الله فضلاً عن عباده ، قال الله تعالى ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ! قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنـتُمْ صَادِقِينَ (17) ) [1] ، فليس لإنسانٍ أن يمنّ على الله جلّ وعلا بالإسلام أو بتطبـيقه . ومن هنا نشأ القول الثاني .

دليلُ المنّ والـتـفضّل وجهان :

الأوّل : إنّ كلّ ما يصنعُه العبدُ ويتركُه هو لمصلحته ـ لا لمصلحة المولى جلّ وعلا ـ وعليه فإن أثابه اللهُ تعالى ـ رغم أنه يعمل لنفسه لأنّ الله جلّ وعلا غنيّ عن العالمين ـ فهو إذن من باب المنّ والتـفضّل الربّاني لا محالة . توضيح ذلك : أنت حينما تهدّدُ وَلَدَكَ بالضرب المبرّح إن لم يدرس ، فإذا درس ليس له أن يقول لك أنا أستحقّ الثوابَ منك لأنّي أطعتك ، ودليلُك على عدم استحقاقه الثواب منك والجائزةَ هو أنك حينما تهدّده بالضرب ، أو حتى لو ضربته للتأديب ، فأنت تفعل ذلك لأجله ، ولن تتركه يَتِيهُ في ظلمات الضياع والباطل ، ومع ذلك لا يستـنكرُ عليك أحد من العالمين ، لا بل كلّهم يفعلون ذلك لأنهم يعرفون أنّ الأولاد لا يدركون مصالحَهم البعيدة ، وإنما يفكّرون بمصالحهم الآنـيّة فقط ، ولذلك فيجب إجبارُهم على أن يكونوا على الصراط المستـقيم ، ولذلك كان التأديب والتعزير الشرعي لمصلحة الناس ، وإلاّ لوقعوا في مخالب إبليس ولهوَوا في الآخرة في العذاب الأليم . ولذلك لا يستحقّ هذا الولدُ منك الثوابَ على درسه ونجاحه ، لأنك تأمره لمصلحته . وكذلك الناس ، فإنّ أغلبهم بين سفيه ومتجبّر ، فإن لم يأمرهم الباري تعالى ـ وهو الأعلم بمصالحهم ـ فإنهم لن يعملوا إلاّ ما يفيدهم لساعتهم ، وسينسون مصالحَهم الأخرويّةَ الأبديّة ـ كما نرى ذلك في كلّ العالم ـ فكان من اللائق بشأن الله الرحمن الرحيم ـ وبمقتـضى آلائه ولطفه بعبـيده ـ أن يأمرهم وينهاهم ويخوّفَهم بما فيه مصلحتُهم ، وإلاّ فإنهم سوف يتعدَّون على بعضهم ، ويتسلّط بعضهم على بعض ، ويظلم بعضهم بعضاً ... ولذلك كانت الأوامر والنواهي لمصالح العبـيد ، إذن فلن يستحقّوا عليها الثواب والعقاب . قال الشيخ المفيد : (إنّ العبد ليس أجيراً في عمله للمولى ليستحق الثواب عليه ، وإنما جرى ومَشَى على طبق وظيفته ومقتضى عبوديته ورِقِّـيَّـتِه ، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتـفضل عليه بإعطاء الثواب والأجر)[2] .

الوجه الـثاني : وهو وجه عميق نرجو قراءتَه إلى آخره لخطورة بَتْرِه فأقول :

لا شكّ أنك تعلم أنّ الله تعالى خَلَقَ الأنبـياءَ وأوصياءَهم من سلالات ذهبـية ، بعضهم من بعض ، و(1) هذا يكشف بالقطع عن وجودهم واختبارهم في عالَم الفيوضات الإلهيّة الأوّليّة ، وإلاّ فلا يمكن عقلاً أن يجعلهم اللهَ تعالى أنبـياءَ وأوصياء دونـنا بغير فضل لهم علينا ، و(2) في دعاء الندبة مثلاً ( اللّهُمَّ لَكَ الحَمدُ عَلى ماجَرى بِهِ قَضاؤُكَ فِي أَوْلِيائِكَ الَّذينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ ، إِذْ اخْتَرْتَ لَهُمْ جَزِيلَ ما عِنْدَكَ مِنَ النَّعيمِ المُقيمِ الذِي لا زَوالَ لَهُ وَلا اضْمِحْلالَ ، بَعْدَ أَنْ شَرَطْتَ عَلَيْهِمُ الزُّهْدَ فِي دَرَجاتِ هذِهِ الدُّنيا الدَّنـيّة وَزُخْرُفِها وَزِبْرجِها ، فَشَرَطُوا لَكَ ذلِكَ وَعَلِمْتَ مِنْهُمُ الوَفاءَ بِهِ فَقَبِلْتَهُمْ وَقَرَّبْتَهُمْ وَقَدَّمْتَ لَهُمُ الذِّكْرَ العَلِيَّ وَالثَّـناءَ الجَلِيَّ وَأَهْبَطْتَ عَلَيْهِمْ مَلائِكَتَكَ وَكَرَّمْتَهُم بِوَحْيِكَ وَرَفَدْتَهُمْ بِعِلْمِكَ وَجَعَلْتَهُمُ الذَّرِيعَةَ إِلَيْكَ وَالوَسِيلَةَ إِلى رِضْوانِكَ ... ) فهناك شرط عليهم ، وهناك شرطوا عليه ...وهناك ـ أي في المراحل الأولى من مراحل الفيض الإلهي ـ طلبَتْ كلُّ خليقةٍ درجةً معيّنةً من الكمال ، واستعدّ بعضُهم أن يتحمل أمانة الوَلاية لله ، فأوجبت هي على نفسها هذه الواجبات ، فكانوا اُناساً ، وبعضُهم رَفَضوا ذلك فكانوا حجارةً أو تراباً ونحوَ ذلك ، وهناك اختبرهم الله ، وهناك عرض اللهُ أمانـتَه الكبرى عليهم ، فمنهم مَن نجح في الإمتحان ومنهم من رسب ، ومنهم من نجح بدرجة ممتاز ، فكانوا أنبـياءَ ، ومنهم من كان أقلّ من هذا المستوى فكانوا كما يناسبهم ... (3) قال الله تعالى ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَـيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)) [3] ، قالوا هي أمانة الولاية ، قال الله ( هُنَالِكَ الوَلايَةُ للهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)) [4] ، في اللغة : الوَلاية ـ بالفتح ـ هي الربوبـيَّة والنصرة، وفي روايتين : هي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولا شكّ أنّ الأمانة هي خلافة الله جلّ وعلا بأسمائه وصفاته كما قال الله عزّ وجلّ ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً )[5] ومن جملتها أن تتولّى الله وأولياءه ، وهي الولاية لله ولخلفائه الأكملين .

والخلاصةُ هي أنّ الله تعالى لم يقرّر هناك أن يكون هذا إنساناً وذاك ملاكاً وذاك جِنّاً وذاك نباتاً وذاك حجراً من غير حكمةٍ ثم أوجب عليهم الواجبات الفلانية ، لا ، وإنما كلّ منها ـ بحقيقته الوجوديّة ـ طَلَبَ كمالاً معيّناً ، أي إلى حدّ معيّن ، فخلقها الله تعالى كما أرادت هي في ذلك العالم ، وإلاّ معاذ الله أن يظلم ربّك أحداً ( فَسُبْحانَ الذي بِـيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وإليهِ تُرْجَعُونَ )[6] ، قالوا : الملكوت هو باطن هذا العالم أي هو حقيقة عالم الملك الذي نعيش فيه ... و(4) استدلّ العلماءُ بآيات عالم الذرّ من قبـيل ( تِلْكَ القُرَى نَـقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَـيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَـبْلُ ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْـثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ، وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْـثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ )[7] ، أي كذّبوا من قبلُ ؟ كذّبوا هناك في ذلك العالَم السابق على عالمنا ، حيث عرفتَ أنه كان عالَمَ اختيارِهم ، وهناك تشكّلت أعيانُهم الثابتة ، أو قل حقائقُهم الوجوديّة ، وهناك كان اختيارهم لنسبة الكمال ، والآن نحن نـتـنـزّلُ من أعيانـنا الثابتة ، بمعنى أنّ كلّ تـنزّلاتـنا هي نـِتاج أعيانـنا الثابتة . وقريبٌ منها قولُه جلّ وعلا ( ثُمَّ بَعَثْـنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤوهُم بِالْبَـيِّنَاتِ ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ، كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ )[8] . المهم هو أنه كان هناك عالَمٌ لنا ، وهنا عالم التـنزّل ، قال سبحانه وتعالى ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِـنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ )[9] ... يُتبع


[1] سورة الحجرات .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo