< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الحُكمُ المطلَق والحُكم المشروط

الحُكمُ المطلَق والحُكم المشروط

معنى الحكمِ المطلق هو كوجوب العدل وحرمة الظلم وكوجوب إكرام العالِمِ ـ مثلاً ـ من دون تقيـيد الوجوب بنجاحه في الإمتحان ـ مثلاً ـ أو بكونه هاشميّاً ، ومعنى الإطلاق معروف عندك ، فأنت تقول : امرأةُ فلانٍ طالق أي غير مقيّدة بقيود الزوجيّة ، ومعنى الحكم المشروط هو كقولك لولدك (إن نجح زيدٌ فأكرمه) وكقول الشارع المقدّس (إذا غلَى العصير العنبي فإنه يحرم) وكما في قول الشارع المقدّس (إذا فرّطت بالأمانة فأنت لها ضامن) ، وكوجوب الحجّ ، فإنه مقيّد بالعقل والبلوغ والإستطاعة . وقد يكون وجوبٌ ما مشروطاً من جهةٍ ومطلقاً من جهةٍ اُخرى ، كنفسِ وجوب الحجّ المشروط بالشروط المذكورة فإنه مطلق بالنسبة إلى الزوال مثلاً ، وكوجوب الصلاة ، فإنه مطلَقٌ بالنسبة إلى القدرة على الصيام ، ومقيّد بالنسبة إلى الزوال ، وهذا يعني أنّ الإطلاق والتقيـيد أمران إضافيّان .

وقد يكون متعلّق الحكم مطلقاً وهو كالواجب الغيرِ مقيّدٍ بقيدٍ ، ومثاله ما لو قال لك المولى (أكرم العالِمَ) ، فإكرامُ العالِمِ غيرُ مقيّدٍ بكونك طاهراً أو مستـقبِلاً للقبلة أو نحو ذلك ، ومثاله أيضاً الصلاة الواجبة ، فإنها غير مقيّدة بلباس معيّن اللون أو الطول أو بكون تمشيطة الشعر بالكيفيّة الفلانيّة ، وقد يكون متعلّق الحكم مشروطاً وهو كالواجب المقيّد بقيد ما ، كالصلاة أيضاً فإنها مقيّدة بالطهارة والإستـقبال والستر ، وكما في حرمة سرقة غير الناصبي، وكما في وجوب جلد الزاني مئة جلدة ، وكما في استحباب صلاة الليل بعد منـتـصف الليل .

ومن الطبـيعي أنه لا يوجد حكم مطلق من جميع الجهات ، وإنما هو مقيّد بـبعض أمور بديهيّة كالعقل والبلوغ والقدرة ـ وهي ما يعبّر عنها بالشرائط العامّة ـ ، وهذه بما أنها من الواضحات جدّاً فقد لا يذكرها العلماء في المشروط ، فيقولون مثلاً (العدل واجب) مطلق ، مع أنه مقيّد بالأمور الثلاثة المذكورة . ولذلك قالوا بأنّ الإطلاق الحقيقي إنما يكون بلحاظ بعض القيود ، فمثلاً قول الشارع المقدّس (الصيام واجب) رغم أنه مشروط بطلوع الفجر من شهر رمضان وبالسلامة هو مطلق بلحاظ الزوال والإستطاعة الماليّة إلى الحجّ ، وحكم (الصلاة واجبة) رغم أنه مقيّدٌ بالزوال مثلاً هو مطلقٌ بلحاظ القدرة على الصيام وبلحاظ الإستطاعة الماليّة إلى الحجّ ، وهكذا .

ولعلّك لاحظتَ أيضاً ـ ممّا سبق ـ أنّ الحكم هنا المرادُ منه التكليفي والوضعي .

والمهمّ في هذا المسألة هو النظر إلى ما نُسِبَ إلى الشيخ الأنصاري حيث ادّعى صاحب التقرير[1] ـ على ما ذَكَرَ صاحبُ الكفاية ـ أنه قال إنّ الشروط الواقعة في الجُمَل الشرعيّة إنما تـقيّد متعلّقاتِ الأحكام ، ولا تـقيّد نفسَ الأحكام ، بخلاف ما هو الظاهر عرفاً ـ باعتراف نفس الشيخ الأنصاري ـ فمثلاً : قولُ الشارع المقدّس (إن استطعتَ فحِـجّ) الإستطاعةُ هنا تقيّد الحجَّ ، ولا يمكن ثبوتاً أن تقيّد وجوبَ الحجّ ، وذلك بذريعة أنّ المعنى الحرفي ـ الذي هو مفاد صيغة (حِـجَّ) ـ هو معنى جزئيّ ، فهو إذن غير قابل للتقيـيد ، كما أنّ زيداً لا يقبل التقيـيد ، فإن كنتَ تعرف زيداً هل أنه هاشمي أو لا فإنك لا يصحّ أن تقول (إن كان زيد هاشميّاً فأكرِمْه) ، فإنّ زيداً جزئيّ فهو إذن مقيّد من جميع الجهات ولا يوجد فيه جهة ناقصةٌ لتقول إن كان هو كذا فافعل كذا ، كذلك المعنى الحرفي تماماً ، والذي يَقبل التقيـيدَ هي فقط المعاني الذهنيّة الكليّة . ولذلك اضطرّ الشيخ الأنصاري إلى إرجاع الشرط إلى مادّة الحجّ ، ورأى أنّ وجوبَ الحجّ مطلق غيرَ مقيّد بالإستطاعة . ومعنى كلامه هذا هو عدم إمكان تقيـيد المعاني الحرفيّة .

والجواب هو أنّ المعاني الحرفيّة هي جزئيّة إضافيّة ، أي أنها كليّة في ذاتها ، فهي قابلةٌ للتقيـيد .

بـيان ذلك : لا شكّ أنه من الواضح أنّ مثل (إنِ استطعتَ فحِجَّ) ظاهره أنّ وجوب الحجّ مقيّدٌ في مرحلة الملاك ـ وليس فقط في مرحلة الجعل ـ بكون المكلّف على استطاعة ، بمعنى أنه إن لم يكن مستطيعاً فلا يكون مكلّفاً فِعْلاً بالحجّ أصلاً ، وهذا بخلاف قول الشارع المقدّس (إنّ اللهَ يأمُرُ بالعَدْلِ) فهذا الأمرُ غيرُ مشروطٍ ، بخلاف (إنِ استطعتَ فحِجَّ) فإنه مشروطٌ بوضوح .

وأمّا ادّعاء بعضهم أنّ المعنى الحرفي جزئيّ فهو إذن غير قابل للتقيـيد فهو اشتباه واضح ، فإنّ المعنى الحرفي هو معنى ذهني ، وكلّ المعاني الجزئيّة هي معاني كليّة ، فهي إذن قابلة للتقيـيد ، وأوضح دليل على هذا قابليّةُ تقيـيد المعنى الحرفي ـ كمفاد هيأة الجزاء ـ بالشرط بنظر كلّ عقلاء العالم ، فأنت إذا سألت كلَّ عقلاءِ العالَم عن معنى (إنِ استطعتَ فحِجَّ) لقالوا لك معناه : إنّك إنِ استطعت فقد صار عليك الحجّ فعليّاً ، ولا يجب قبل هذا . والوقوعُ أدلُّ دليلٍ على الإمكان .

مقدّمات الوجوب ومقدّمات الواجب

لا شكّ أنك تعلم أنّ مقدّمات الوجوب هي من قبـيل الإستطاعة في قول الشارع المقدّس (إنِ استطعتَ فحِجَّ) ومِن قبـيل الزوال بالنسبة إلى وجوب صلاة الظهر ، ومقدّماتُ الواجب هي من قبـيل الطهارة المعنويّة والماديّة قبل الصلاة ومن قبـيل السير إلى الحجّ .

كما أنك تعلم أنّ مقدّمات الواجب قد تكون عقليّة بحتة كالسير إلى الحجّ ، وقد تكون شرعيّةً بحتة من قبـيل الوضوء ـ قبل الصلاة ـ لتحصيل الطهارة . وحينما يأمرنا المولى تعالى بالوضوء فهو إنما يأمرنا به لتحصيل الطهارة ، لا لنفس الوضوء ، فالوضوء هو طريق محض ، وليس مطلوباً لنفسه . أمّا الطهارة فقد تطلب لنفسها ـ لاستحباب الكون على الطهارة ـ وقد تُطلَبُ لغيرها ـ كما فيما إذا أراد الشخصُ إقامةَ الصلاة ـ .

كما أنك تعلم من خلال (إنِ استطعتَ فحِجَّ) معناه بوضوح أنّ الحجّ لا يجب عليك إلاّ إنِ استطعتَ عليه ، وأنه لا يجب عليك تحصيلُ الإستطاعة ، وذلك لأنّ المفروض أنّ المولى لم يقل (حصّلِ الإستطاعة لتحجّ) ، فيكون (حصول الإستطاعة مقدّمة وجوب) ، ولكن إن حصلت الإستطاعة فإنه يجب الحفاظ عليها لإيقاع الحجّ عن استطاعة ، فيصير (الحفاظ على الإستطاعة ـ في هكذا حالة ـ مقدّمة واجب) . كما أنّ قول الله تعالى ) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ ، إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78))[2] يعني أنّ (الزوال مقدّمة وجوب) أي أنه إذا زالت الشمس فصلّ الظهرَ ، ولا يعني وجوب تحصيل دلوك الشمس للإتيان بصلاة الظهر ، إضافةً إلى خروج تحصيل الزوال عن اختيارنا ، فلا يمكن إيجاب تحصيله ، ولذلك يجب أن يكون من مقدّمات الوجوب ، لا من مقدّمات الواجب ، لكن إن حصل الزوال فإنه يجب إيقاع الصلاة ما بينه وبين قبيل الغروب بمقدار إيقاع صلاة العصر ، وهذا يعني أنّ (إيقاع صلاة الظهر في هذا الوقت هو قيد في الواجب) .

وأمّا مقدّمات الواجب فلا شكّ في وجوب تحصيلها ، وذلك بدليل أنه حينما زالت عليك الشمس فقد وجبت عليك الصلاة ، وبالتالي يجب إقامة الصلاة بشروطها ، ومن شروطها كونها على طهارة وعلى استـقبال وعلى ستر وضمن الوقت المحدّد شرعاً . وفي الحجّ ، يجب السير إليه قبل وقته بحيث يستطيع أن يؤدّي الحاجُّ مناسك الحجّ في وقتها المحدّد شرعاً .

وقد تكون بعض المقدّمات وجوبـيّةً وواجبـيّةً في نفس الوقت كالإستطاعة ، وهذه المقدّمة ـ كما قلنا قبل قليل ـ لا يجب تحصيلها، ولكنْ إن حصلت فإنه يجب الحفاظ عليها لِنُوقِعَ الحجَّ عن استطاعة ، وذلك لأنّه يجب أداء الحجّ عن استطاعة فهي إذن مقدّمة واجبة أيضاً .

والفرق بين مقدّمات الوجوب في مرحلة الملاك ومقدّمات الواجب هو أنّ المولى تعالى قد يرى في مرحلة الملاك أنه لا مصلحة من إيجاب الحجّ على العاجزين ، وأنه يكتفي بإيجابه على المستطيعين ، أمّا في مقدّمات الواجب ، فقد يرى المولى عزّ وجلّ المصلحة في الصلاة عن طهارة وبشروط معيّنة ، لا مطلق الصلاة ولو بنجاسة وإلى غير القبلة ...

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo