< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مقدّمَـةُ الواجب

الأمْرُ الثامن : مقدّمَـةُ الواجب

تكلّمنا في الدروس السابقة في هذه المسألة كثيراً ، ونلخّص بعض ما قلناه ونتابع فنقول :

هذه المسألةُ أصوليّةٌ :

جَعَلَ العلماءُ هذه المسألةَ في علم الأصول وليس في علم الفقه لأنه ـ على القول بالوجوب الشرعي للمقدّمة ـ يُستـنبَطُ من وجوب الشيء وجوبُ مقدّمته شرعاً ، فلهذا الإحتمال ـ أي لاحتمال استـنباط حكم شرعي بواسطتها ـ قال العلماء بأنّ مسألة مقدّمة الواجب هي مسألة أصوليّة وليست قاعدة فقهيّة ، لأنها لو كانت قاعدة فقهيّة لكان استفادة الوجوب الشرعي للمقدّمة من طريق التطبـيق ـ لا من باب الإستـنباط ـ كما يطبّقُ العامّيُّ قاعدةَ الطهارة الفقهيّة في الموضوعات ، وكما يطبّق العامّيُّ قاعدةَ الإستصحاب الفقهيّة في الموضوعات أيضاً فيعتبر الشيءَ الفلاني نجساً لكون حالتِه السابقة النجاسةَ مثلاً ، وأنت تعلم أنّ مناط كون المسألة أصوليّةً ـ كما قلنا في تعريف عِلم الأصول ـ هو أن تكون واسطةً قريـبةً في عملية استـنباط الحكم الشرعي ، سواء كانت صغرى في قياس الإستـنباط ـ من قبـيل قولهم (الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم) ـ أو كبرَى ـ من قبـيل قولِهم (مقدّمة الواجب واجبةٌ شرعاً) ـ ، وبحثـُنا في هذه المسألة هو عن وجود ملازمة عقليّة بين وجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته شرعاً .

كما أنه لا يصحّ القولُ بأنّ هذه المسألة فـقهيّة ، وذلك لأنّ مناط كون المسألة فقهيّة هو كون البحث عن حكم الشيء بحثاً فقهيّاً أي مِن خلال الآيات والروايات والإجماعات ونحو ذلك، فنَـنْظُر إلى الآيات والروايات والإجماعات والسيرة ونحو ذلك ، كما نبحث في الفقه عن حكم السورة بعد الفاتحة ، هل هو الوجوب أم الإستحباب مثلاً ، وبحثُـنا في مسألة (مقدّمة الواجب) بعيدٌ جداً عن طريقة البحث الفقهي ، فنحن لا نبحث ـ في مسألة (مقدّمة الواجب) ـ عن حُكْمِ مقدّمة الواجب من الجنبة المذكورة أصلاً ، وإنما نبحث فيها بحثاً عقلياً كلّياً ، أي نبحث عن وجود ملازمة عقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته شرعاً ، ومع غضّ النظرِ عن نفس الواجب ، فقد يكون الصلاة ، وقد يكون الحجّ ، وقد يكون الصيام ، وقد يكون غيرَ ذلك . لذلك كان من الخطأ أن نُعَنْوِنَ البحثَ بعنوان (هل مقدّمة الواجب واجبة شرعاً ؟ ) فإنّ هذه العبارة تُوهمُ أنّ البحث فقهيّ ، وقد عَلِمْتَ أنّ البحث في مسألة مقدّمة الواجب هو عن وجود ملازمة عقلية أوّلاً ، وثانياً المسألةُ فيها كُلّـيّـة . نعم ، البحثُ الأصولي يَصبّ أخيراً لصالح الفقه لأنه يُثْبِتُ الوجوبَ الشرعي للمقدّمة أو يَنفيه ، لكنْ مع ذلك مسألةُ مقدّمة الواجب هي أصوليّة بلحاظ أصل البحث وكيفيّته حتى وإنِ اتّحدتِ النـتيجة .

هذه المسألةُ عقليّةٌ لا لفظيّة

تساءل بعضُ الناسِ عن حُكْمِ مقدّمة الواجب شرعاً فقالوا : هل يَدِلّ الأمْرُ بشيءٍ على الوجوب الشرعي لمقدّمته أم لا ؟ لذلك جعلوا هذا البحثَ في مباحث الألفاظ ، والصحيح أن يُجعل في المباحث العقليّة ، وذلك لوضوح عدم دلالة الأمْرِ على الوجوب الشرعي لمقدّمته ، وإنما الأمْرُ يدلّ على طلب الطبـيعة ، ولا يَنظُرُ إلى الوجوب الشرعي لمقدّمته ، وإنما قلنا إنّ الصحيح هو جعْلُه في المباحث العقليّة لأنّ السؤال في هذه المسألة ـ كما سترى من أدلّة القوم ـ هو : هل الأمْرُ بشيءٍ يستلزم عقلاً الأمرَ الشرعي بمقدّماته أم لا ؟ ...

تبعيّةِ صفاتِ المقدّمة لصفات ذِيها

إعلمْ أنّ مقدّمة الواجب محبوبةٌ و واجبةٌ دائماً ، لكنْ كلّيّ المقدّمة هو المحبوب والواجب ، لا كلّ فرد فرد من هذا الجامع ، فقد تكون بعض أفراد هذا الجامع الكلّي مبغوضاً ، كما لو كان يسير إلى الحجّ في سيّارة مغصوبة ، وكما لو اختار شخصٌ دخول أرضٍ غصباً لإنقاذ الغريق مع وجود طريق آخر عام لكلّ الناس ، فلا شكّ في كون الإنقاذ واجباً عقلاً وشرعاً، ورغم ذلك يكون دخول الأرضِ مبغوضاً . نَعَم ، لو انحصر طريق الإنقاذ بدخول الأرض المغصوبة لكان جائزاً فِعْلاً ، بل واجباً ، لكونه يرتكب السيِّئَ لِدَفْعِ الأسوأ ، ولذلك إذا انحصر الإنقاذ بهذا الفرد فهو لا يستحقّ العقابَ ، وإنما يُثِيـبُه اللهُ جلّ وعلا . نعم ، يجب ضمانُ ما تلف مِنَ الزرعِ بلا شكّ .

تفصيل ذلك : لا شكّ أنّ هناك بعضَ أمور منهيٍّ عنها في الشرع ولكنها ليست مبغوضةً ذاتاً، وإنما النهي عنها هو لأجل حفظ النظام العام ونحو ذلك ، فمثلاً : دخولُ أرض الغَير غصباً على صاحبها ، لأجل إنقاذ الغريق غيرُ مبغوض ذاتاً ، سواءً ترتّب على ذلك ضررٌ على الأرض والزرع أو لم يترتّب ، وذلك لأنّ الأرض والزرع وكلَّ شيء هو في الواقع لله تعالى، وليست للإنسان ، ولذلك لا يمكن أن يُـبْغِضَ اللهُ عزوجل دخولَنا للأرض التي يملكها شخصٌ لئيمٌ لا يَرضى أن نَدخُلَها لإنقاذ إنسان محترم الدم ، وإنما ربُّنا تعالى يأمرنا بدخولها للأهمّ ، ولا يُـبغِضُ ذلك أصلاً بل يحبّ ذلك .

نعم ، هناك أمور لا شكّ قرآنياً في أنها مبغوضةٌ ذاتاً ، كأكْلِ الميتة ، فإنّ الميتةَ هي من الخبائث الواضحة ، قال الله تعالى [ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّـبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ] فاعتبر الخبائثَ ذاتاً في مقابل الطيّـبات ذاتاً ، وقال عزوجل [ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّـباً ، وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِن كُنـتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115)] فالظاهر من مجموع الآيات أنّ الميتةَ هي مِنَ الخبائث ذاتاً .

المهم ، لو اضطُرّ إنسانٌ لأكْلِ المَيتةِ لإنقاذ حياته ، فسوف يكون أكْلُه للمَيتة مبغوضاً في ذاته ، حتى ولو كان مضطرّاً إلى أكْلِها ، ومع ذلك على مستوى التـنجيز هو يفعل الواجبَ شرعاً وعقلاً .

حُكْمُ المقدّمةِ المبغوضةِ للواجب الأهمّ

كان الكلام في الفقرة السابقة في مرحلة الملاك ، وكلامنا الآن هو في مرحلة الجعل والتشريع، والسؤال هنا هو : هل يكونُ هذا الدخولُ للأرض المغصوبة حراماً فِعْلاً رغم الدخول للإنقاذ ـ طبعاً فيما لو انحصر انـقاذُ الغريق بالدخول في الأرض المغصوبة ـ سواءً ترتّب على ذلك أضرارٌ على صاحب الأرض أو لم يترتّب ؟ وهل يكون أكْلُ المَيتةِ حراماً جعلاً وفِعْلاً فيما إذا اضطُرّ الشخصُ لأكْلِها لإنقاذ حياته ؟

الجواب : قد تقول نعم ، بتقريب أن الحرمة جعْلاً وفِعْلاً هي نـتاج عقلي للمبغوضيّة التامّة ، فهي أشبه شيء بالجعل القهري التكويني ، خاصّةً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد .

أقول : الصحيح هو عدم إمكان أن يجعل اللهُ تعالى القبـيحَ في حال الضرورة حراماً دائماً ـ أي على مستوى الجعل ـ وإنما يجب ـ عقلاً ـ أن يحصل في عالم المبادئ كسْرٌ وانكسار دائماً ، ثم تحصل النـتيجةُ، ثم يشرِّعُ الباري جلّ وعلا الحكمَ على أساس النـتيجة ، والمفروضُ أنّ النـتيجة هنا هي لصالح عدم حرمة دخول الأرض المغصوبة ، مراعاةً للأهمّ الذي هو الإنقاذ ، فيختصّ التحريمُ بغير حالات الضرورة ، لا بل بعد الكسر والإنكسار في عالم المبادئ يجب أن يكون التشريع هو وجوب الدخول إلى الأرض المغصوبة للإنقاذ ، طبعاً كلامنا في حال انحصار طريق الإنقاذ بدخول الأرض المغصوبة .

على أنه لا يمكن أن يشرّع اللهُ تعالى تحريمَ الدخول إلى الأرض المغصوبة قهراً عليه في حال الضرر أو الضرورة ، معاذَ الله ، وإنما يجب أن يكون التشريع إختيارياً ، وفي حال الإختيار لا يمكن أن يقول الله تعالى ـ بعد الكسر والإنكسار في مرحلة المبادئ ـ لا يمكن أن يقول ـ في مرحلة الجعْلِ ـ إنّ أكْل المـَيتةِ في حال الضرورةِ حرامٌ ، وذلك لأنه هو الذي أجاز ذلك بل أوجبه بعنوان ثانوي ، فكيف يحرّمُه في نفس الوقت ؟!

مثال آخر : الكذبُ ـ بالعنوان الأوّلي ـ مبغوضٌ وحرام ، لكنْ في الضرورة قد يصير واجباً جعْلاً وفِعْلاً ، بسبب الكسر والإنكسار في مرحلة الملاك ، ولا يصحّ أن تقول : هو مبغوضٌ ملاكاً دائماً أي حتى في حال الضرورة ، وكذلك الأمْرُ في الصدق تماماً ، فنقول : الصدقُ ذاتاً حَسَنٌ جدّاً وفي كلّ الحالات ، لكنْ عند التشريعِ ينظر الشارعُ المقدّس إلى مجموع المصالح والمفاسد فيجعل الحكمَ الشرعي على أساس النـتيجة . وكذلك يفعل كلّ العقلاء ، فلو كان السلطان الظالمُ يريد قتْلَ المؤمنِ الفلاني ، وهذا المؤمِنُ مختبئٌ عندك ، فلو سألك عنه هل أنه موجود في بيتك وقلتَ الصدقَ لأخَذَهُ وقتَلَه ، فالكذبُ في هكذا حالة وإن كان قبـيحاً ذاتاً ، ولكنه حَسَنٌ جدّاً على صعيد الملاك بلحاظ مجموع المفاسد والمصالح ، أي بعد الكسر والإنكسار بـينهما ، ومِثْلُه تماماً الصدقُ فإنه حسنٌ جداً في ذاته ، لكنه قد يصير مبغوضاً جِدّاً ـ أي ملاكاً ـ في حال الضرورة ويَذِمُّ عليه كلُّ الناس في حالة الإِضطرار إلى الكذب .

وبما أنّ الجعل يكون بعد الكسر والإنكسار في مرحلة مبادئ الحكم فإنّ الشارع المقدّس ينظر في مرحلة الملاك إلى المصالح والمفاسد في الفعل ثم يتوّلد الحُسْنُ والمحبوبـيّةُ أو القبح والمبغوضيّة ، ولذلك فقد يحبّ المولى شيئاً مع أنّه قد يشوبه شيء من القبح كالجهاد في سبيل الله وما يترتّب عليه من قتل وجرح ودمار في سبـيل الله جلّ وعلا ، وقد يُـبغِضُ اللهُ شيئاً مع أنه قد يشوبه شيءٌ من المنفعة أو اللذّة للإنسان ، كشرب الخمر والغناء .

ولذلك فأكْلُ الميتةِ مبغوضٌ ذاتاً حتى في حالات الضرورة ، ولكنه قد يصير محبوباً بلحاظ مجموع المفاسد والمصالح ، أي بلحاظ النظر إلى تلف النفس .

والنـتيجةُ هي أنه قد تكون مقدّمة الواجبِ مبغوضةً ذاتاً أي بالعنوان الأوّلي ـ كأكْلِ المَيتة ـ ، ومع ذلك وبعد الكسر والإنكسار قد تصير محبوبةً في الضرورة ، أي بلحاظ النظر إلى حال الضرورة وتلف النفس ، وذلك لأنّ الجعولات تترتّب على مجموع المصالح والمفاسد وبعد الكسر والإنكسار بـينها ، فقد يتغيّرُ الجعلُ عن الملاك الذاتي الأوّلي فيصير أكْلُ الميتةِ واجباً جعْلاً وفِعْلاً ـ لإنـقاذ النفس من التلف ـ .

التميـيز بين الواجبات النفسيّة والواجبات الغَيريّة

قد يقال بكون العبادات كلِّها واجباتٍ غيريّةً ، فالصلاةُ واجبةٌ للوصول إلى مراتبَ عليا ، قال الله تعالى [ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَـنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)] ولأنها معراج المؤمن ، وكذا الصيام ، لقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَـتَّقُونَ (183)]... ومثلُهما سائرُ العبادات .

والجواب هو أنّ غايات العبادات لم تكن محطّ نظرِ المولى تعالى في الإيجاب ، ولذلك لو لم تعرج الصلاةُ ببعض المصلّين إلى المراتب العليا لكانت صلاتُهم ـ رغم ذلك ـ صحيحةً ، ولو صام الشخصُ ولم يَصِرْ تَقِيّاً لصحّ صومُه ... نعم الوصول إلى مراتب النهي عن المنكر وإلى مرتبة التقوى هو أمْرٌ مطلوبٌ جداً ، ولكن لم يُوجِبْه الباري تعالى في هذه الموارد ، ولذلك قال جميع العلماء بأنّ الصلاة ونحوَها ليست واجبةً لواجب آخر ، ولذلك قالوا هي واجباتٌ نفسيّة ، ولنفس السبب قالوا عن الوضوء بأنه واجب غيري لأنه وجب للصلاة .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo