< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : في دلالة التـنبـيه والإشارة والإقـتضاء

[ في دلالة التـنبـيه والإشارة والإقـتضاء]

ذكرنا أمس هذا الدرس وقلنا بأنّ الشيخ المظفّر رحمه الله ذَكَرَ هذا البحثَ في علم الأصول من باب تعليم الطلبة على معاني هذه الكلمات ، مع أنّ هذا البحث لا يدخل في علم الأصول ، وقلنا بأنّ المراد من دلالة التـنبـيه هو قول القائل (دقت الساعةُ العاشرة) ، حيث تكون الساعة العاشرة موعِداً للمخاطَب مع بعض الناس ، فيكون قول القائل هذا لِيُنَبِّهَ السامعَ على حلول الموعد ، وكذا لو قال المستيقظُ للنائم : (سوف تطلع الشمسُ) مخاطباً النائمَ ليستيقظ من نومه حينئذ ، أي لبيان قرب فوات وقت أداء صلاة الصبح ، وكما لو قال شخصٌ لزوجته مثلاً : (إني عطشان) للدلالة على طلب الماء .

كما وقلنا أيضاً بأنّ المراد من دلالة الإشارة هي كما لو ورد في رواية وجوبُ أن يَغْسِل المتوضّئُ وجهَه ويديه أكثر من الحدود المرسومة شرعاً من باب الإحتياط ، مع ما يقتضي ذلك من وصول الماء غالباً إلى الناصية ، مع عدم التـنبـيه على وجوب تجفيف مواضع المسح، فهذه الرواية ـ مثلاً ـ فيها إشارةٌ إلى عدم وجوب تجفيف مواضع المسح .

وقلنا أيضاً بأنّ المراد من دلالة الإقتضاء هي كما في موثّقةِ زرارة (لا ضرر ولا ضرار)[1] ، فإنّ المعنى واضح جدّاً وهو (لا أحكام ضرريّةً في الإسلام) ، فحَذَفَ النبيُّ(ص) كلمةَ (أحكام) لشدّة وضوحها ولاقتضاء البلاغة والفصاحة ذلك ، وإلاّ فلا يمكن إرادة معنى (لا يوجد ضرر على النفس ولا ضرار على الغير في الإسلام) فإنه يوجد ضرر خارجي وإضرار بالنفس وبالغير ، ومثلها قوله (ص) ( رُفِعَ عن أمّتي ما لا يَعلمون وما اضطُرّوا إليه ... )[2] فإنّ العلماءَ يعرفون أنّ المراد هو رَفْعُ الحكمِ التـنجيزي ، لا رفع أصل التشريع من اللوح المحفوظ ولا رفع الفعليّة ، وكذا قولُه (عليه السلام) ( لا صلاة لمن جاره المسجدُ إلا في المسجد ) ، فإنّ العلماء يعرفون أنّ المراد هو (لا صلاة كاملةً لجار المسجد إلاّ في المسجد) وليس المراد هو نفيُ أصل الصلاة وأنّ صلاته باطلة ، ومثلُها قولُه تعالى [ واسألِ القريةَ ] فإنَّ صحته عقلاً تتوقف على تقدير لفظة (أهل) فيكون من باب حذف المضاف .

وقلنا أيضاً بأنّ حجيّة هذه الجمل متوقّفةٌ على ظهورها عرفاً ، فإن كان المعنى ظاهراً عرفاً فهو حجّة وإلاّ فلا . ولذلك قد لا يكون هناك داعي لِذِكْرِ هذا البحث أصلاً ، بل بأقلّ تأمّل تعرف عدم الحكمة في ذكر دَلالةِ الإقتضاء في علم الأصول .

(درس اليوم)

إثبات الأمارة لجواز الإسناد

لا شكّ في لزوم العِلْمِ بالحكم الشرعي في جواز إسناده إلى الله سبحانه وتعالى ، وذلك لحُكْمِ العقلِ بذلك ، ولقول الله تعالى ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[3] ولقوله عز وجل ﴿ إنّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً [4] ، وهذا أمْرٌ واضحٌ عند كلّ الناس .

لكن هل يجوز إسناد مؤدّى الأمارات المعتبرة إلى المولى عزّ وجلّ ، إذا كانت تورث الظنّ فقط أو لا يجوز ؟

الجواب : بناءً على مسلك الطريقيّة الذي نتبنّاه يجوز الإسنادُ إلى الله سبحانه ، لأنّ آية النبأ وغيرَها من الروايات السالفة الذكر ـ أي روايات ( العَمْرِيّ ثـقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعَنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطِعْ ، فإنّه الثـقة المأمون ) و ( العَمْري وابنُه ثـقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثّـقتان المأمونان ) و ( .. وأما محمد بن عثمان العَمْري فإنه ثـقتي وكتابُه كتابي ) ـ تنزّلك منزلة العالم وتنزّل مؤدّى الأمارةِ منزلة الواقع . بتعبير آخر : الآيةُ تقول [ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ] وهي تعني أنك إذا كان عندك علمٌ فإنه يجوز لك نِسبةُ مؤدّى الأمارة إلى الله جلّ وعلا . وأنت حينما أخبرك الثقةُ بروايةٍ مسندةٍ عن الثقات عن الإمام المعصوم فأنت صرت عالماً شرعاً وتعبّداً بانتساب هذه الرواية إلى المعصوم وبصدورها منه ، وهذا معنى قولهم بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي الصفتي ، إذن فيجوز لك نسبة مؤدّى الأمارةِ إلى الله تعالى لأنّ الإمام هو خليفة الله وهو يخبر عنه ولا يخطئ .

وأمّا بناءً على كون خبر الثقة منجّزاً ومعذّراً فقط فمن الطبيعي أنّ إسناد مؤدّاه إلى الله جلّ وعلا غيرُ جائز ، لعدم الدليل على الجواز ، بل للدليل على عدم الجواز كما رأيتَ من الدليل العقلي السابق وللآيتين السالفتَي الذكر .

هل يمكن إبطالُ الدليل القطعي ؟

لا شكّ أنّ الأخباريين ادّعَوا إمكانَ ذلك ، فقالوا بأنّ المولى تعالى إشترط في حجيّة الأدلّة القطعية أن لا تكون ناتجةً من العقل ، وذلك لأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وقد ورد عن أئمتنا(عليهم السلام) الكثيرُ جداً من الروايات الناهية عن اتّباع الأدلّة القطعيّة الناتجة من العقل بصيغ كثيرة .

أقول : ينبغي النظر من الناحيتين العقلية والنقلية فنقول :

أمّا من الناحية العقلية : فلا يمكن ـ عقلاً ـ سلبُ الحجيّةِ عن القطع بأيّ شكل ، لأنّ الحجيّةَ هي ظلّ القطعِ ومعلولٌ له ، وذلك لأنّ القاطعَ يدّعي معرفةَ الواقعِ ورؤيةَ الحكمِ كما هو .. فكيف لا يكون الكشفُ محرّكاً ومنجّزاً ومعذّراً ؟! وهذا لا ينبغي الشكّ فيه ، وإلاّ لم يستحقّ المتجرّي أيضاً ، العقابَ !!

وأمّا من الناحية النقلية : فقد يُتوهّم سلبُ الحجيّةِ عن القطع فيما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه ، وعن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج (ثقة ثقة ثبت وجه) عن أبان بن تغلب (ثقة فقيه جليل القدر عظيم الشأن في أصحابنا) قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في رجل قَطَعَ إصبعاً من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : ( عشرة من الإبل ) ، قلت : قطع اثنتين ؟ قال : ( عشرون ) ، قلت : قطع ثلاثاً ؟ قال : ( ثلاثون ) ، قلت : قطع أربعاً ؟ قال : ( عشرون ) ، قلت : سبحان الله !! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟! إنّ هذا كان يبلغُنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : ( مهلاً يا أبان ، هذا حكمُ رسولِ الله(ص)، إنّ المرأة تُعاقِلُ الرجلَ إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، يا أبان اِنّك أخذتني بالقياس ! والسُّنَّةُ إذا قِيْسَتْ مُحِقَ الدِّين )[5] ورواها في يب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير ، ورواها في الفقيه بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله ، وهي صحيحة السند .

وهذا التوهّم غير صحيح ، فإنّ الإمام (عليه السلام) رَفَعَ القطعَ عن أبان ، لا أنه رَفَعَ الحجيّةَ عن قطعه، وهذا ما أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري والسيد الخوئي رحمهما الله تعالى ، وهو الحقّ ، ولا يمكن أن تكون في مقام سلب الحجيّة عن القطع .

تـقسيم البحث في الأدلة المحرزة

سنقسم البحثَ في الأدلة المحرزة إلى قسمين :

أحدهما : في الدليل الشرعي

والآخر : في الدليل العقلي

كما أن القسمَ الأول نوعان :

أحدهما : الدليل الشرعي اللفظي

والآخر : الدليل الشرعي غير اللفظي

والبحث في الدليل الشرعي تارةً في تحديد ضوابط عامة لدلالته وظهوره ، وأخرى في ثبوت صغراه ـ أي في حيثية الصدور ـ وثالثة في حجية ظهوره .

وعلى هذا المنوال تجري البحوثُ إن شاء اللهُ تعالى


[4] وردت هذه الآية المباركة مرّتين : مرّةً في سورة النجم وهي[ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى (27) وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً (28)] ومرّةً في سورة يونس وهي[ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ ؟! قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ، أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناًّ، إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)] .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo