< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/14

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للدلالة المطابقيّة

[ تبعيّة الدلالة الإلتـزاميّة والتضمّنيّة للدلالة المطابقيّة ]

ذكرنا أمس بحثَ تبعيّةِ الدلالة الإلتـزاميّة للدلالة المطابقيّة وقلنا بسقوط المدلول الإلتزامي عن الحجيّة عند سقوط المدلول المطابقي ، وذلك لكون المدلول الإلتزامي معلولاً للمدلول المطابقي ...

أمّا تبعيّة الدلالة التضمّنيّة للدلالة المطابقيّة فإنه يجب التفصيل بين ما لو كان بين الأجزاء ارتباط أو لا : فلو قالت بيّنةٌ (إنّ هذا البيت هو لزيدٍ) ، فهذا يعني أنّ كلّ حائط فيه هو لزيد، فلو علمنا باشتباه البيّنة وأنّ البيت ليس لزيد فهذا يعني تلقائيّاً أنّ كلّ حائط فيه هو ليس لزيد ، وأمّا لو قالت البيّنةُ (هذه المكتبة هي لزيد) فهذا القول مرجعه إلى قولهم (كلّ كتاب في هذه الغرفة هو لزيد) أي أنّ العموم هنا إستغراقي لا مجموعي ، ولذلك فإذا علمنا بأنّ كتاباً فيها أو كتابين ليسا لزيد فهذا لا يستوجب سقوط كلّ المدلول اللفظي السابق عن الحجيّة .

والفرق بين الحالة الأولى والثانية هو وجود الترابط في الحالة الأولى دون الثانية ، ففي الحالة الأولى : معنى كلمة (بـيت) هو (الحيطان والأرض والسقف) ، ويبعد التـفكيك بينهما بحسب العادة ، وذلك لكون هذه الحيطان والأرض والسقف هي أجزاء لهذا البيت بحسب الظاهر ، فلو تبيّن عدمُ ملكيّة البـيت لزيدٍ ـ لاشتباه البـيّنة مثلاً ـ لسقطت حجيّة كلام البـيّنة في كلّ أجزاء البيت لا محالة ، وكذا لو تبـيّن أنّ بعض الأجزاء الأساسيّة للبـيت ليست لزيد لسقطت البـيّنة عن الحجيّة في كلّ كلامها ، وذلك لوجود ترابط بين البيت وبين الأجزاء الأساسيّة فيه . وكذا الترابط بين (الكتاب) و (أجزائه) ، فلو أخبرتنا البـيّنة بأنّ الكتاب الفلاني هو لزيدٍ فكأنما قالت هذه الورقة منه هي لزيد وتلك الورقة ... ولو علمنا باشتباه البـيّنة لسقطت المداليل التضمّنيّة كلّها .

أمّا في مثال المكتبة فليس الكتاب فيها مرتبطاً بالكتاب الآخر ، أي ليس فيها ظهور الحال المذكور سابقاً ، فإنّ من المعقول جدّاً أن تكون المكتبةُ لزيد إلاّ بعض الكتب ، فلو تبيّن أنّ بعض الكتب ليست لزيد فهذا لا يوجب عرفاً سقوطَ سائرِ كلام البـيّنة ، وقريب منه ما يردّده علماؤنا عادةً من قولهم بالتبعيض في كلام الثـقة ، فلو تكلّم الثقةُ ألف جملة ، واشتبه في جملة أو اثنـتَين ، فهذا لا يوجب عرفاً سقوطَ كلّ خطبته .

[ في دلالة الإقـتضاء والتـنبـيه والإشارة ]

ذكر الشيخ محمد رضا المظفّر رحمه الله هذا البحثَ في علم الأصول من باب تعليم الطلبة على معاني هذه الكلمات ، مع أنّ هذا البحث لا يدخل في علم الأصول ، وإنما يدخل في علم البلاغة ، لكن تماشياً معه نذكر أكثرَ ما قاله في كتابه بتصرّف فنقول :

يجري كثيراً على لسان الفقهاء والأصوليين ذِكْرُ دلالة الإقتضاء والتـنبـيه والإشارة ، وبيانها يظهر في البحث عنها من جهتين : الأولى في بيان وتعريف هذه الدلالات الثلاثة ، والثانية في حجيتها .

الجهة الأولى : في تعريف هذه الدلالات الثلاثة

لا شكّ أنك تعلم أن (المنطوق) هو مدلول ذات اللفظ بالدلالة المطابقية ، ويقابله (المفهوم) الذي هو المدلول السلبي للجملة اللازمُ للمنطوق لزوماً بـيِّناً بالمعنى الأخص ..

ولكن يبقى هناك من المداليل ما لا يدخل في المنطوق ولا في المفهوم ، كما إذا دل الكلام بالدلالة الإلتزامية على وجود لفظ مفرد ليس مذكوراً في المنطوق صريحاً ، وكما إذا دل الكلام على مفاد جملة لازمة للمنطوق ، فإنَّ هذه كلَّها لا تسمى منطوقاً ولا مفهوماً . إذن ماذا تسمى هذه الدلالات في هذه المقامات ؟

نقول : الأنسب أن نسمي مثل هذه الدلالات ـ على وجه العموم ـ (الدلالات السياقية) ـ كما ربما يجري هذا التعبير في لسان جملة من الأساطين ـ لتكون في مقابل الدلالة المفهومية والمنطوقية .

والمقصود بها أنّ سياق الكلام يدل على معنى لم يُذكَر لفظُه صريحاً ، وقسموها إلى الدلالات الثلاثة المذكورة : الإقتضاء ، التـنبـيه ، والإشارة . فلنبحث عنها واحدة واحدة : دلالة الإقـتـضاء

قد تَسمعُ جملةً واضحةَ المعنى ، لكنك بالتأمّل في اللفظ تلاحظها ناقصةَ اللفظ ، ولكن المتكلّم العاقل قد حَذَفَ منها بعضَ الألفاظِ لاستدعاء البلاغةِ والفصاحة ذلك ، مثالُها موثّقةُ زرارة (لا ضرر ولا ضرار)[1] ، فإنّ المعنى واضح جدّاً وهو (لا أحكام ضرريّةً في الإسلام)، فحَذَفَ النبيُّ(ص) كلمةَ (أحكام) لشدّة وضوحها ولاقتضاء البلاغة والفصاحة ذلك ، وإلاّ فلا يمكن إرادة معنى (لا يوجد ضرر على النفس ولا ضرار على الغير في الإسلام) فإنه يوجد ضرر خارجي وإضرار بالنفس وبالغير ، ومثلها قوله (ص) ( رُفِعَ عن أمّتي ما لا يَعلمون وما اضطُرّوا إليه ... )[2] فإنّ العلماءَ يعرفون أنّ المراد هو رَفْعُ الحكمِ التـنجيزي ، لا رفع أصل التشريع من اللوح المحفوظ ولا رفع الفعليّة ، وكذا قولُه (عليه السلام) ( لا صلاة لمن جاره المسجدُ إلا في المسجد ) ، فإنّ العلماء يعرفون أنّ المراد هو (لا صلاة كاملةً لجار المسجد إلاّ في المسجد) وليس المراد هو نفيُ أصل الصلاة وأنّ صلاته باطلة ، ومثلُها قولُه تعالى [ واسألِ القريةَ ] فإنَّ صحته عقلاً تتوقف على تقدير لفظة (أهل) فيكون من باب حذف المضاف ، وكذا قولهم (أَعْتِقْ عبدَك عَنّي على مئة دينار) فإنّ صحة هذا الكلام ـ شرعاً ـ تتوقف على طلب تمليكه له أوّلاً بمئة دينار ، لأنه (لا عِتْقَ إلا في ملك) فيكون التقدير: مَلِّكْني العبدَ بمئةِ دينارٍ ثم أعتِقْهُ عنّي ، ومثله أيضاً قول الشاعر : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلِفُ ، فإنّ صحته لغة تتوقف على تقدير (راضون) لأنّ المعنى المراد هو(نحن بما عندنا راضون) ، وذلك لعدم صحّة (نحن راض) .

والخلاصة هي أنّ سياق الجمل السابقة يقتضي أن يكون تمامُ اللفظ هو ما ذكرناه ، لأنه لا يصحّ الكلام بدون تتميمه باللفظ المحذوف .

 

دلالة التـنبـيه

وهي كالأولى في اشتراط القصد من المتكلّم ووضوحِ المعنى عند السامع ، ولكن من غير أن يتوقف صحّة الكلام على تتميمه ببعض الألفاظ ، وإنما سياق الكلام يُفهمُ منه إرادةُ ذلك اللازم . مثال ذلك ما إذا أراد المتكلمُ بـيانَ أمْرٍ فَنَبَّهَ عليه بذِكْرِ ما يلازمه عقلاً أو عرفاً ، كما إذا قال القائل : (دقت الساعةُ العاشرة) ، حيث تكون الساعة العاشرة موعداً للمخاطَب مع بعض الناس ، فيكون قول القائل هذا لِيُنَبِّهَ السامعَ على حلول الموعد ، وكذا لو قال المستيقظُ للنائم : (سوف تطلع الشمسُ) مخاطباً النائمَ ليستيقظ من نومه حينئذ ، أي لبيان قرب فوات وقت أداء صلاة الصبح ، وكما لو قال شخص لزوجته مثلاً : (إني عطشان) للدلالة على طلب الماء .

 

دلالة الإشارة

وهي كما لو ورد في رواية وجوبُ أن يَغسل المتوضّئُ وجهَه ويديه أكثر من الحدود المرسومة شرعاً من باب الإحتياط ، مع ما يقتضي ذلك من وصول الماء غالباً إلى الناصية ، مع عدم التـنبـيه على وجوب تجفيف مواضع المسح ، فهذه الرواية ـ مثلاً ـ فيها إشارةٌ إلى عدم وجوب تجفيف مواضع المسح .

 

الجهة الثانية في حجية هذه الدلالات

أما دلالة (الإقتضاء) و (التـنبـيه) فلا شك في حجيتهما إذا كان هناك دلالة وظهور ، لأنه من باب حجية الظواهر ، ولا كلام في ذلك .

وأما دلالة (الإشارة) فحجيتها من باب حجية الظواهر محل نظر وشك ، لذلك يكون تسميتها بالدلالة من باب المسامحة ، إذ المفروض أنها ليست صريحة ولا ظاهرة ، فلا وجه لأن تكون حجّة شرعاً ، إلاّ إذا فرضنا أنّ المشار إليه كان واضحاً عرفاً.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo