< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الأحكام الوضعيّة

وأمّا الأحكام الوضعيّة فهي مثل (الأمينُ لا يضمن إلاّ مع التفريط) و (إذا عقد رجل على امرأة بشروط معيّنة فهي زوجته) و (إذا اشترى شخصٌ بضاعةً من شخص بشروط معيّنة فقد مَلَكَه) . وأمّا الجزئيّة ـ كجزئيّة الركوع من الصلاة ـ والشرطيّة ـ كشرطيّة الإستقبال في الصلاة ـ والمانعيّة ـ كنجاسة الثياب أو البدن في الصلاة ـ والرافعيّة ـ كالضحك والرقص في الصلاة ـ فهي مستـنبطة من نفس الحكم الشرعي المؤلّف من موضوع ومحمول ، أو قُلْ هي أمور منتزعةٌ في عالم الذهن .

هذا بشكل إجمالي ، لكنْ تـفصيلُ ذلك يستدعي النظرَ في عشر نِـقاط :

الأحكام التكليفيّة متضادّة فيما بينها ، فالوجوب يضادّ الإستحباب وغيرَه ، والحرمةُ تضادّ الكراهةَ وغيرَها ، ولذلك لا يمكن عقلاً أن يحكم الله عزّ وجلّ بحكمين متضادّين في عالم الجعل . نعم ، لا مانع من جعْلِ أحكام واقعيّة ومع ذلك يتعبّدُنا بأحكام ظاهريّة ـ وهي مؤدّياتُ الأمارات والوظائف العمليّة ـ منافية لتلك الأحكام الواقعيّة في حال الجهل بها ، وذلك لمصالح عظيمة يأتيك شرحها عند كلامنا عن إشكالات ابن قبة .

ونفسُ الكلام يجري في الأحكام الوضعيّة ، فإنه لا يمكن أن يشرّع المولى تعالى بطلان بيع الكلاب الثلاثة ويشرّع صحّة بيعها ، لأنهما متعارضان .

ومرجع استحالة التعارض بينها يكون على مستوى الملاك والمحبوبيّة والإرادة والإعتبار والجعل والفعليّة والتنجّز ، ويكفي أن ننظر إلى مرحلتَي الملاك والتنجّز فقط ، لتـتّضح الإستحالةُ في كافّة المراحل : فإنّ الفعل الفلاني إن كان ذا مصلحةٍ معيّنة أو مفسدة فإنّ الباري تعالى إنما يَحكم فيه بناءً على حكمته البالغة ، فهو إذَنْ يَحكم بحكمٍ واحد مناسب للموضوع ، فلا يمكن إذن ـ بناءً على حكمة الله البالغة ـ أن يَحكم بحكم آخر له غير مناسب ، وأمّا على مستوى التنجّز فالمكلّف إمّا أن يرى الفعل واجباً عليه أو غير واجب ... وهذه الأحكام المتضادّة في مرحلة الإمتثال لا تصدر من إنسان حكيم ، فكيف تصدر من ربّ الحكمة البالغة ؟!

الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي هو أنّ الحكم التكليفي محرّكٌ مباشرةً للمكلّف ، والحكم الوضعي محرّك غيرُ مباشر للمكلّف ، فقول المولى مثلاً : (الإتلاف سبب للضمان) هو محرّك للمتلِف بشكل غير مباشر ، بمعنى أنه ـ بالنـتيجة ـ يجب على المتلِف أن يَدْفَعَ بَدَلَ التالِف لصاحبه . أمّا قول المولى (إتلافُ مالِ الغَير حرام) فهو حكم تكليفي ، لأنه يحرّك المكلّفَ مباشرةً . وقولُ المولى (الإفطار سبب لترتّب الكفّارة) حكم وضعي ، وقولُه "من أفطر يجب عليه أن يدفع كفّارة" حكم تكليفي . إذن الأحكام الوضعيّة تستَـتْبِع دائماً أحكاماً تكليفيّة .

فإن قلتَ : إذا مات الميّتُ وعليه صلاةٌ أو صيام مثلاً ، ولم يكن له وَلَدٌ ذَكَرٌ ، فإنّ القضاء يكون ثابتاً في ذمّته ، ومع ذلك فإنه لا يستـتبع حكماً تكليفياً عليه ، لأنه ميّت ! ومثلُه كلُّ شخص غير مكلّف ـ كالصغير ـ إذا أتلف مالَ الغير ثم مات قبل البلوغ ، وكالمجنون !

قلتُ : هذا صحيح ، لكنْ عدمُ ترتّب الحكم التكليفي إنما هو لعدم الموضوع للتكليف ، لا لعدم المقتضي للتكليف الإلزامي ، ولذلك لو فُرِض رجوع الميّت إلى الحياة أو كبر الصبيّ حتى بلغ أو أفاق المجنون ، لَوَجَبَ عليهم أن يَرُدّوا ما ثبت في ذمّتهم إلى صاحبه ، ولو في الآخرة . ولذلك ، فإنّ قاعدة أنّ (الحكم الوضعي يستـتبع حكماً تكليفياً دائماً ) هي قاعدة صحيحة ، لا تنخدش أصلاً ، وإلاّ لم يَعُدْ للحكم الوضعي أيُّ قيمة .

الأحكام الشرعيّة الوضعيّة :

الحكم الشرعي الواقعي الوضعيّ هو الحكم الكُلّي بالطهارة ـ مثلاً ـ على الشيء الكُلّي ، وكالحكم الكُلّي بالنجاسة على الشيء الفلاني الكُلّي ، وكذلك طهارة هذا الشيء الخارجي ونجاسة ذاك هي أحكامٌ شرعيّة ، وذلك لأنها صدرت من جهة الشرع ، يعني أنّ (الماء النظيف طاهر) هو الحكم الشرعي الوضعي الموجود في عالم الجعل ، وكذلك طهارة هذا الماء النظيف هي حكمٌ شرعي ، حتى وإن كان تطبيقاً للحكم الشرعي الكُلّي الموجود في عالم الجعل . ووصْفُنا لمؤدّيات الأمارات والوظائف العمليّة بأنها أحكام شرعيّة لا يعني أنّ المولى عزّ وجلّ شرّعه مرّة ثانية ، ولا يعني أنها أحكامٌ واقعيّة ، وإنما سمّيناها بذلك لأنها صدرت من قِبَل الحجج الشرعيّة والأصول العمليّة ، وبالتالي صدرت من قِبَلِ الشرع ، فصارت حجّة شرعيّة علينا .

ثم إنّ العلماء يسمّون الطهارةَ والنجاسة والملكيّة والزوجيّة أحكاماً وضعيّة ، لكنهم يقصدون بذلك : الحكم بالطهارة على الشيء الفلاني ، والحكم بالملكيّة على العلاقة الفلانيّة في حال حصول العقد الفلاني أو الأمر الفلاني ، والحكم بالزوجيّة بين الرجل والمرأة في حال حصول العقد الفلاني .. لكنهم تساهلاً وللسرعة في التعبير يقولون كالطهارة والنجاسة وو ..

وبتعبير آخر : إنه ليست الأحكام الشرعية الوضعية هي كالطهارة والنجاسة والبلوغ ، فالطهارة والنجاسة ليستا أحكاماً أصلاً ، وإنما هي أسماء فقط ، وليست أحكاماً أو قضايا ، والحكمُ الشرعي يجب أن يكون بنحو القضيّة . نعم ، لا شكّ أنّ الله تعالى تدخّل في بعض الإصطلاحات التي هي دخيلة في الأحكام الشرعيّة ، موضوعاً أو محمولاً ، فاعتبَرَ مَن بَلَغَ الثلاثَ عشرة سنةً أو احتلم قبل ذلك أنه (بالغ) ، ووضع ألفاظ (ركوع) و (سجود) و (تشهّد) و (الصلاة) و (الغِيبة) لمعانيها المعروفة ، ووضَعَ كلمةَ (الوجوب) و (الحرمة) وو لِيُعَبّر عن الأحكام التي يريدها ، وقد تكون بعض الألفاظ الشرعيّة أساسُها وضْعُ العقلاء ، لكنّ المولى جلّ وعلا شذّبها ، وجعل لها شروطاً ، مثل ألفاظ (الطلاق) و (الخلع) و (الرجعة) و (العِدّة) و (الدخول) .. هكذا تعبيرات كثيرة لا مانع مِنْ أن يضعَها المولى جلّ وعلا أو يشذّب بعض معانيها تمهيداً لجعْلِ الأحكامِ الشرعيّة ، أي ليقول مثلاً (من بلغ فقد وجبت عليه الصلاة ، وحرمت عليه الغِيبة) ، فاستعمل ألفاظاً شرعيّة ، قد يكون أصْلُ وجودِها وضْعَ الناس ، لكنّ الشارعَ المقدّس شَذّبَ معانيَها قليلاً ـ كما في القنوت والركوع والسجود ـ أو كثيراً ـ كما في الصلاة والصيام والحجّ والخمس والزكاة ـ .

ما اُريد أن أقوله هو أنّ هذه الألفاظ ليست أحكاماً شرعيّة ، وإنما هي موضوعات أو محمولات للأحكام الشرعية .

إذَنْ إصطلاحاتُ الوجوب والإستحباب والحرمة والكراهة والإباحة ليست أحكاماً تكليفيّة، وأمّا الأحكام التكليفية فهي ـ كالأحكام الوضعية ـ قضايا كاملة المعاني مثل : (إذا زالت الشمسُ فالصلاة واجبة) و (إذا سافر الإنسانُ فالتقصير واجب ) و (يحرم شرب الخمر) وهكذا ...

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo