< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/06/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تعريف عِلْمِ الاُصول وموضوعه

 

تعريف عِلْمِ الاُصول وموضوعه

لا شكّ أنك بعدما تجاوزت مرحلةَ السطوح صرتَ تعرفُ مدى أهميّةِ علم الاُصول في عالم الإستـنباط ، وصرتَ تعرفُ أيضاً أنّ علم الاُصول هو عِلْمٌ يحاول تعريفَنا بالأسس والقواعد التي يجب أن نسير عليها لإجراء عمليّة استـنباط الأحكام الشرعيّة بشكل صحيح ، وأنت تعلم أنّ عِلم الأصول نشأ مِن رَحِمِ عِلْمِ الفقه ، فكلَّما كان الفقهاء يلاحظون بعضَ القواعد التي يستـفيدون منها في عمليّة الإستـنباط بشكل مباشر ومتكرّر في الكثير من الحالات كانوا يُدخِلونها في علمٍ خاصّ حتى أنشؤوا عِلماً كبيراً أطلقوا عليه إسم (علم أصول الفقه ) ، ومن هنا تعرف التفاعلَ الدائم بين علم أصول الفقه وعلم الفقه ، وكلُّ البحوث الأصوليّة غايتُها معرفةُ القواعدِ الأصوليّة الصحيحة التي تقع في عمليّة الإستنباطِ وتميـيزُها عن القواعد الباطلة كحجيّة القياس ، ولذلك كان الأصول يمثّل الجنبةَ النظريّة والفقهُ يمثّلُ الجنبةَ التطبـيقيّة في عمليّة الإستـنباط .

لكلّ هذا كان عِلْمُ الأصول هو (العِلْمُ بالقواعد العامّة التي مِن شأنها أن تكون ممهّدةً لاستـنباط الأحكام الشرعيّة) . وقولُنا (مِن شأنِها) يعني أنّ كلّ مسألة يُحتمَل دخالتُها في الإستنباط ولو نظريّاً ـ أي حتى ولو كانت باطلةً عندنا ـ يجب أن تَدخل في علم الأصول سواء عَلِمنا بإجماع الطائفة أنها باطلة ـ كالقياس ـ أو عَلِمْنا ببطلانها عند أنفسنا ـ كالإستصحاب في الشبهات الحكميّة ـ أو عَلِمْنا بصحّتها بالإجماع كالإستصحاب في الشبهات الموضوعيّة والبراءة.

ثم إنّ من الخطأ الواضح أن يكون لكلّ مذهب في الإسلام أصولُه ، أو لكلّ شخصٍ أصولٌ خاصٌّ به ، وإنما يجب أن يُنظَرَ إلى العلم بشكلٍ عام ، فالتاريخ يجب أن يُذكَر كما هو ، حتى ولو كان على غير أهواء الكاتب ، والفلسفةُ كذلك ، وسائرُ العلوم ، فإذا كان الهدف والغاية من علم الأصول هو معرفة القواعد الصحيحة التي تفيدنا في علم الفقه ، إذن يكون من الواضح أنّ كلّ مسألة قد تفيد في علم الأصول ، ولو لطائفةٍ من الناس ، يجب أن تكون داخلةً في علم الأصول ، ولذلك يجب أن يكون موضوع علم الأصول هو (القواعد التي مِن شأنها أن تكونَ ممهّدةً للإستـنباط) كحجيّة القياس ، فإنها تدخل في عمليّة الإستـنباط عند العامّة ، ويعتبرونها صحيحة ، ولذلك يجب إدخالها في علم الأصول وبحْثُها عِلْميّاً .

ثم لا شكّ أنّ بعض القواعد العامّة التي تفيدنا في عمليّة الإستـنباط ـ كالقواعد الرجاليّة ـ لا ينبغي إدخالُها في علم الأصول لأنها ليست من الوسائط القريبة في عمليّة الإستنباط ، فالقواعد الرجاليّة ناظرة إلى إعطاء قواعد تفيد وثاقةَ طائفة من الرجال كمَن يروي عنهم أحدُ الأجلاء الثلاثة ، وأنّ مَن يروي عنه الصدوق في الفقيه هو ثقة ونحو ذلك ، فهي إذن ناظرةٌ إلى توثيق أو تضعيف طائفة من الناس ، ولا ربط بهذا الأمر بالإستـنباط إلاّ من بعيد ، وإنما هي من قبيل القواعد النحويّة والحديثيّة التي تفيدنا في الإستـنباط ولكنها وسائط بعيدة عن عمليّة الإستـنباط ، فهي ليست من قبيل حجيّة خبر الثقة ـ مثلاً ـ وحجيّةِ الظهور وترجيح الروايات المتعارضة بمخالفة العامّة ، التي تدخل مباشرةً في عمليّة الإستنباط . والخلاصة هي أنّ نظر القواعد الأصوليّة وغايتها هي في تعريفنا وتعليمنا على كيفيّة استـنباط الأحكام الشرعيّة بصورة صحيحة ، ولذلك فهي تدخل مباشرةً في عمليّة الإستـنباط في الكثير من الحالات ، بخلاف القواعد الرجاليّة والحديثيّة والنحويّة .

يَـبقَى هنا مسألتان وهما عن توجيه دَخالةِ مباحث الألفاظ والمباحث العقليّة في علم الأصول

الأولى : يتساءل بعضُ الناس عن مباحث الألفاظ ـ كقولهم (الأمرُ يدلّ على الوجوب ) وكقولهم (الجملةُ الشرطيّةُ ظاهرةٌ في المفهوم ) ـ فيقولون : أليست هي داخلةً في عِلم اللغة وليس في علم الأصول ؟! وأليست هي واسطةً بعيدة وغير مباشرة في عمليّة الإستنباط ؟ بمعنى أنها كالقواعد الرجاليّة والنحويّة في ذلك .

فأقول : أمّا بالنسبة إلى الإشكال الأوّل فمن الواضح صحّةُ دخولِها في اللغة وفي علم الأصول ، وذلك لأنّ فيها جهتين ، ولكن بما أنّ هذه المباحث يَدخل فيها ـ دائماً أو غالباً ـ بعضُ المباحث العقليّة كالإطلاق ـ وليس الإطلاقُ من المباحثِ اللُغَوِيّة ـ كان الأحسنُ إدخالَها في علم الأصول ، فإنّ البحث في دلالة الأمْرِ على الوجوب ، كما تُدَّعَى بالتبادر ، تُدَّعَى أيضاً بالإطلاق ، وكذا في قولهم (الجملةُ الشرطيّةُ ظاهرةٌ في المفهوم) فإنّه كما يُدَّعَى الظهورُ بالتبادر ، يُدَّعَى أيضاً بالإطلاق . وأمّا بالنسبة إلى إشكالهم الثاني فجوابُه هو أنه يكفي قُرْبُها جدّاً من الإستـنباط حتى لا تكون من قبيل القواعد الرجاليّة والنحويّة .

المسألة الثانية : كيف تَدخل المباحثُ العقليّة في علم الأصول ؟

الجواب : يتبـيّن دخولُ المباحثِ العقليّة في علم الأصول من خلال مثالين : الأوّل نأخذه من مبحث الضدّ والترتّب وهو : لو كان شخصٌ محترمُ الدم يَغرق ، وشخصٌ آخر يريد أن يصلّي ، فمن الطبيعي أنّ على الثاني أن يقدّم الأهمّ وهو الإنقاذ ، لكنه ـ فَرَضاً ـ لم يُنقِذْ وإنما ذهب فصلّى ، فصلاتُه صحيحة بلا شكّ ، رغم ارتكابه لمعصيةٍ كبيرة ، وذلك تمسّكاً بإطلاق الصلاة من التقيّد بعدم تنجّز الأهمّ ، فيَـبقَى وجوبُ الصلاةِ فعليّاً عليه رغم تنجّزِ وجوبِ الأهمّ ، نعم ، لا يتنجّز واجبان متضادّان في وقتٍ واحد ، فتُصحَّح الصلاةُ لبقاء الوجوب الفعلي بها . والمثالُ الآخر نأخذه من بحث مقدّمة الواجب : لو فرضنا أنّ شخصاً دخل إلى أرضٍ مغصوبةٍ بسوء اختياره ، ثم تاب وأراد أن يخرج منها ليتخلّص من زيادة التصرّف بالمغصوب ، وأراد أثناء خروجه أن يتوضّأ من دون أيّ تصرّف زائد في أرض الغَير ، فقد ذهب أكثرُ علمائنا إلى صحّة وضوئه ، لأنّ وضوءه هذا غير مبغوض وغيرُ منهيّ عنه ، فيصحّ التمسّكُ بإطلاقات الوضوءات البيانيّة لإثبات عدمِ تقيّد الوضوء بعدم كونه في هكذا حالة .

ومن هنا تعرفُ أنّ موضوع علم الأصول هو (القواعد العامّة ـ أي الأدلّة المشتركة ـ التي تكون وسائط قريـبة في عمليّات استـنباط الأحكام الشرعيّة) سواءً كانت تشكّل صغرى في قياس الإستنباط ـ من قبيل قولهم (الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم) ـ أو كبرَى ـ من قبيل قولِهم (خبر الثقة حجّة) و (الظهور حجّة) ـ ولذلك يصحّ تعريف علم الأصول بأنه (العِلْمُ بالقواعد الممهِّدة لاستـنباط الأحكام الشرعيّة) ، ودورُ الأصوليّ أن يستكشف الصحيحَ منها بقدر وُسْعِه وطاقتِه .

وأنت تعلم أنّ مرادنا من القواعد العامّة ـ المذكورة في التعريف ـ هو كقولهم (خبر الثـقة حجّة) و (الإستصحاب حجّة) ، لا كالقواعد الفقهيّة التي هي في الحقيقة أحكامٌ شرعيّة فقهيّة فرعيّة، لا قواعد أصوليّة . فالقواعدُ الفقهيّة يُطبّقُها العامّيُّ في الكثير من الحالات ويطبّقها على الموارد المناسبة ، كما في (لا ضرر) و (لا حرج) و (الأمين لا يضمن إلاّ بالتعدّي أو التفريط) وقواعدِ الفراغ والتجاوز والصحّة في عمل الغَير وقاعدة (اليَدُ أمارةُ الملكيّة) . نعم هناك بعض القواعد الفقهيّة التي يطبّقها الفقيهُ فقط ، ولا يستطيع العامّيُّ أن يطبّقها لأنها بحاجة إلى الخبرة كما في قاعدة الإمكان ـ وهي قولهم ( إنَّ كُلَّ ما يمكنُ أن يكون حيضاً فهو حيض ) ـ وقاعدة (الإسلامُ يَجِبّ ما قَبْله) وقاعدة (القرعة) وقاعدة (لا تُعاد الصلاة إلاّ مِن خَمْس : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود) ، وهذا لا يعني أنها خرجت من كونها قواعدَ فقهيّة .

أمّا الأحكامُ الشرعيّة ـ الواردة في تعريف علم الأصول وموضوعه ـ فهي نوعان واقعيّة وظاهريّة :

أمّا الواقعيّة فأربعة أصناف :

الأحكام الواقعيّة الأوّليّة ، مثل (الصلاةُ واجبة) و (شربُ الخمر حرام) و (الأمينُ لا يَضْمَنُ) .

الأحكام الواقعيّة الثانويّة ، مثل (لا ضرر ولا ضرار) و (لا حَرَجَ) .

الحجج الشرعيّة ، مثل (خبر الثقة حجّة) و (الظهور حجّة) .

الاُصول العمليّة ، مثل (الإستصحابُ حجّةٌ) و (قاعدة الحِلّ حجّةٌ) و (البراءةُ حُجّةٌ) .

وأمّا الظاهريّة فـصنفان :

مؤدّيات الأمارات ، مثل (السورة بعد الفاتحة واجبةٌ) الذي استـفدناه من خبرِ الثقةِ الحجّة الذي لم يورث عندنا علماً قطعياً وإلاّ دخل في الأحكام الواقعيّة . نعم ، قد تكون السورة بعد الفاتحة واجبةًً واقعاً وقد لا تكون ، ولكن على مستوى الظاهر نقول بالوجوب إعتماداً على الأمارة الحجّة ، ولذلك نقول : عندنا ـ نحن الجاهلون بكونه حكماً واقعيّاً ـ هو حكم ظاهري، مع أنه قد يكون موجوداً كذلك في الواقع .

الوظائف العمليّة ، كما في قول المتشرّعة (هذا الماء طاهر) الذي استـفدناه من قاعدة الطهارة أو قاعدة الإستصحاب ، وهذا لا يحتاج إلى استـنباطٍ كاستـنباط المجتهد ، وإنما يطبّقُ العامّيُّ قاعدةَ الإستصحاب على المورد الخارجيّ المشكوك فيَستـنبِطَ من قاعدة الإستصحابِ طهارةَ الماء مثلاً ، وقولُنا (هذا الماء طاهر) هو حُكْمٌ شرعي ، لأنه صدر من جهة الشرع ، ولذلك كانت قاعدة الإستصحاب قاعدةً أصوليّة ، لأنها يُستـنبَطُ منها وظيفةٌ عمليّة ، وهذه الوظيفة هي حكم شرعي لأنّها صدرت من جهة الشرع ، ولذلك كانت الوظيفةُ العمليّةُ حجّةً شرعاً لنا وعلينا ، حتى ولو كان الماءُ الذي استصحبنا طهارتَه متـنجّساً في الواقع .

هذا الكلام ينطبق على مؤدَّيات الأمارات تماماً ، فإنّ (خبر الثقة حجّةٌ) قاعدة أصوليّة لأنّ المجتهدَ يَستـنبط منها بعضَ الأحكام الشرعيّة وهي مؤدّيات الأمارات ، وقلنا (هذه المؤديات هي شرعيّة) لأنها صدرت من جهة الشرع ، ولذلك فهي حجّة شرعية لنا وعلينا .

وقد سَمَّى البعضُ الحججَ والأصولَ العمليّة بـ (الأحكام الظاهريّة) لأنّ مورد الاُولَى هو الجهلُ بالحكم الواقعي ، ولأنّ مورد الأصول هو عدم وجدان دليل محرِز ـ أي أمارة ـ على الحكم الشرعي ، ولذلك فهو ـ بسبب أنها تفيدنا أحكاماً ظاهريّةً ـ سمّاها بالأحكام الظاهريّة.

أقول : السببُ المذكور لا يُخَوِّلُها أن يُطْلَقَ عليها اسمُ (الأحكام الظاهريّة) ، وذلك لأنّ الحجج والأصول العمليّة هي أحكام واقعيّة بامتياز ، والاَولَى جدّاً أن يُطلَقَ على مؤدّيات الأمارات وعلى الوظائف العمليّة بأنها أحكامٌ ظاهريّة ، بمعنى أنّ المولى تعالى اعتبر السورةَ بعد الفاتحة ـ مثلاً ـ واجبة ، لأنها وصلتنا من جهة أمارة حجّة شرعاً ، حتى ولو لم تورث عندنا العلمَ القطعي ، ولذلك يجب علينا ـ بمقتضى هذه الأمارة الحجّة ـ أن نعتبر السورةَ بعد الفاتحة واجبةً شرعاً ، ولكن المجتهد لا يستطيع أن يقول أكثر من (واجبة ظاهراً) ، لا واقعاً ، وكذلك فيما لو اعتبرنا ماءً خارجيّاً طاهراً بناءً على الإستصحاب أو قاعدة الطهارة ، فإنّ المتشرّعة لا يستطيعون أن يقولوا عنه أكثرَ من قولهم (هو طاهرٌ ظاهراً) ، ولذلك نـقول هي أحكام شرعيّة ظاهريّة بوضوح ، لا بمعنى أنّ المولى تعالى جعلها بجعلٍ آخر، وإنما بمعنى أنّ المجتهد يرى السورةَ واجبةً ظاهراً، والعامّي المقلِّدُ يرى الماءَ طاهراً ظاهراً .

ولا بأس ونحن بصدد الكلام عن الأحكام الواقعيّة والظاهريّة أن نبـيّنَ الأحكامَ الواقعيّة بتـفصيل أكـثر فنقول :

الأحكامُ الواقعيّة هي الموجودة في عالَم الجعل ، ونَعْرِفُ بعضَها من خلال بعض أمورٍ ككونها موجودةً بوضوح في كتاب الله الكريم أو السنّة المتواترة أو ككونها مجمَعاً عليها بنحو التسالم عند الطائفة ولا يَشكّ بها فقيه قط ، وهي تكليفيّة ووضعيّة .

أمّا التكليفية فهي مثل (الصلاة واجبةٌ) و (صلاة الليل مستحبّةٌ) و (شرب العصيرِ مباحٌ) و (الأعمال الخارجة عن العقل والعرف كالأكل في الشوارع وتطويل الشعر مكروه) و (شرب الخمر حرام) . وقد تكون الإباحةُ صادرة عن ملاكين متساويين ـ أي مصلحة ومفسدة متساويين بنظر الشارع المقدّس ـ فتكون الإباحة اقتضائيّة ، وهي تفيد التخيـير . قيل : وقد تكون الإباحةُ صادرةً من عدم الملاك أي من عدم المصلحة وعدم المفسدة ، فتكون الإباحةُ ح غيرَ اقتضائيّة. أقول : إعطاءُ مثلٍ على الإباحة الغير إقتضائيّة صعبٌ عقلاً ، إذ كلُّ ما تفعلُه ، فيه مفسدةٌ أو مصلحةٌ اقتضائيّة ، حتى ولو ادّعيتَ بأنّ (وضْعَ يدِك اليمنى على اليدِ اليسرى غيرُ اقتضائي) ، وذلك لأنه في كلّ فعلٍ مصلحةٌ أو مفسدة ولو كانت قليلة جدّاً بحيث لا يدركها الإنسانُ ، وذلك لأنّ الفِعْلَ أمْرٌ وجوديّ ، فلا بُدّ أن يكون فيه وله أثَرٌ في هذا العالَم ، ولذلك يَـبعدُ عقلاً أن تجد مثالاً للإباحة الغير اقتضائيّة .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo