< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : نظريّة انقلاب النسبة

نظريّة انقلاب النسبة

وخلاصتُها أن تـنقلب النسبةُ بين دليلين ـ بسببِ دليلٍ آخر ـ إلى نسبة اُخرى ، كما لو كان يوجد دليلان بينهما عموم من وجه ، ودليلٌ أعمّ منهما ، فلو خصّصنا العامَّ الفوقاني بأحدِ الخاصّين ، وصار العامُّ أخصَّ من الخاصّ الثاني ، كان هذا انقلاباً للنسبة من الأعمّ إلى الأخصّ ، وكما لو انقلبت النسبة بين الدليلين من التباين إلى العموم المطلق ، فهذا أيضاً انقلاب للنسبة وهكذا [1] ... المهمّ هو أنه لا مانع من انقلاب النسبة إذا كان الإنقلاب قد حصل على مستوى الدلالة التصوّريّة ، إذ يجب الجمع بين الروايات بالنظر العرفي ، أي على مستوى المداليل التصوّريّة ، ثم بعد معرفة المدلول التصوّري المجموعي وبعد معرفة حال المتكلّم نعرفُ المدلولَ الجِدّي للمتكلّم ، وهذا هو موضوع الحجيّة . ولتوضيح المطلب يكفي أن نعطيَ ثلاثةَ أمثلة على ذلك :

الأوّل : بناءً على عمومِ نجاسةِ البول ، وهناك عمومٌ أصغر منه دائرةً وهو مفاد صحيحة عبد الله بن سنان إذ تقول ( إغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمُه ) ، وعندنا صحيحة أبي بصير وهي تقول ( كل شيء يطير فلا بأس بخُرئه وبوله ) ، فيقع التعارضُ في خُرْء وبول الطير الذي لا يؤكل لحمه . فقد نـقيِّدُ العمومَ الفوقاني ـ الذي هو (البول نجس) ـ بـ (بول الطيور طاهر) ـ الذي هو مفاد صحيحة أبي بصير ـ ، والنتيجةُ تصير (أنّ كلّ بولٍ نجسٌ إلاّ بولَ الطيور) ، وبالتالي صغرت دائرةُ العموم الفوقاني حتى صارت أضيقَ دائرةً من صحيحة ابن سنان ، ولذلك يجب تقيـيدُ هذه النتيجةِ المذكورةِ ـ التي هي (كلّ بول نجس إلاّ بولَ الطيور ، فبَولُها طاهرٌ) ـ لصحيحةِ ابن سنان ، فتصير النتيجةُ النهائيّة : (أبوال ما لا يؤكل لحمُه نجسة إلاّ أبوالَ الطيور) .

محلُّ الشاهد هو انـقلاب العام ـ (البولُ نجس) ـ إلى أصغر من الخاصّ الثاني ـ الخاصُّ الثاني هو صحيحة عبد الله بن سنان ـ ، وهو ما يعبّر عنه بـ انقلاب النسبة من العام إلى أخصّ دائرةً من دائرة الخاصّ .

أقول : ما ذُكِرَ مِن كيفيّةِ الجمعِ غيرُ عرفي ، ولا دليل عليه ، وذلك لأننا لا ينبغي أن نلاحظ العام بعد تقيـيده بالخاصّ الأوّل ـ بذريعة أنه هو الحجّة ـ فنخصّصُ به الخاصَّ الثاني ، وإنما يجب أن ننظر إلى المداليل التصوّريّة لكلّ الأدلّة ، لأنّ التعارض وقع في مرحلة التصوّر ، ولذلك العُرفُ ينظرُ ـ عند وقوع التعارض بين المداليل التصوريّة للأدلّة ـ إلى نفس نقاط التعارض المرئيّة ، لا إلى مرحلة ما بعد تقيـيد العامّ ، فيقيّد به الخاصَّ ، أو قُلْ إنّ العرف يرى أنّ التعارض وقع بين الخاصّين في مرحلة المداليل التصوّريّة ، وفي محلّ الإلتـقاء يَرجعون إلى عموم العام . طبعاً مع غضّ النظر عن المثال المذكور ، وإلاّ فبَولُ الطائرِ طاهرٌ بلا شكّ ، وذلك لعدم ثبوت عموم نجاسة البول ، نعم الأحوط استحباباً اعتبارُه نجساً .

المثال الثانيٍ : وَرَدَ في صحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يركع مع الإمام يَقتدي به ، ثم يرفع رأسَه قبل الإمام ؟ قال : ( يُعيد بركوعِه معه )[2] أي يعيدُ ركوعَه بأنْ يركع معه ، وهي تشمل حالتَي العَمْدِ والسهو ، وورد في موثقة غياث بن إبراهيم قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرفع رأسَه من الركوع قبل الإمام ، أيعود فيركع إذا أبطأ الإمامُ ويرفع رأسَه معه ؟ قال : ( لا )[3] وهي أيضاً تشمل حالتَي العمد والسهو ، فإذن هما متباينتان . ولكن وَرَدَ في موثقة ابن فضال قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في الرجل كان خلف إمام يأتم به فيركع قبل أن يركع الإمام وهو يظن أن الإمام قد ركع ، فلَمّا رآه لم يركع رفع رأسه ثم أعاد الركوع مع الإمام ، أيفسد ذلك عليه صلاته أم تجوز تلك الركعة ؟ فكتب (عليه السلام) : ( تـتم صلاته ولا تفسد صلاته بما صنع )[4] وهي تفيدنا أنّ الإعادة إنما تكون في حال السهو ، لا في حال العمد ، فهي بالتالي تخصِّص موثّقةَ غياث ، فتصير موثّقةُ غياث شاملةً لخصوص حالة العمد ، وبالتالي تصير موثّقة غياث أخصّ دائرةً من دائرة صحيحة ابن يقطين ، فتخصّصها . وقد لخّصتُ كلام السيد الخوئي[5] .

محلّ الشاهد : إنّ النسبة بين موثّقة غياث وصحيحة ابن يقطين كانت نسبةَ التباين ، فصارت موثّقةُ غياث ـ بسبب موثّقة ابن فضّال ـ أخصَّ من صحيحة ابن يقطين ، لأننا حَمَلْنا موثّقةَ غياث ـ بسبب موثّقة ابن فضّال ـ على خصوص صورة العمد ، وبقيت صحيحة ابن يقطين مطلَقَةً بلحاظ العمد والسهو ، فخصّصتها موثّقةُ غياث ، فصارت صحيحةُ ابن يقطين مقتصرةً على حالة السهو .

والنتيجة الفقهيّة صارت هكذا : إذا رفع الرجلُ رأسَه قبل الإمام عمداً فإنه ينفصل ، فلا يعيد ركوعه ، وأمّا إذا رفع رأسَه سهواً أو لاعتقاد الرفع فإنه يبقى على صلاة الجماعة ويعود إلى الركوع . وهذا أحد الأقوال في المسألة ، وفي المسألة خلاف .

المثال الثالث : وَرَدَ في رواية لأبي بصير قال : سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل نسي أن يركع ؟ قال : ( عليه الإعادة ) وهي شاملة لما إذا كان نسيان الركوع قبل الدخول في السجدة الثانية أو بعد الدخول فيها ، وورد في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : ( إذا نسيت شيئاً من الصلاة ، ركوعاً أو سجوداً أو تكبيراً ثم ذَكَرْتَ فاصْنَعِ الذي فاتَك سواء ) وهي أيضاً مطلقةٌ شاملة لما كان قبل الدخول في السجدة الثانية أو بعد الدخول فيها ، فهما إذن متباينان ، لكنْ صحيحةُ ابن سنان مخصَّصة بالنصوص القائلة ببطلان الصلاة فيما لو كان تذكّرُ ترْكِ الركوع بعد الدخول في السجدة الثانية ، فلذلك تُحمَلُ الصحيحةُ على ما لو كان تذكّر الركوع قبل الدخول في السجدة الثانية، أي تصير الصحيحة أضيق دائرة ممّا كانت، فح تصير صحيحةُ ابن سنان أخصّ من رواية أبي بصير فتخصّصها .

محلّ الشاهد هو انقلاب النسبة بين رواية أبي بصير وصحيحة ابن سنان التي كانت التباين ، إلى العموم والخصوص المطلق .

وبالتالي تكون النتيجة الفقهيّة اختصاصَ البطلان بما إذا كان التذكر بعد الدخول في السجدة الثانية . وهذا أيضاً خلاصة كلام السيد الخوئي[6] .


[1] قال مقدِّمُ كتابِ مستند الشيعة : ج1، ص14 : (يُستـفاد من مطاوي الكتاب عِدَّةُ مَبانٍ للمؤلف : منها : انقلاب النسبة فيما كان التعارض بين أكثر من دليلين ...) (إنتهى) . وبناءً على صحّة هذا الكلام يكون أوّل القائلين بهذه النظريّة هو المولَى أحمد بن محمد مهدي النراقي (المتوفَّى سنة 1245 هـ) في كتابه (مستند الشيعة في أحكام الشريعة) .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo