< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الموقفُ الشرعي في حال تعارض الأمارتين
كما في حكم العقل ـ في حال تعارض الأمارتين المتساويتين من جميع الجهات ـ بتساقط كلتا الأمارتين، وإمّا لجهلنا بالموقف اللازم اتّخاذه ـ لأنّ العقلَ لا يدرك كلّ ملاكات الأحكام ـ وإمّا لعدم الفائدة في هكذا بحث . إذَنْ مِن دونِ إتلافٍ للعُمر بلا أيّ فائدة، علينا أن ننظر فيما يفيدنا وهو الموقف الشرعي في ذلك، ومع ذلك نتعرّض قليلاً للحكم العقلي فنقول :
لا شكّ أنّ الحكم الشرعي والعقلي في حال تعارض الأمارتين يختلف باختلاف الحالات :
فإن كانت الأمارتان متساويتين من جميع الجهات فلا شكّ في تساقطهما عقلاً وشرعاً : كما لو وقع تعارض بين ظاهر آيتين، أو بين ظاهر خبرين متواترين، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فإنّ الظهورين يتساقطان عقلاً وشرعاً، لكن هذا مجرّد فرض، ولا وجود له في الخارج، وكما لو تعارضت بيّنتان متساويتان في قضيّة موضوعيّة أو خبران لثقتين متساويان فإنهما تـتساقطان عقلاً وشرعاً، وذلك لعدم شمول أدلّة حجيّة البيّنة لكلتا البيّنتين، وذلك للعلم بكذب إحديهما، وكما لو أمسك شخصان بشيء واحد وكلّ منهما ادّعى مالكيّته، فإنّ أماريّة اليد تسقط عقلاً وشرعاً فيهما لتكاذبهما، ولا يصحّ القول بتساقط أحديهما دون الأخرى، لأنه بلا مرجّح .
وفي هكذا حالة قد نستـفيد من هتين الأمارتين الحجّتين المتعارضتين أمراً ثالثاً، كما لو ورد (غسل الجمعة واجب) و (غسل الجمعة مستحبّ) فإننا نستفيد مِن عِلْمِنا بصِدْقِ أحديهما ـ كما لو كنّا مطمنئنّين بصحّة إحدى الروايتين ولا نحتمل كذبهما جميعاً ـ مطلقَ المطلوبيّةِ، والمطلوبيّةُ تعني عدمَ الحرمة وعدمَ الكراهة وعدم الإباحة . ويعبّر عن (عدم الحرمة وعدم الكراهة وعدم الإباحة) بـ المدلول الثالث و بـ المدلول الإلتزامي، وذلك لأنّ لازمَ انحصار حُكْمِ غُسْلِ الجمعة بالوجوب أو بالحرمة هو عدمُ الأحكام الثلاثة الباقية .
وأمّا إن كانت إحدى الأمارتين أقوى كاشفيّةً من الأخرى فلا شكّ في تقدّم الأقوى كاشفيّةً على الأخرى، كمالو تعارضت البيّنةُ مع أمارة سوق المسلمين، بأن ادّعت البيّنةُ بأنّ هذا اللحم المعيّن غير مذكّى أو أنّ هذا الحيوان الفلاني مات حتف أنفه، أو أنه لم يُذَكَّ بالطريقة الشرعيّة الصحيحة، وأنت تعلم أنّ سوقَ المسلمين أمارةُ التذكيّة، فإنّ البيّنة تـتـقدّم عقلاً وشرعاً على سوق المسلمين، وذلك لوجهين ذكرناهما بالأمس .
ثم هل تتقدّم البيّنةُ على سوق المسلمين بالورود أو بالتخصيص ؟
الجواب : لا شكّ في تقدُّمِ البيّنةِ على سوق المسلمين بالورود، فإنّ حالتنا هذه هي في تقدّم حجّة قويّة على حجّة ضعيفة اُخذ في شرطها عدمُ وجود حجّة أقوى، حيث تُلغي الأمارةُ القويّةُ جريانَ الأمارةِ الضعيفة بإلغاء شرطها، أي كما في تقدّم الأمارة على الأصل العملي تماماً , وكما في تقدّم الإستصحاب على قاعدة الطهارة، لأنه قد اُخذ في شرط قاعدة الطهارة عدم وجود حالة سابقة، وليس الكلام هو في إخراج حُكْمِ موردٍ خاصٍ من تحت حكم العام كما في (أكرِمِ العلماءَ) وجاء مخصّصٌ منفصلٌ يقول (لا تكرمْ فُسّاقَ العلماءِ) فإنه لم يؤخذ في شرط (لا تكرم فُسّاقَ العلماءِ) عدم مجيء عام، بخلاف قاعدة الطهارة، فإنه اُخذ في شرطها عدمُ وجود حالة سابقة، وكما في سوق المسلمين، فإنه اُخذ في حجيّته عدمُ وجود بيّنة مخالفة .
كلمة خارج درس اليوم :
قلنا العام الماضي بأنّ ابن قبة ادّعى عدمَ الإمكان الوقوعي لحجيّة الأمارات وذلك لما تخيّله من ترتّب محال أو باطل على التعبّد بالأمارات والأصول بعد تسليمه بالإمكان الذاتي .
فأقول : تسقط ادّعاءاتُه بـبـيان الأمر في سبب تشريع الأحكام الظاهرية فالمولى تعالى يعلم أنّ بعض الأمارات ستخالف الأحكام الواقعية، ولكنه رغم ذلك شرّعها عند الجهل بالحكم الواقعي ـ أي أعطاها الحجيّة الظاهرية ـ وذلك لغالبية إصابتها للواقع . ودليلُنا على أنّ المولى تعالى أعطى الحجيّةَ لأخبار الثقات لغالبيّة إصابتها للواقع آيةُ النبأ فهي تفيدنا بالمفهوم ـ واللهُ العالم ـ ... إن جاءكم عادلٌ بنبأ فلا يجب عليكم التبيّنُ ولا التأكّد والتثبّت، وليس ذلك إلاّ لأنه يوافق الواقع غالباً، ويصيبه غالباً، ولعلّه لذلك اعتبره المولى تعالى بياناً وعِلماً شرعاً، وليس جهالة، وإن عملتم بخبر الثقة وأخطأتم فلن تندموا لأنكم عملتم بطريق صحيح عقلائيّاً، وليس باليد حيلةٌ ـ أحياناً ـ أكثر من اللجوء إلى الثقة . وثانياً : إنك تلاحظ من خلال الروايات أنّ المعصوم كان دائماً يوجّه شيعتَه ـ في حال تعارض الروايات ـ إلى الأقوى سنداً، أي الأقرب إلى الواقع، فإنه هو الذي يصيب الواقعَ غالباً، لاحِظْ مثلاً مقبولةَ عمر بن حنظلة المشهورة قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما .. إلى أن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرَين في حقهما واختلف فيهما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم ؟ فقال : ( الحكمُ ما حكم به أعدلُهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يُلتفَت إلى ما يَحكم به الآخرُ ـ وكأنه يريد أن يقول بأنّ الأعدل والأفقه والأصدق والأورع هو الأقرب إلى الواقع، بخلاف الأقلّ جودةً ـ ) قال فقلت : فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال فقال : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمَعَ عليه لا ريبَ فيه ـ أي فإنّ المجمعَ عليه هو الصحيح، أي هو الذي يصيب الواقعَ دائماً، وكذا بقيّة الرواية ـ وإنما الأمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله)ص) : (حلالٌ بيِّنٌ، وحرامٌ بيِّنٌ، وشبُهاتٌ بين ذلك، فمَن ترَكَ الشبهاتِ نجا من المحرمات، ومَن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يَعلم ..)[1]، وقريب منه قوله (عليه السلام) ) دَعُوا ما وافق القومَ فإنّ الرُّشْدَ في خلافهم ـ أي في حال تعارضِ خبرين لثقتين خُذْ بما خالف العامّةَ ... وليس ذلك إلاّ لأن أخبار الثقات المخالفة للعامّة، دائماً أو غالباً تصيب الواقعَ )[2] وكحديث الصادق السالف الذكر المتعدّد الصيغ من قبيل ما رواه جابر(بن يزيد الجعفي) عن أبي جعفر (عليه السلام) (لحديث واحد تأخذه عن صادق خير لك من الدنيا وما فيها ـ وليس ذلك إلاّ لأنّ نوع خبر الصادق يصيب الواقع غالباً، ومِثْلُه ما بَعدَه )[3] وبنصّ آخر، بنفس السند : قال( سارعوا في طلب العلم، فوالذي نفسي بيده لحديثٌ واحد تأخذه عن صادق خيرٌ من الدنيا وما حملت من ذهب وفضة، وذلك أن الله يقول [ ما آتاكُمُ الرسولُ فَخُذُوْهُ، وما نَهاكُمْ عنه فانْتَهُوا ] )[4]، فترى الشارعَ المقدّسَ يريد ـ بوضوح ـ إعطاءَ الحجيّةِ لأقوى طريقٍ سنداً وكاشفيّةً عن الواقع، وليس ذلك إلاّ لأنه يصيب الواقعَ غالباً .
لكنْ أغلبيةُ إصابتِها للواقع هي بلحاظ مجموع الأخبار، لا بلحاظ كلّ خبر خبر، أي أنّ المولى تعالى أعطى الحجيّةَ لأخبار الثقات لأنّ أغلبها صحيح ويوافق الواقعَ حتى وإن خالف بعضُها الواقعَ، فإنّ المفسدة القليلة والخسارة الضئيلة لا يُهتمّ بها مع تحصيل ربح كثير ومع موافقةٍ غالبةٍ للواقع . وبتعبير آخر : إنما أعطى اللهُ تعالى الحجيّةَ لخبر الثقة لأنه نوعاً وغالباً يصيب الواقع، وليس المراد هو الظنّ بإصابة كلّ خبر ثقة ـ أي بنحو الإستغراق ـ للواقع، وإلاّ لاشترطنا ح في حجيّة خبر الثقة الظنَّ بإصابته للواقع، وهذا غير صحيح، فإنّ أدلّة حجيّة خبر الثقة لم تَشترط ذلك أصلاً ... إلى آخر ما ذكرناه في العام الماضي .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo