< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/22

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : التخصيص والتخصّص
قلنا أمس إنّ إخراجَ المخصِّص لبعض أفراد العام من تحت حكم العام يكون دائماً لسبب مهم قد يغلب موضوع العام في الملاك، وذلك لأنّ العام حينما كان السببَ في جعْلِ الحكم، وكان المخصِّصُ سبباً في رفْعِ الحكمِ، إذن كان هناك مقتضي ـ في مرحلة الملاك ـ يقتضي رفْعَ حُكْمِ العام . هذا المقتضي الذي اقتضى التخصيصَ هو ذو قوى مختلفة ومتغايرة :
فقد تكون المفسدةُ في ملاك الخاص أعظمَ بكثير مِن مصلحة إكرامه، فتكون النتيجةُ سبباً في تشريع تحريم إكرامه، كما إذا كان العالِمُ يرتكب الكبائرَ مثلاً فيحرّم ح المولى إكرامَه، وكما في أدلّة (لا ضَرَرَ)، فإنّ غُسْلَ الجنابةِ ذو مصلحةٍ إلزاميّة، لكن ـ في حال الضرر المعتدّ به عقلائيّاً ـ يوجد مفسدة أعظم بكثير من هذه المصلحة اقتضت تحريم الغُسْلِ، لذلك كانت (لا ضرر) مخصّصة للأحكام الواقعيّة الأوّليّة .
وقد تكون المفسدةُ في ملاك الخاص أكبرَ مِن مصلحة إكرامه، لكنْ لا تَصِلُ المفسدةُ إلى حدّ التحريم، فح تقتضي نتيجةُ الكسر والإنكسار الحكمَ بكراهة إكرامه . ولنمثّلْ لذلك بالمثال التالي : ذَكَرَ الفقهاءُ في العروة الوثقى بأنه يستحبّ الإسباغُ في الوضو[1]، مثل ما رواه محمد بن الفضل ـ فيما كتبه الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى ابن يقطين ـ ( إغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغاً )، لكن إذا زاد على الإسباغ فهو مكروه، لأنه إسراف، إذن فلتكن هذه الحالةُ مِن هذا الباب، لأنّ المصلحة في الإسباغ كبيرة، لكنْ إن زاد صَرْفُ الماءِ على مقدار الإسباغ كانت المفسدة في الإسراف أكبر، لذلك قال علماؤنا بكراهية الإسراف في ماء الوضوء .
وقد تكون المفسدة في ملاك الخاص قليلة بحيث ترفع الوجوبَ فقط، لكنْ نتيجةُ الكسرِ والإنكسار ـ في مرحلة الملاكات ـ وغلبةِ المصلحة على المفسدة قليلاً اقتضَى الأمرُ الحكمَ باستحباب إكرامه .
وقد تكون المفسدة في الخاصّ مساوية للمصلحة في إكرامه، كما لو كان العالِمُ مرتكباً للصغائر مثلاً، فيقول المولى (أكرم العلماءَ إلاّ مرتكبي الصغائر فلا يجب إكرامهم) .
وقد يسأل شخصٌ الإمامَ فيقول ( إنّي أفطرت في شهر رمضان عالماً عامداً فما كفّارتي ؟) فأجابه الإمام بأنّ كفّارته عتقُ رقبة، ثم سأله شخصٌ آخر نفسَ السؤال في مجلس آخر فأجابه الإمام مثلاً "أعتق رقبةً مؤمنةً" فإنّ علينا أن نحمل قيد "مؤمنة" ـ في الجواب الثاني ـ على الإستحباب قطعاً، وذلك لأنّ السؤال الأوّل كان في مقام البيان والعمل .
أمّا الخروج التخصُّصي فهو كما لو أخرج الدليلُ شيئاً من تحت العام إخراجاً موضوعيّاً، بمعنى أنه بيّن أنّ الخارج هو ليس من موضوع العامّ، وذلك كما في قوله تعالى[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)] [2] فإنّ استثناءَ إبليس هنا هو استثناءٌ منقطع ـ لا متّصل ـ وذلك لأنّ إبليسَ خارجٌ موضوعاً وتكويناً ـ لا تعبّداً ـ من تحت جنس الملائكة، هذا الخروج إسمُه خروجٌ تخصّصي أي موضوعي .

[ الموقفُ الشرعي في حال تعارض الأمارتين ]
لا شكّ في حكم العقل ـ في حال تعارض الأمارتين ـ بتساقط كلتا الأمارتين في الكثير من حالات التعارض بينهما، إلاّ أننا لا نبحث في حكم العقل في ذلك لعدم الفائدة في هكذا بحث بعد وجود ترجيحات شرعيّة توجب ترجيحَ إحديهما أو إسقاطَهما . إذَنْ مِن دونِ إتلافٍ للعُمر بلا أيّ فائدة علينا أن ننظر فيما يفيدنا وهو الموقف الشرعي في ذلك فنقول :
لا شكّ أنّ في المسألة تفصيلاً، فإن كانت الأمارتان متساويتين من جميع الجهات فلا شكّ في تساقطهما عقلاً وشرعاً : كما لو وقع تعارض بين ظاهر آيتين، أو بين ظاهر خبرين متواترين، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، فإنّ الظهورين يتساقطان عقلاً وشرعاً، لكن هذا مجرّد فرض، ولا وجود له في الخارج، وكما لو تعارضت بيّنتان متساويتان في قضيّة موضوعيّة أو خبران لثقتين متساويان فإنهما تـتساقطان عقلاً وشرعاً، وذلك لعدم شمول أدلّة حجيّة البيّنة لكلتا البيّنتين، وذلك للعلم بكذب إحديهما، وكما لو أمسك شخصان بشيء واحد وكلّ منهما ادّعى مالكيّته، فإنّ أماريّة اليد تسقط عقلاً وشرعاً فيهما لتكاذبهما، ولا يصحّ القول بتساقط أحديهما دون الأخرى، لأنه بلا مرجّح .

وأمّا لو كانت إحدى الأمارتين أقوى كاشفيّةً من الأخرى فلا شكّ في تقدّم الأقوى كاشفيّة على الأخرى، كمالو تعارضت البيّنةُ مع أمارة سوق المسلمين، فإنّ البيّنة تتقدّم عقلاً وشرعاً، وذلك لوجهين :
الأوّل : إنّ البيِّنَة أقوى كاشفيّةً من أمارة سوق المسلمين، بدليل أنّ الشارع المقدّس اعتبرها ميزاناً للقضاء على أماريّة يد ذي اليد، مع أن اليد من أقوى الأمارات، فإذا كانت البيّنةُ تقدم على اليد مع أنّ اليد من الأمارات الظنيّة القوية لأنها أمارة شخصيّة واضحة، فإنّ البيّنةَ لا محالة تقدَّمُ على السوق بطريق أولى لأنّ أماريّة السوق عامّة إجماليّة بل قد لا تورث حتى الظنّ في الكثير من الأحيان .
الثانية : إنّ عمدة الوجه في حجية السوق هي السيرة العملية بين المتدينين، وهذه السيرة غير قائمة فيما لو قامت البيِّنَة العادلة على عدم التذكية .
هذا مضافاً إلى أنه على فرض التعارضِ النتيجةُ هو التساقط، فيكون المرجع استصحابَ عدم التذكية، فنتيجة التساقط وتقديم البينة واحدة .
مثال آخر : لو قامت بيِّنَةٌ عند الظانّ في عدد الركعات على خلاف ظنِّه ـ كما لو ظنّ المصلّي بأنه في الركعة الثالثة، وقالت البيّنةُ بأنه في الركعة الرابعة ـ فهل عليه أن يعمل على طبق البيِّنَة أو يجب عليه العملُ على طبق ظنِّه هو ـ طبعاً بعد الفراغ عن حجية الظن في عدد الركعات ـ، أو لا هذا ولا ذاك ؟
الظاهر من أقوائيّة البيّنة على الظنّ الشخصي بوضوح هو لزوم القول بالرجوع إلى البيّنة العادلة القائلة بأنه في الركعة الفلانيّة، فإنّ خبر الثقة الواحد في الموضوعات حجّة وهو أقوى كاشفيّةً من ظنّ المصلّي، فكيف إذا كان المخبِرُ شخصين عادلين يجزمان بأنه في الركعة الفلانيّة ؟!



[1] وهو غَسْلُ الأعضاءِ بشكل جيّد ومِن دون تباخل في الغَسل، ومَن غَسَلَ وجهَه ويديه مرّتين مرّتين فقد أسبغ وضوءَه.، وكان رسول الله (ص) يتوضّأ ـ مع مستحبّات الوضوء ـ بمُدّ من الماء وهو يساوي 737 غراماً.
[2] سورة الحجر . .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo