< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : أهمّ أبحاث الإستصحاب
الأصل المـُثْبِت
وهو من أهمّ أبحاث الإستصحاب، بل من أهمّ أبحاث علم الاُصول، لأنه يتوقّف على فهمه الكثيرُ من الإستنباطات ولدقّة مطالبه ...
وقد ذكرنا في الدروس السابقة أنّ المشكلة هي في وجود مانعَين آخرَين يمنعانِ مِن جريان الأصل المثبت وهما : (تغاير المستصحَبِ مع موضوع الحكم) والثاني : (إستبعادُ اعتبار الآثار العقليّة حجّة شرعاً في الأصول العمليّة ممّا يصرف أدلّةَ الإستصحاب عن الحجيّة في اللوازم العقليّة)، فإنّ المولى تعالى إنما اعتبر اللوازمَ العقليّة لمؤدّى الأمارات حجّة لأغلبيّة موافقة الأمارات للواقع، ولأنّ الإخبار عن شيء ـ كقطع رأس زيد ـ إخبارٌ عرفاً عن لوازمه أيضاً ـ كموت زيد بالقطع ـ، فحينما يعتبر الشارعُ المقدّس الأمارةَ حجّةً فإنّ العرف يفهم من ذلك أنها حجّة فيما تكشف عنه، وهي تكشف عن مدلولَيها المطابقي والإلتزامي بنفس القوّة، وحينما ينزّل المولى تعالى مؤدّى الأمارةِ منزلةَ الواقع وينزّل الظنّ الحاصلَ منها منزلةَ العِلم فإنّ العرف يفهم من ذلك تنزيلَ لوازمِها العرفيّةِ والعقليّة أيضاً منزلةَ الواقعِ ... وقد ذكرنا آيةَ النبأ والرواياتِ الصحيحةَ الدالّةَ على ذلك سابقاً بتفصيل، وليس الأمر في الإستصحاب كذلك، فإنه من المستبعَد أن يوافق مؤدّى الإستصحابِ الواقعَ غالباً كما كان الحال في الأمارات، كما أنّ الإستصحابَ تعبّد محض، لا كاشفيّة فيه كي يقال بأنّ التعبّد بالمستصحَب ـ كالتعبّد بطهارة اللحم المطروح في الصحراء ـ تعبّدٌ بلوازمه ـ ككون الحيوان مذكّى ـ إذن فيجوز الأكل منه !! وكالتعبّد ببقاء حياة زيد فإنه لا يُثْبِتُ ـ عقلائيّاً ـ نباتَ لحيتِه ولا شيبَها، وإنما يترتّب على بقائه حيّاً بقاءُ الزوجيّة وحرمةُ تقسيم ماله، ولذلك يَستبعَدُ الناسُ تشريعَ حجيّة الإستصحاب في لوازمه العقليّة ممّا يصرف أدلّةَ الإستصحاب عن الحجيّة في اللوازم العقليّة، ويكفينا أن نقول بأننا لا نعلم بحجيّة اللوازم العقليّة للمستصحَب، والأصل عدم الحجيّة[1].
مثالان في الواسطة الخـفيّة :
الأوّل : إذا لامَسَ ثوبٌ رطِبٌ متنجّسٌ ثوباً طاهراً جافّاً، والثوبُ المتنجّس كان رطباً سابقاً رطوبةً مسرية، لكن عند الملامسة كانت رطوبته قد قلّتْ بحيث شككنا في انتقال النجاسة إلى الثوب الطاهر، فهنا قال بعض علمائنا ببقاء الرطوبة المسرية في الثوب المتنجّس لإثبات نجاسة الثوب الطاهر، قائلين بأنّ الحكم بنجاسة الثوب الطاهر متوقّف على حصول (السريان) من طرف إلى طرف آخر بنحو القطع، فـ (السريانُ) ـ أي انتقال النجاسة من طرف إلى آخر ـ مطلوبٌ بنحو القطع، ونحن لو استصحبنا بقاء الرطوبة المسرية ـ طبعاً بعد المماسّة الوجدانيّة بين الثوبين ـ فسوف نُـثْبِتُ (وجود السراية)، وهذا أثر عقلي لا شرعي، ولا يلاحظ الإنسانُ عادةً أنّ (إثباتَ وجودِ السراية) هو واسطة في إثبات النجاسة إلى الطرف الآخر، ويظنّون أنّ وجود رطوبة مسرية هي عين سريان النجاسة، فلذلك قالوا (السريانُ واسطة خفيّة)، ولذلك استـثنى الشيخ الأنصاري هكذا مورد من موارد الأصل المثبت الغير حجّة فقال : ( إنه إذا كانت الواسطة في غاية الخفاء بحيث يُعَدُّ أثرُها أثراً لنفس المستصحَب عرفاً ـ أي بلا واسطة ـ كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألْقَتْهُ الريحُ على أرض متنجسة جافّة، فإنّ نجاسة الثوب ليست أثراً بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض، بل هي أثر لسراية النجاسة من المتنجس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة، والسرايةُ واسطةٌ عقلية بين المستصحَب ـ وهي الرطوبة المسرية ـ وبين النجاسة ـ التي هي أثر السراية ـ، لكنه يترتب مع ذلك نجاستُه باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجسة بدعوى خفاء الواسطة ـ وهي السراية ـ بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض، لا من آثار السراية، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفاً فلا محالة يشمله دليل الإستصحاب، لاتباع نظر العرف في مقام الإستظهار من الخطابات)(إنتهى) [2].
أقول : عرفتَ ممّا سبق أنّ استصحاب وجودِ رطوبة مسرية لو أثبت السرايةَ لكنما يثبتها بالتعبّد الصرف، وموضوعُ النجاسة هو (السراية بنحو القطع) لا بالتعبّد الصرف، وهذا ما يفهمه العرف والعقلاءُ من الأدلّة الشرعيّة، وأنت باستصحاب بقاء الرطوبة المسرية لم تُثْبِتِ النجاسةَ في الطرف الآخر بنحو القطع الوجداني، وإنما أثبتَّ السرايةَ بالتعبّد المحض، ولا دليل على كفايته في الشرع، وهذا هو المانع الأوّل السالفُ الذكر، ومن هنا تعلم أنّ القضيّة ليس مرجعها إلى العرف والمسامحات العرفيّة كي يقال بجريان الأصل المثبت فيما لو كانت الواسطة خفيّة، وإنما يُرجَعُ إلى العرف في فهم المعاني، لا فيما نحن فيه مِن تغايرِ المستصحَب مع موضوع الحكم، ولذلك نقول : حتى في حالة الواسطة الخفيّة لا يجري استصحاب الرطوبة المسرية، وذلك لهذا المانع المذكور، والنتيجة هي أننا يجب أن نستصحب بقاءَ طهارة الثوب الجافّ الذي كان طاهراً .
نعم، في موارد خفاء الواسطة لا يجري المانع الثاني، لأنّ العرف لا يدركون هكذا وسائط خفيّة، فهم يعتقدون أنّ النجاسة وليدةُ الرطوبة المسرية مع الملاقاة الوجدانية، لذلك فقد يستصحب بعض المتـفقّهين الرطوبةَ المسرية ليُثْبِتَ النجاسةَ ! مع أنّ الصحيح هو أنّه إنما يحكم بالنجاسة إذا علمنا بسراية النجاسة ـ بنحو القطع ـ ولا دليل على التعبّد بالنجاسة باستصحاب الرطوبة المسرية، ولذلك نقول لا يجري المانعُ الثاني، لأنّ هكذا اُمور لا يدركها العرف .
والمثال الآخر ـ في الواسطة الخفيّة أيضاً ـ : لو لم يكن على أعضاء الوضوء حاجب سابقاً، لكننا شككنا في طروء حاجب عليها، ورغم ذلك لم ننظر وتوضّأنا مستصحِبين عدمَ طروء الحاجب !! هذا الإستصحابُ خطأ، لأنّ الإستصحاب هنا إنما يراد منه إثباتُ غسل البشرة أي وصولِ الماء إلى البشرة ـ طبعاً مع الغَسل بالماء ـ، (إثباتُ عدم الحاجبِ) هو أثر عقلي وجودي، لا شرعي ـ أي لا وضعي ولا تكليفي ـ فهو لا يَثْبُتُ بالإستصحاب، والأثرُ الشرعي هنا هو وجوب غسل البشرة، ولذلك كان الجاري هنا هو استصحاب عدم وصول الماء إلى البشرة .
والسرّ في عدم جريان الإستصحاب في هكذا حالات هو أنّ المستصحَب فيها شيءٌ، وموضوعُ الأثرِ الشرعي شيءٌ آخر، فالمستصحَب ـ في المثال الثالث مثلاً ـ هو بقاء حياة زيد تعبّداً صرفاً، مع أنّ المطلوب شرعاً وفي النذر هو إثبات وجوده بنحو القطع الوجداني . ومن الطبيعي مع عدم حصول موضوع الحكم أن لا يترتّب الحكمُ الشرعي، حتى ولو كانت الواسطة العقليّة خفيّةً، لأنّ المشكلة هي في عدم تحقّق موضوع الحكم الشرعي، فلو تخيّل العرفُ أنّ موضوع الحكم الشرعي قد تحقّق، فهذا ليس مبرّراً لنا ـ نحن الذين نعلم بعدم تحقّق موضوع الحكم حقيقةً ـ أن نجري الإستصحاب .
نعم ثَبَتَ في الشرع قيامُ الأمارات مقام القطع الوجداني كما مرّ معنا ذلك في أبحاث سابقة، فلو جاءت بيّنةٌ عادلة وادّعت أنهم رأوا الولدَ حيّاً لوجب على أبـيه أن يذبح شاةً .

بيان الإستصحاب الصحيح في أمثلة : في نفس مثال انهدام الحائط إلى جهة زيد الذي كان نائماً تحته، وكذلك في مثال مَن أطلق رَصاصةً على زيد وهرب ولم يدرِ هل أصابت الرصاصةُ زيداً أم لا ... يَستصحِب الفقيهُ بقاءَ حياة زيد لأنه استصحاب موضوعي يترتّب عليه وجوب الحكم ببقاء الزوجيّة وحرمة تقسيم ماله . ولا يوجد مانع يمنع من هذا الإستصحاب، فإنه يترتّب عليه أثر شرعي مباشرةً ومن دون توسّط آثار تكوينيّة .
مثال ثالث : إذا كان الماءُ في الخزّان فوق السطح أكثر من كرّ، واستعملنا منه حتى شككنا في بقائه على الكريّة، ثم فتحنا الحنفيّةَ المتّصلة بالخزّان فوق طشت ماءٍ في المنزل ـ طبعاً الموجود تحت السطح ـ وغسلنا فيه ثوباً متنجّساً، فقد تقول "إنّ استصحابنا لكريّة ماء الخزّان يُثْبِتُ (ملاقاةَ الثوب للماء الكرّ ) وهو أثر عقلي، فلا ينبغي إذن إستصحابُ الكريّة"، ولكنه توهّم باطل، فإنّ موضوع الحكم الشرعي ليس هو (ملاقاة الثوب للماء الكرّ) ليُنفَى هذا الأثرُ العقلي، وإنما المنظور إليه هو ( كون الماء كرّاً ولو تعبّداً ) وهذا يَثبت بالإستصحاب لأنه أثر شرعي مباشر، كالطهارة تماماً، فكما نستصحب الطهارة نستصحب الكريّة، فالكريّةُ والطهارة كلاهما أثران شرعيّان، وعليه فإنِ استصحبنا كريّةَ الماء فسوف يكون الماء معتصماً لا محالة، والإعتصام هو أثر شرعي وضعي .
مسألةٌ : قد تكون الحالة السابقة للمائع هي الخمريّة، وخلالَ عمليّةِ التخليلِ ـ مثلاً ـ شككنا في بقائه على الخمريّة، فإذا أردنا استصحابَ الخمريّة لإثبات أنه خمر ـ فهو إذن حرام ـ فهذا الإستصحاب يكون أصلاً مثبتاً، لأنك أردت بالإستصحاب إثباتَ أنه خمر، أي أنك أردت إثبات موضوع الحكم، والإستصحاب لا يثبت، وإنما ينفي، فما الجواب ؟
الجواب : نحن في الواقع نـُثْبِتُ بقاءَ موضوع الحكم، وهذا ليس أصلاً مثبتاً، وهذا كما يستصحبون بقاءَ كريّةِ الماء في الخزّان، بل هذا أمْرٌ مسَلَّمٌ عند المسلمين جميعاً .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo