< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/03/06

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الأصل المـُثْبِت
الأصل المـُثْبِت
لا يزال الكلام في الأصل المثبت وقد كان السؤالُ هو : هل تشمل أدلّةُ الإستصحاب صورةَ ما لو ترتّبت الآثارُ الشرعيّة بواسطةٍ عقليّة أم لا ؟
الجواب : قد تقول إنه يمكن القولُ بشمول ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ ) للآثار الشرعية المترتّبة على الآثار العقليّة، فلا يوجد مانع عقلي من الشمول، بدليل أنه لم يكن هناك مانع من التعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على الآثار العقليّة في الأمارات، والتعبّد فيهما واحد . وبعد هذا تعرفُ خطأَ مقولةِ الشيخ الأنصاري حينما قال : ( ووجوبُ ترتيبِ الآثار من جانب الشارع لا يُعقل إلا في الآثار الشرعية، لأنها هي القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقلية والعادية، فالمعقولُ مِن حُكْمِ الشارعِ بحياة زيد وإيجابُه ترتيبَ آثارِ الحياة في زمان الشك هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرف في ماله، لا حكمه بنُمُوِّه ونباتِ لحيته، لأنّ هذه اللوازمَ غيرُ قابلة لجعل الشارع )(إنتهى)[1]، فكيف يُعقَلُ التعبّدُ باللوازم العقليّة للأمارات دون الأصول ؟! أليس في كليهما تعبّدٌ ؟!
وكذلك لا مانع ظهوري من شمول أدلّة الإستصحاب لما فيه أثر شرعي مترتّب على أثر عقلي، فيكفي أن يكون طبيعي الأثر شرعياً، أي يكفي أن يكون الأثر الأخير شرعيّاً، ويكفينا إطلاق أدلّة الإستصحاب دليلاً على ما نقول، ولا دليل على وجوب الإقتصار على خصوص الآثار الشرعيّة المباشرة .
فأقول : ما ذُكِر صحيحٌ، فالمقتضي لجريان الأصل المثبت موجود، والمانع العقلي مفقود، ولكن المشكلة هي في وجود مانعَين آخرَين يمنعانِ مِن جريان الأصل المثبت وهما : (تغاير المستصحَبِ مع موضوع الحكم) والثاني : (إستبعادُ اعتبار الآثار العقليّة حجّة شرعاً في الأصول العمليّة ممّا يصرف أدلّةَ الإستصحاب عن الحجيّة في اللوازم العقليّة)، فإنّ المولى تعالى إنما اعتبر اللوازمَ العقليّة لمؤدّى الأمارات حجّة لأغلبيّة موافقتها للواقع، ولأنّ الإخبار عن شيء ـ كقطع زيد نصفين ـ إخبارٌ عرفاً عن لوازمه أيضاً ـ كموت زيد بالقطع ـ، وليس الأمر في الإستصحاب كذلك، فإنه من المستبعَد أن يوافق مؤدّى الإستصحابِ الواقعَ غالباً كما كان الحال في الأمارات، كما أنّ الإستصحابَ تعبّد محض، لا كاشفيّة فيه كي يقال بأنّ التعبّد بالمستصحَب ـ كالتعبّد بطهارة اللحم المطروح في الصحراء ـ تعبّدٌ بلوازمه ـ ككون الحيوان مذكّى ـ إذن فيجوز الأكل منه !! وكالتعبّد ببقاء حياة زيد فإنه لا يُثْبِتُ ـ عقلائيّاً ـ نباتَ لحيتِه ولا شيبَها، وإنما يترتّب على بقائه حيّاً بقاءُ الزوجيّة وحرمةُ تقسيم ماله، ولذلك يَستبعَدُ الناسُ تشريعَ حجيّة الإستصحاب في لوازمه العقليّة ممّا يصرف أدلّةَ الإستصحاب عن الحجيّة في اللوازم العقليّة .
بيانُ كلا المانعَين : قد يفهم الفقيهُ من بعض الشروط الموجودة في موضوعات الأحكام أنها مطلوبة بنحو القطع، وقد يفهم منها أنها مطلوبة بنحو التعبّد الصرف، ومحلّ الأصل المثبت هو النحو الأوّل فقط .
بـيان النحو الأوّل في المثال التالي : لو وجدنا لحماً مطروحاً في أرضٍ فيها مسلمون وكفّار، ولا يَغلب فيها المسلمون عدداً على الكفّار، ففي هكذا حالة لا يمكن لنا أن نُجريَ أصالةَ التذكية في هذا اللحم، ولكن يمكن لنا أن نُجريَ أصالةَ الطهارة بلا شكّ، لكنْ أصالةُ الطهارة هذه لا تُثْبِتُ التذكيةَ بلا شكّ ولا خلاف، لذلك لا يجوز أكله بالإجماع، وذلك لأصالة عدم التذكية . وقد ذكرنا هذا المثالَ هنا ـ مع أننا لم نذكر الإستصحاب فيه ـ لأكثرَ من سبب، من الأسباب هو أنّه قد يَتوهّم بعضُهم أنه تجري هنا قاعدةُ استصحاب طهارة هذا اللحم قبل الذبح !! لكنه كلام باطل، وذلك لأنّ الشبهة حكميّة، إذن فلا يجري الإستصحاب، كما لا يصحّ الإستصحاب الموضوعي أيضاً ـ أي استصحاب طهارة اللحم ـ لأننا يجب أن ننظر إلى العلّة ـ أي إلى مرحلة الجعل ـ لا إلى المعلول ـ أي لا إلى الحكم بالطهارة ـ وهذا الحيوان بعد الذبح قد تغيّرت حالته السابقة، فإمّا أنه ذُكّيَ أو لا، والأصلُ عدم التذكية، فيجب أن نسأل المعصومَ عن حكم هكذا حالة، ولا ينبغي أن نـقول "نبني على بقاء الحالة السابقة وهي الطهارة، إن شاء الله هو ذكّي" !! فهذه المسألة أشبهُ شيءٍ بموت المرجع ونقاء الحائض، وهي حالة ما لو تغيّرت الحالة السابقة، ولذلك يجب أن نتمسّك بأصالة الطهارة، لا بإستصحابها .
مثال آخر : أنت تعلم أنه لو تنجّست الأرض فإنها تطهر بشروق الشمس عليها حتى تجفّفَ الشمسُ النجاسةَ الرطبةَ، وذلك لروايات مستفيضة في ذلك من قبيل ما رواه في الفقيه بإسناده ـ الصحيح ـ عن زرارة قال : سألت أبا جعفر tعن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلّى فيه ؟ فقال t: ( إذا جفّفته الشمسُ فصلِّ عليه، فهو طاهر )[2] صحيحة السند، فلو رأى الشخص أنّ الشمس مشرقةٌ على النجاسة الرطبة ثم ذهب ونام واستيقظ بعد ساعة ورأى البول قد جفّ، لكنه احتمل أو ظنّ أن الغيوم قد أظلّت الشمسَ ِأثناء نومِه بحيث كان جفافُ النجاسةِ مستنداً إلى الريح لا إلى الشمس، ففي هكذا حالة لو أردنا الإستصحابَ لكان المستصحَبُ هو (عدم مجيء الغيوم وعدمُ تظليلِها للشمس)، ليَثْبُتَ بذلك (بقاءُ شروقِ الشمس على النجاسة تعبّداً) ـ وهو لازمٌ عقلي ـ إذن (فقد جفّفتِ الشمسُ النجاسةَ تعبّداً) ـ وهذا أيضاً لازمٌ عقلي ـ إذن طَهُرَ السطحُ، مع أنّ موضوع التطهير هو (شروق الشمس على النجاسة حتى تجفّفها حقيقةً وواقعاً) لا تعبّداً، وهكذا يفهم الناس من كلّ الأدلّة، فتغاير المستصحَبُ مع موضوع الحكم، ولذلك لا يفيدنا الإستصحابُ هنا في الحكم بطهارة الأرض، ولذلك يجب استصحاب بقاء نجاسة الأرض، وهو استصحاب موضوعي.
مثال آخر وهو في الواسطة الخـفيّة :
الأوّل : إذا لامَسَ ثوبٌ رطِبٌ متنجّسٌ ثوباً طاهراً جافّاً، والثوبُ المتنجّس كان رطباً سابقاً رطوبةً مسرية، لكن عند الملامسة كانت رطوبته قد قلّتْ بحيث شككنا في انتقال النجاسة إلى الثوب الطاهر، فهنا قال بعض علمائنا ببقاء الرطوبة المسرية في الثوب المتنجّس لإثبات نجاسة الثوب الطاهر، قائلين بأنّ الحكم بنجاسة الثوب الطاهر متوقّف على حصول (السريان) من طرف إلى طرف آخر بنحو القطع، فـ (السريانُ) ـ أي انتقال النجاسة من طرف إلى آخر ـ مطلوبٌ بنحو القطع، ونحن لو استصحبنا بقاء الرطوبة المسرية ـ طبعاً بعد المماسّة الوجدانيّة بين الثوبين ـ فسوف نُـثْبِتُ (وجود السراية)، وهذا أثر عقلي لا شرعي، ولا يلاحظ الإنسانُ عادةً أنّ (إثباتَ وجودِ السراية) هو واسطة في إثبات النجاسة إلى الطرف الآخر، ويظنّون أنّ وجود رطوبة مسرية هي عين سريان النجاسة، فلذلك قالوا (السريانُ واسطة خفيّة)، ولذلك استـثنى الشيخ الأنصاري هكذا مورد من موارد الأصل المثبت الغير حجّة فقال : ( إنه إذا كانت الواسطة في غاية الخفاء بحيث يُعَدُّ أثرُها أثراً لنفس المستصحَب عرفاً ـ أي بلا واسطة ـ كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألْقَتْهُ الريحُ على أرض متنجسة جافّة، فإنّ نجاسة الثوب ليست أثراً بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض، بل هي أثر لسراية النجاسة من المتنجس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة، والسرايةُ واسطةٌ عقلية بين المستصحَب ـ وهي الرطوبة المسرية ـ وبين النجاسة ـ التي هي أثر السراية ـ، لكنه يترتب مع ذلك نجاستُه باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجسة بدعوى خفاء الواسطة ـ وهي السراية ـ بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض، لا من آثار السراية، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفاً فلا محالة يشمله دليل الإستصحاب، لاتباع نظر العرف في مقام الإستظهار من الخطابات)(إنتهى)[3].
أقول : عرفتَ ممّا سبق أنّ استصحاب وجودِ رطوبة مسرية لو أثبت السرايةَ لكنما يثبتها بالتعبّد الصرف، وموضوعُ النجاسة هو (السراية بنحو القطع) لا بالتعبّد الصرف، وهذا ما يفهمه العرف والعقلاءُ من الأدلّة الشرعيّة، وأنت باستصحاب بقاء الرطوبة المسرية لم تُثْبِتِ النجاسةَ في الطرف الآخر بنحو القطع الوجداني، وإنما أثبتَّ السرايةَ بالتعبّد المحض، ولا دليل على كفايته في الشرع، وهذا هو المانع الأوّل السالفُ الذكر، ومن هنا تعلم أنّ القضيّة ليس مرجعها إلى العرف والمسامحات العرفيّة كي يقال بجريان الأصل المثبت فيما لو كانت الواسطة خفيّة، وإنما يُرجَعُ إلى العرف في فهم المعاني، لا فيما نحن فيه مِن تغايرِ المستصحَب مع موضوع الحكم، ولذلك نقول : حتى في حالة الواسطة الخفيّة لا يجري استصحاب الرطوبة المسرية، وذلك لهذا المانع المذكور، والنتيجة هي أننا يجب أن نستصحب بقاءَ طهارة الثوب الجافّ الذي كان طاهراً .

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo