< قائمة الدروس

بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/02/26

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : إستصحاب الحكمِ المعلّق
الإستصحاب التعليقي
وأمثلتُه المشهورة : إن كانت القضيّةُ الشرعيّة هكذا "إذا غلى العصيرُ العنبي فإنه يحرم" ثم جفّ العنب ويبس حتى صار زبيباً، ثم غليناه، فهل تبقى هذه القضيّةُ الشرطية بلحاظ الزبيب أم لا ؟
إذا غاب أحد العيال قبل ليلة عيد الفطر وشككنا في بقاء حياته، فهل تُستصحَبُ حياتُه لندفع عنه زكاةَ الفطرة أم لا ؟
إذا غاب الوارث عند موت مورّثه بحيث شككنا في حياته عند موت مورّثه، فهل يورّث، أم تعطَى التركةُ لمعلومي الحياة فقط ؟
يشترط في الواهب أن يكون عاقلاً راشداً سالماً، أمّا إن كان مريضاً يحتمل فيه الموت ففيه كلام وتفصيل، فلو باع هذا المريضُ أو وهب أو وقف ثم مات في مرضه هذا وشككنا في صحّة بيعه وهبته، فهل لنا أن نستصحب القضية الشرعية الشرطية السالفة الذكر أم لا ؟
ذهب بعض العلماء إلى القول بجريان الإستصحاب في الأحكام المعلّقة كالشيخ الأنصاري وصاحب الكفاية والمحقّق العراقي وغيرهم، وأنكر صحّتَه البعضُ الآخر من المحقّقين كالمحقّق النائيني والسيد الخوئي وغيرهما . قال سيّدنا الشهيد في التقريرات ج 6 ص 281 : (وقد كان المشهور قبل المحقّق النائيني جريان هذا الإستصحاب، إلاّ أنّ هذا المحقّق الكبير برهن على عدم جريانه، فأصبح المشهور بعده عدم الجريان)(إنتهى) .
وقبل البَدء بالتفصيل ينبغي الجواب أوّلاً باختصار فنقول :
أوّلاً : عرفتَ من الأبحاث السابقة أنّ الإستصحاب لا يَجري في الشبهات الحكميّة، إذن لا يجري استصحاب الحكم المعلّق .
ثانياً : إنه لا شكّ في بقاء الجعل، لأنّ المفروض أننا لا نحتمل النسخَ، بل ليس كلامنا في النسخ، فالركن الثاني مخدوش، فلا يصحّ استصحاب السببيّة .
ثالثاً : إنّ استصحاب بقاء شرط الموضوع ـ كالعِنَبيّة ـ لا يَجري لأنّك إنما تريد أن تُثْبِتَ مِن خلال استصحاب بقاء العنبيّة عنوانَ (عصير العنب) ثم إثباتَ عنوانِ (العصير العنبي المغلي)، هذه العناوين الوجوديّة لا يُثْبِتُها الإستصحابُ، فقد قلنا سابقاً إنّ أدلّة الإستصحاب إنما تفيدنا نَفْيَ عروضِ العوارض فقط، ولا تُفيدنا إثباتَ عناوينَ وجوديّة، وإلاّ لكان أصلاً مثبتاً .
ورابعاً : ليس عندنا حالةٌ موضوعيّة سابقة لنستصحبها لنستفيد منها ما يريدون من إثبات الحرمة للعصير الزبيبي المغلي، فماذا نستصحب ؟!! فقد كان العصير الزبيبي قبل الغليان حلالاً، فإذا أردت الإستصحابَ فإنما يَثبت الحلّيّةُ .
والنتيجة هي أننا يجب أن نرجع في عصير الزبيب المغلي إلى أصالة الحليّة . طبعاً كلامُنا على صعيد علم الاُصول فقط .
شرح المطلب بالترتيب المذكور في المختصر :
أوّلاً : قلنا في الأبحاث السابقة بأنه إذا تغيّر شيءٌ أساسي في الموضوع ـ كما في موت المرجع أو في نقاء الحائض من الحيض ـ لقلنا بأنّ هذه الشبهة حكميّة، فلا يجري الإستصحاب حتماً، لأنّ الأصل ح لزومُ الرجوع إلى العمومات الفوقانية كالبراءة والحليّة، لا بل إن احتملت في مثال العنب تغيّر شيء أساسي فإنه لا يمكن لك استصحاب بقاء نفس الموضوع، وإنما عليك أن ترجع إلى عمومات الحلّيّة، لأننا نشكّ في تحقّق موضوع الحرمة . من هنا تعرف أنّ نظرنا كان ـ دائماً ـ إلى إمكان إثبات وجود الشرط في القضيّة الشرطيّة، وليس إلى استصحاب القضيّة السببيّة، التي هي جعْلٌ، وأنت تعلم أنّ الإستصحاب لا يجري في الجعولات ـ أي في الأحكام ـ لأكثر من سبب، فإنّ الأصل عدم الجعل، وح يكون المرجع هي العمومات الفوقانيّة، كما في موت المرجع، فإننا لا نستصحب بقاء جواز تقليده، وإنما نرجع إلى عموم عدم جواز التقليد، وكما في نقاء الحائض، فإننا لا نستصحب حرمة مقاربتها، وإنما نرجع إلى عموم عدم الحرمة، أو قُلْ لأنّ الأصل جواز مقاربة الزوجة ... وإنما يجري الإستصحابُ في الموضوعات فقط .
وبتوضيح أكثر : أنتم تقولون : نستصحب سببيّة غليان العصير . فأقول : أمّا كبرى (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) فلا شكّ فيها، وأمّا إجراء الإستصحاب بلحاظ عصير الزبيب فليس له حالة سابقة كي تستصحب، بمعنى أننا لا نعلم بأصل جعْلِ حرمة العصير الزبيبي المغلي . إذن لا موضوع للإستصحاب التعليقي أصلاً، إذن علينا أن نستصحب الحلّيّة قبل الغليان بلا معارض .
ثانياً : إستدلّ بعضهم بأنّ القضيّة الشرطية الشرعية كانت ثابتة في العنب، فبعدما جفّ العنب وصار زبيباً نشكّ في بقاء القضيّة الشرطية الشرعيّة بلحاظ عصير الزبيب المغلي، فنستصحب بقاءها !!
وهذا الدليل أوهَى من بيت العنكبوت، فأيّ ربط بين استصحاب قيد في شرط القضيّة الشرطية، وبين استصحاب بقاء نفس القضية الشرطية (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) ؟! فإنّ الكبرى التي هي عبارة عن سببيّة غليان العصير العنبي لتحريمه لا شكّ في بقائها، إذ نحن لا نحتمل النسخ هنا، بل ليس كلامنا في احتمال النسخ، وإنما الشكّ في بقاء شرط موضوع الصغرى ـ الذي هو العنب ـ لا غير .
ثالثاً : قال المحقّق الأشتياني[1] بلزوم البناء على بقاء موضوع الحكم وهو بقاء العِنَبِيّة ـ في المثال الأوّل ـ وذلك لاحتمال عدم دخالة اليبوسة في موضوع الحكم، أي يجب أن نجري الإستصحاب في الموضوع، ما أمكننا ذلك، طبعاً بعد فرض عدم العلم بتغيّر الماهيّة والحقيقة، وإلاّ فلا شكّ في عدم جريان الإستصحاب حينئذ . والأثرُ الشرعي لهذا الإستصحاب الموضوعي هو أننا نطبّق صغرى غليان الزبيب على كبرى (حرمة العصير العنبي إذا غلى) فنخرج بنتيجة واضحة وهي حرمة هذا الزبيب المغلي .
أقول : نعم، لا مانع من استصحاب بقاء العنبية، لكن هذا فيما لو كان الأثر الشرعيّ مترتّباً مباشرةً ومن دون توسّطِ آثارٍ تكوينيّة أو عقليّة، لكن السؤال هو : هل يُثبتُ الإستصحابُ عنوانَ (العنب) فح نقول إذن صار المغلي هو (عصير العنب) !! إذن صار هذا المغلي حراماً ؟! فإن قلتَ نعم فاستصحاب العنبيّة ح سوف يكون أصلاً مثْبِتاً !! لأنه سوف يُثبِت شرط القضيّة الشرطيّة !!
وهنا علّق اُستاذنا السيد أحمد المددي حفظه الله في محضر الدرس على ادّعاء جريان استصحاب العنبـيّة فقال : إنّ إسم الزبيب هو غير إسم العنب، كالحُصْرُم تماماً ! ولذلك إذا حلف الإنسانُ أن لا يأكل العنبَ فله أن يأكل الزبيبَ، وذلك لأنّ الأحكام تتبع المسمّيات، وتغيّرُ الأسماءِ إشارةٌ إلى تغيّر الحالات، فكيف تستصحبُ ؟! على أنّ الإستصحاب أمْرٌ عقلائي، وهل العقلاء يستصحبون الموضوع أو الحكمَ في هكذا حالة ؟!
أقول : نحن لا نستصحب الإسمَ، إنما نستصحبُ بقاءَ ماهية العنب وحقيقتها، ولا دخل لنا بالإسم، فمع الشكّ في تغيّر الحقيقة والماهيّة علينا أن نتمسّك بـ (لا تنقضِ اليقين بالشكّ)، حتى مع عِلْمِنا بتغيّر الحالة، فليست كلُّ حالةٍ طارئةٍ هي علةٌ لتغيّر الحقيقة والماهية . على أنّ العقلاء يستصحبون بقاءَ الماهية والحقيقة ما أمكن، بل هذا هو دور الإستصحاب بالدقّة . فالمشكلة إذن ليست في إمكان استصحاب العنبيّة لو كان الأثر الشرعي يترتّب مباشرةً على العنبيّة، كما في استصحاب الكريّة، إنما المشكلة هي في أنّ استصحاب العنبـيّة هل يُثبت كونَ هذا العصيرِ هو (عصير العنب) كي نقول فيما بعد (غلى العصير العنبي) ؟! طبعاً لا . إذن ماذا يُثبِتُ هذا الإستصحابُ ؟ أي ما هو الأثر الشرعي المترتّب على هذا الإستصحاب ؟ أليس هو بقاء الجعل على نفس الموضوع الذي هو العصير العنبي المغلي ؟ مع أنه معلوم الثبوت، ولن يُثْبِتَ استصحابُ بقاءِ (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) لن يُثْبِتَ (إذا غلى الزبيب فإنه يحرم) لأنه غيرُ معلومٍ التعبّدُ به شرعاً، فضلاً عن أن نقول بأنه يُثبِتَ الحكمَ الفعلي وهو حرمة هذا العصير الزبيبي المغلي .
ورابعاً : ليس عندنا حالةٌ موضوعيّة سابقة لنستصحبها لنستفيد منها ما يريدون من إثبات الحرمة للعصير الزبيبي المغلي، فماذا نستصحب ؟!! وإذا أردت استصحاب بقاء الجعل فلا شكّ في بقائه، على أنك إن أردت إثبات حكمٍ في مرحلة الجعل فهذا تدخّل في عالم الجاعل جلّ وعلا، أي أنّ هذا ابتداع التشريع، وهو حرام عقلاً، وليس فقط شرعاً، وإذا أردت استصحاب الحكمِ المجعول الفعلي ـ أي الحرمة الفعليّة للزبيب المغلي ـ فالجواب هو أننا لا نعلم بأصل وجود جعل في تحريم الزبيب المغلي، فكيف نستصحب الحكم الفعلي الذي هو في مرحلة متأخّرة عن مرحلة الجعل ومعلول للجعل ؟!

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo