< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/02/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : بقيّة الكلام في الإستصحاب في الموضوعات المُرَكَّبَة

نُلَخّص بعضَ ما ذكرناه في الدروس السابقة فنقول :

إذا كان الموضوع مركباً من عناصرَ متعددةٍ فتارةً نفترض اَنّ هذه العناصر لوحظت بنحو التقيُّد أي لوحظت بنحو العنوان البسيط وجُعِل الموضوعُ ـ على بساطته ـ موضوعاً للحكم ـ كما في مثال الوضوء ، فإنه يُنظر إليه قُطْعَةً واحدة مؤدّية إلى الطهارة لا غير ـ ، وأخرى نَفترض اَنّ هذه العناصرَ بذواتها اُخِذَت موضوعاً للحكم الشرعي بدون اَنْ يكون الموضوع بسيطاً ـ كما في مثال الصلاة ـ فليس المراد من الصلاة هو لزوم التوصّل إلى عناوين (قربان كلّ تقيّ) و (معراج المؤمن) وإن كانت هذه المعاني هي الغاية السامية التي ينبغي أن يَصِلَ إليهما المصلّي ، لكن ـ مع ذلك ـ لو صَلّى الإنسانُ صلاةً مِن دون توجّه ، وإنما كان شارداً في أكثرها إلى تجارته مثلاً ، فإنّ صلاته ـ رغم ذلك ـ تكون صحيحة ، بخلاف الوضوء .

أمّا الحالة الأُولى ـ كالوضوء الذي يراد منه تحقيق الطهارة ـ فملحقةٌ بالموضوع البسيط الذي ذكرناه قبل قليل ، فهي لا يجري في أجزائها ولا في شرائطها الإستصحاب ، فلو شككنا في وجود الحاجب على مواضع الوضوء وَجَبَ علينا النظرُ للتأكّد من عدم وجوده ، ولا يصحّ أن نستصحبَ عدمَ وجودِه ، وذلك لأنه يعارضه (أصالةُ عدمِ حصول الطهارة) التي هي أمر بسيط ويعارضه أيضاً (أصالةُ عدمِ وصول الماء إلى البشرة) .

مثال ثانٍ : موضوع القتل ، فإنه لا يكفي استصحابُ بقاءِ زيد في مكانه لإثبات أنّ الرصاصة التي اُطلقت باتّجاهه قد أصابته وأنه يجب على مُطْلِقِ الرَّصاصة الديّةُ والكفّارة ، وأنه يُحكَمُ باعتداد زوجته وتُقَسّم تَرِكَتُه !! وإنما يجب التحقّق من حصول القتل ، وليس إطلاق الرصاصة ، وكونها باتّجاه زيد ، وبقاء زيد في مكانه ، إلاّ أجزاء لعلّة واحدة ، ينظر إليها بنحو التقيّد ، أي أنّ موضوع الحكم هو عنوان وجودي وهو (القتل) ، وأنت تعلم أنّ الإستصحاب لا يُثْبِتُ عنواناً وُجوديّاً .

مثالٌ ثالث : موضوع الموت ، لا شكّ في عدم كفاية استصحاب بقاء زيد تحت الحائط ـ الذي وَقَعَ باتّجاه زيد ـ لإثبات أنّ زيداً قد مات ، وأنّ على زوجته الإعتداد وأنّ تركته تقسّم !! وإنما يجب إثباتُ تحقّقِ (الموت) ليجب على زوجته الإعتدادُ ولتقسّم تركته ، وأنه ليس (بقاء زيد تحت الحائط) و (وقوع الحائط باتّجاهه) إلاّ جزءين يجب التحقّق من تقارنهما واجتماعهما ، ليتحقّق عنوانُ (الموت) ، لأنّ موضوع الحكم هو العلم بتحقّق عنوان (الموت) وليس نفس الأجزاء المذكورة ، وبتعبير آخر : الأثرُ يترتّب على عنوان (الموت) ، والإستصحابُ لا يُثْبِتُ أثَراً تكوينيّاً وجوديّاً ، وذلك كما في المثال الثاني السابق تماماً ، وإنما يجري استصحاب بقاء حياته ، بلا أيّ معارض ، فيجب أن تبقى زوجتُه على الزوجيّة ـ طبعاً بقاءً ظاهريّاً ـ ولا يجوز لأحَدٍ أن يتصرّف بماله من دون حقّ شرعي .

وأما في الحالة الثانية : فلا بأس بجريان الإستصحاب في الجزء أو الشرط ـ ثبوتاً أو عدماً ـ إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها ، ومثالُها : لو علمنا بوقوع ثوب متنجّس في خزّان الماء في الساعة الثانية مثلاً ، وكان الماء في الخزّان ـ قبل تلك الساعة ـ قليلاً ، ثم صار كرّاً ، ولا ندري في أيّ ساعةٍ صار كرّاً ، فلعلّه صار كرّاً قبلَ وقوعِ الثوب ، ولَعَلّه صار كرّاً بَعْدَه ، فعلينا أن نستصحب قلّة الماءِ وأن نستصحب عدمَ وقوعِ الثوب في الخزّان ، وبالتالي علينا أن نبنيَ على طهارة الماء ، وموضوع الحكم هنا ليس عبارةً عن تقيّد (عدم الكريّة) بـ (عدم وقوع الثوب) ، أي لعدم كون الموضوع بسيطاً ، أي ذا عنوان وجودي ـ كالقتل والموت في أمثلة الحالة الاُولى السالفة الذكر ـ .

ومع الشكّ في كون المركّبِ من النحو الأوّل أو من النحو الثاني فالأصلُ يقتضي أن يكون من النحو الثاني ، لأنّ الأصل عدمُ تـقيّدِ جزءِ المركّب بجزء آخر ، أي الأصلُ عدمُ مطلوبيّةِ التقارن في ترتّب الأثر الشرعي ، فإنّ عنوان التقارن أمرٌ زائد بلا شكّ ، فمع عدم الدليل عليه ، الأصلُ عدمُه .

المهمّ هو أنه لا شكّ في جريان الإستصحاب في أجزاء الموضوع المركب وشرائطه بشرط ترتب الحكم على ذوات الأجزاء أوّلاً وبشرط تَوَفُّرِ اليقينِ بالحدوث والشك في البقاء ثانياً .

ثم اعلمْ اَنّ الجزء الذي يراد اِجراءُ الإستصحاب فيه تارةً يكون معلومَ الثبوتِ سابقاً ويُشَكُّ في بقائه ـ كما فيما لو كان الماء كرّاً سابقاً ثم شككنا في بقائه على الكُريّة ـ فلنا أن نستصحب كرّيّتَه ثم نطهّر فيه الثوبَ المتنجّس ، وهذا أمرٌ لا شكّ ولا خلاف فيه ، وأخرى يكون كلا جزئَي الموضوع قد حصلا ، لكننا نشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر ، ومثالُه ما لو كنّا نعبّئ خزّانَ الماءِ بالدِّلاء ، لأنّ الماء فيه كان قليلاً ، وبَقِينا نجلبُ الماءَ بالدلو ونعبّئ الخزّانَ حتى صار كرّاً ، ثم علمنا أنّ شخصاً كان قد وضع ثوباً متنجّساً في الخزّان أثناء تعبئـتـِنا له ، ولم ندرِ هل أنه ألقَى الثوبَ في الخزّان قبل أن يصير الماءُ قدرَ كرّ فالماء الآن متنجّس ، أم أنه وضَعَه بعد أن صار كرّاً ، فالماءُ الآن طاهر ؟ ومِثْلُه أيضاً ما لو مات الأبُ وكان الإبنُ كافراً ثم أسلم الإبنُ ، لكننا لم نعلم هل أنّ الأبَ مات قبل إسلام ابنه أو بَعده ؟

في المثال السابق ، إذا كنّا نعلم أنّ الماء قد صار كرّاً من الساعة 12 إلى الساعة 2 ، لكننا لا ندري ساعةَ صيرورتِه كرّاً بالدقّة ، وكذا وقوعُ الثوب في خزّان الماء ، فإننا نعلم أنه وقع في الخزّان من الساعة 12 إلى الساعة 2 ، لكننا لا ندري بالدقّة الساعة والدقيقة التي وقع فيها ، لكن لا شكّ عندنا أنّ الماء كان قد صار كرّاً س 2 قطعاً ، وأيضاً لا شكّ عندنا أنّ الثوب قد كان في خزّان الماء س 2 قطعاً . وعليه فإذا أردنا استصحاب بقاء قلّة الماء إلى الساعة الثانية إلاّ دقيقة ، واستصحاب عدم وقوع الثوب في خزّان الماء إلى الساعة الثانية إلاّ دقيقة ، فمعنى ذلك وجوبُ البناء على طهارة الماء قطعاً ، بلا أيّ إشكال في البَين . وإذا أردنا النظر إلى الساعة الثانية ـ حيث كان الماء كرّاً قطعاً ، وكان الثوب في الماء قطعاً ـ فإننا أيضاً يجب أن نبني على طهارة الماء ، فالمسألةُ واضحة جدّاً ، ولا إشكال فيها ، فلماذا البحث إذن ؟! لا أدري !! وأين احتمال انفصال زمان اليقين بزمان الشكّ ؟! وأين التعارض بين الإستصحابين ؟

وأوضح منها ما لو كنّا نعلم بزمان أحدهما ونجهل بالآخر ، كما لو كنّا نعلم بزمان صيرورة الماء كرّاً ، ونجهل بزمان وقوع الثوب ، فلا إشكال أصلاً في صحّة استصحاب عدم وقوع الثوب إلى زمان عِلْمِنا بوقوعه ، ولا نستصحب معلوم الزمان ، والنتيجة أننا إنِ استصحبنا عدم وقوع الثوب ـ لكونه مجهول الزمان ـ حتى صار الماءُ كرّاً ، فمعنى ذلك أنه وقع بعدما صار الماء كرّاً ، فالماء إذن طاهرٌ تعبّداً .

ولذلك فليس عندي محلّ للبحث في هذه المسألة ، ولكنهم ـ رغم ذلك ـ بحثوا فيها ، ولا أدري هل أنّها لم تكن واضحةً عندهم أو لا ؟ اللهُ العالِمُ .

وفي المثال الثاني : لو فرضنا أنّ الأب مات ، وكان ابنُه كافراً لكنه أسلم ، لكننا لا نعلم بسبق موت الأب أو بسبق إسلام الإبن ، فإنّ الصحيح هنا هو عدم صحّة استصحاب حياته إلى الساعة الثانية إلاّ دقيقة ، ولا استصحاب كفْرِ ولدِه إلى الساعة الثانية إلاّ دقيقة أيضاً ، وذلك لعدم موضوعيّة حياة الأب للإرث ، أي لا أثر شرعيّ لهذين الإستصحابين ، وإنما يجب أن ننظر إلى الساعة الثانية حيث كان الأب ميّتاً ، وكان الإبنُ مسلماً ، هنا حصل موضوع الإرث ، فيجب أن يرث الولدُ أباه قطعاً ، ولو للزوم الرجوع إلى أصالة إرث الإبن من أبيه ، إذ الأصل أنهما يتوارثان ، إلاّ أن نعلم بكفر أحدِهما ، فما لم نعلم فإننا نرجع إلى أصالة التوارث بين الأقارب . وعليه فلو مات الأب وكان الإبن مسلماً ثم كفر ـ أي بعكس الحالة السابقة ـ ولم نعلم بالمتقدّم منهما والمتأخّر ، فإننا أيضاً لا نستصحب الحياة ولا الإسلام ، لأنه لا أثر شرعيّ لهذين الإستصحابين ، وإنما يجب أن ننظر أيضاً إلى وقت موته القطعي ، وهو ـ فرضاً ـ الساعة الثانية ، وقد كان الولد الساعة الثانية كافراً ، فلا يرث أباه قطعاً .

وكذا لو فرضنا أننا نعلم زمان موت الأب ، ولم نعلم زمان كفر الإبن ، أو زمان إسلامه ، فإنّ لنا أن نستصحب إسلامه أو كفره ، لأنه ليس موضوع الحكم بالتوارث ( إقترانَ موت الأب مع إسلام الإبن) كموضوع بسيط ، ولكن الموضوع مركّب ، ولذلك يجب استصحاب إسلام الإبن ـ لو كان مسلماً سابقاً ـ لنحكم بالتوارث ، كما ويجب أن نستصحب كفْرَ الإبنِ عند موت أبيه ـ لو كان الإبنُ كافراً سابقاً ـ لنحكم بعدم توارثه من أبيه .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo