< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/02/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الجهل بتقدّم جزء الموضوع أو تأخّره عن الجزء الآخر

إعلمْ اَنّ الجزء الذي يراد اِجراءُ الإستصحاب فيه تارةً يكون معلومَ الثبوتِ سابقاً ويُشَكُّ في بقائه ـ كما فيما لو كان الماء كرّاً سابقاً ثم شككنا في بقائه على الكرّيّة ـ فلنا أن نستصحب كرّيّتَه ثم نطهّر فيه الثوبَ المتنجّس ، وهذا أمرٌ لا شكّ ولا خلاف فيه ، وأخرى يكون كلا جزئَي الموضوع قد حصلا ، لكننا نشكّ في المتقدّم منهما والمتأخّر ، ومثالُه ما لو كنّا نعبّئ خزّانَ الماءِ بالدِّلاء ، لأنّ الماء فيه كان قليلاً ، وبَقِينا نجلبُ الماءَ بالدلو ونعبّئ الخزّانَ حتى صار كرّاً ، ثم علمنا أنّ شخصاً كان قد وضع ثوباً متنجّساً في الخزّان أثناء تعبئـتـِنا له ، ولم ندرِ هل أنه ألقَى الثوبَ في الخزّان قبل أن يصير الماءُ قدرَ كرّ فالماء الآن متنجّس ، أم أنه وضَعَه بعد أن صار كرّاً ، فالماءُ الآن طاهر ؟ ومِثْلُه أيضاً ما لو مات الأبُ وكان الإبنُ كافراً ثم أسلم الإبنُ ، لكننا لم نعلم هل أنّ الأبَ مات قبل إسلام ابنه أو بَعده ؟

وقبل الجواب عن هذا السؤال يجب أن نُذَكّرَ بملاحظـتين :

الاُولى : مِن المعلومِ عندك أنّ الأصل ـ فيما لو جهلنا في زمان حدوث حادثٍ ما ـ هو تأخّر حدوث الحادث إلى آخر زمانٍ يُحتمَلُ فيه عدمُ حدوثِه ، وهو ما يسمّونه بأصالة عدم الحدوث ، وبالنتيجة تأخّر الحدوث ، وهذا أمْرٌ بديهي ، وذلك لوجود أركان الإستصحاب فيه ـ من اليقين السابق والشكّ اللاحق ـ كما لو كان الثوبُ متنجّساً سابقاً ، ثم علمنا بحصول الطهارة ، لكننا شككنا في زمان حصول الطهارة ، فإننا نستصحب بقاءَه على النجاسة إلى زمان العلمِ بحصول الطهارة ، أي إلى آخر أزمنة احتمال بقائه على النجاسة ، وكذا تماماً فيما لو عَلِمْنا بطهارة ثوب سابقاً ، ثم علمنا بارتفاع طهارته ، لكننا شككنا في زمان ارتفاع طهارته ، فمن البديهي أننا نستصحب عدم ارتفاع طهارته إلى آخر أزمنة احتمال بقاء الطهارة ، وذلك لوجود علم سابق بطهارته ، وشكّ لاحقٍ بنجاسته .

والثانية : إنك تعلم أننا إنِ استصحبنا ـ مثلاً ـ عدمَ حدوث الحادث يوم الخميس ، فليس لنا أن نُثْبِتَ بذلك حدوثَه يوم الجمعة ، لأنّ (حدوثَه يومَ الجمعة) ـ كعنوان وجودي ـ لازمٌ تكويني ، والإستصحابُ ـ كما قلنا مراراً ـ لا يُثبت الآثارَ العقليّة ولا العاديّة ولا التكوينيّة ، ولا يُثبتُ عناوينَ وجوديّة ، وذلك لما قلناه سابقاً من أنّ أدلّة الإستصحاب تتعبّدنا بالبناء على بقاء الآثار الشرعيّة ، دون غيرها ، فليس للمولى جلّ وعلا أن يتعبّدنا بالبناء على حصول اُمور تكوينيّة ليست بآثارٍ شرعيّة ، كأنْ يتعبّدَنا بالإستصحاب لنُثْبِتَ بأنّ زيداً ـ مثلاً ـ الذي كان نائماً تحت الحائط الذي وقع ، أنه (قد وَقَعَ عليه الحائطُ) ، فنرتّبَ على ذلك وجوبَ اعتدادِ زوجته وتقسيمَ تركته ، وكما فيمن أطلق النارَ على زيد الذي كان واقفاً ، فنستصحبَ عدمَ تحرُّكِ زيدٍ مِن مكانه لنُثْبِتَ بذلك وصولَ الرصاصةِ إليه ، وبالتالي لِنُرَتّب على ذلك قَتْلَه بتلك الرصاصة ، ولنرتّب على ذلك ح وجوبَ اعتدادِ زوجته وتقسيمِ تركته .

إذن لا شكّ في صحّة جريان استصحاب عدم موت زيد الذي كان نائماً تحت الحائط الذي وقع ، ولا يصحّ استصحابُ بقائه إلى حين وقوع الحائط لنرتّب على ذلك عنواناً وجوديّاً تكوينيّاً وهو عنوان اقتران (وقوع الحائط) مع (عدم قيام زيد من تحت الحائط الذي وقع) ، لأنّ هذا الإقتران بين جزئي الموضوع هو أمرٌ تكويني ، أي أثر تكويني لا يُثْبِتُه الإستصحابُ ، ولذلك لو أردت ترتيب هذا العنوان التكويني فسوف يترتّب عليه وجوبُ اعتدادِ زوجته وجوازُ تقسيمِ تركته ، وهذا ما لم يَقُلْ به أحدٌ في العالمين ، ولذلك قالوا بعدم جريان الإستصحاب الذي يترتّب عليه أثرٌ تكويني ، وأسمَوه بالأصل المثبت ، أي الذي يُثْبِتُ لوازمَه التكوينية أو العقليّة أو العاديّة .

بعد هتَين الملاحظتين نـقول :

لا شكّ في وضوح عدم صحّة جريان استصحاب عدم الكريّة في وقت وقوع الثوب في الخزّان ، وذلك لأنه معارَض مع استصحاب عدم وقوع الثوب في الخزّان حينما كان الماءُ قليلاً ، فهما إذن يتكاذبان ، وحاشا لله الحكيم جلّ وعلا أن يتعبّدنا باستصحابين متناقضين ، بل إنّ الإستصحاب في هكذا حالة هو أخسّ من الأصل المثبت ، ولذلك لا يفهم أحدٌ من أدلّة الإستصحاب أنّ الإستصحاب شامل لحالة التعارض المذكورة ، فإنّ هذا المانع العقلي ـ وهو التكاذب والتعارض ـ يمنع المقتضي من أن يَعمل عملَه ، وبتعبير آخر : لا يمكن للباري تعالى أن يقول لنا "إستصحبوا حتى في حالة التعارض والتكاذب بين الإستصحابين" ، فالمانعُ إذن ثبوتي ، وقد أثّر هذا المانعُ الثبوتي على دلالة روايات أدلّة الإستصحاب بحيث لم يَعُدْ يَفهم منها المسلمُ أنها شاملة لحالات التعارض ، ولذلك حَصَلَ مانعٌ إثباتي أيضاً ، ولذا يحكم العلماء هنا بلزوم الرجوع إلى أصالة طهارة خزّان الماء .

مثالٌ آخر : لو فرضنا أنّ الأب مات ، وكان ابنه كافراً لكنه أسلم ، لكننا لا نعلم بسبق موت الأب أو بسبق إسلام الإبن ، فإنّ الصحيح هنا هو أيضاً عدم جريان أيّ استصحاب ، سواءً في حياة الأب أو في كفر الإبن ، لأنهما متعارضان متكاذبان ، فالمرجع هنا هو أصالة إرث الإبن من أبيه ، إذ الأصل أنهما يتوارثان ، إلاّ أن نعلم بكفر أحدِهما ، فما لم نعلم فإننا نرجع إلى أصالة التوارث بين الأقارب . وعليه فلو مات الأب وكان الإبن مسلماً ثم كفر ـ أي بعكس الحالة السابقة ـ ولم نعلم بالمتقدّم منهما والمتأخّر ، فإننا أيضاً لا نستصحب الحياة ولا الإسلام ، لأنهما متعارضان متكاذبان ، وإنما نرجع إلى أصالة التوارث بينهما أيضاً ، إذن لا فرق بين ما إذا كان الإبنُ مسلماً ثم كفر ، أو كان كافراً ثم أسلم ، فإنه يرث أباه على أيّ حال ، لأنّ الإستصحاب لا يجري في كلتا الحالتين ، فيُرجَعُ ـ في كلتا الحالتين ـ إلى أصالة التوارث بين الأقارب ، ذلك لأنّ الكفر إنْ ثَبَتَ ـ ولو بدليل تعبّدي ـ فهو المانع ، وما لم يثبت عند موت الأب فلا يكون مانعاً ، فيُرجَعُ إلى قاعدة التوارث بين الأقارب . نعم ، لو فرضنا أننا نعلم زمان موت الأب ، ولم نعلم زمان كفر الإبن ، أو زمان إسلامه ، فإنّ لنا أن نستصحب إسلامه أو كفره ، لأنه ليس موضوع الحكم بالتوارث ( إقترانَ موت الأب مع إسلام الإبن) كموضوع بسيط ، ولكن الموضوع مركّب ، ولذلك يصحّ استصحاب كفر الإبن ـ لو كان كافراً سابقاً ـ لنحكم بعدم توارثه من أبيه .

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo