< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تتميم الكلام في مسلك جعل الحكم المماثل

( تـنـبـيـهات)

1 ـ الإستصحاب على ضوء مسلك جعْلِ الحكمِ المماثل

المراد بمسلك جعْلِ الحكمِ المماثل هو جعْلُ المولى تعالى حُكْماً ظاهرياً ـ وضْعيّاً أو تكليفياً ـ على طبق مؤدّى الأمارة أو الأصل ، كما يَحكم القاضي بكون المال الفلاني لِفلانٍ بناءً على البيّنة أو الأيمان . وقد يستدلّ على مسلك جعْلِ الحكمِ المماثل بأنّ مفاد دليل الإستصحاب هو جعْلُ حكم مماثل للمستصحَب ـ طبْعاً جَعْلاً ظاهريّاً ـ .

ولنمثّلْ لذلك بالمثال التالي : بما أنّ زيداً الفقيهَ حَيّ فإنه يجوز تقليدُه ، كذلك إذا شككنا في بقاء حياته واستصحبنا بقاء حياته ، فمعنى ذلك ـ على مسلك جعل الحكم المماثل ـ هو أنّ المولى عزّ وجلّ يشرّعُ حكماً ظاهريّاً يُجَوّز لنا به تقليدَه ، أي أنّ اللهَ تعالى جعَلَ حكماً ظاهريّاً مماثلاً للحكم الواقعي وعلى طبقه ، وهو (جواز تقليده) في المثالَين الواقعي والظاهري[1] ، وهو ليس تنزيلاً ، نعم هو يشبه التنزيل ، فهو يشبه تنزيل الطواف منزلة الصلاة بلحاظ الآثار ، لكنْ في تنزيل الطواف يكون جعْلُ الحكمِ واقعيّاً ، وأمّا في تنزيل جواز تقليده ـ ظاهراً ـ منزلة جواز تقليده واقعاً يكون التنزيل ظاهرياً .

وفي مثال الماء نقول نفسَ الشيء تماماً فنقول : هذا الماءُ طاهر ، فإن شككنا في عروض نجاسة عليه فإننا نستصحب طهارته ، وبالتالي يحكم المولى تعالى بكون هذا الماء طاهراً ، ظاهراً .

وكذا في سائر الأحكام الظاهريّة ، كما في قاعدة الحِلّ وحجيّة الأمارات ، فلو قال لك الثقة : "هذا الغرض الفلاني لفلان" فمعناه ـ على مسلك جعل الحكم المماثل ـ أنّ المولى تعالى يجعل حكماً ظاهريّاً[2] ـ بصيرورة هذا المال لفلان ظاهراً ، وبالتالي بوجوب إعطائه له ـ مماثلاً للحكم الواقعي القائل بوجوب إعطاء المال لصاحبه ، فصار يوجد حكمان واقعي وظاهري شرّعهما المولى تعالى على مورد واحد ، وقد يتخالفان ـ إن لم يكن هذا المالُ واقعاً لفلان ـ !!

* ومِنَ الخطأ الواضح أن يُتصوّر أنّ المراد بـ جعْلِ الحُكْمِ المماثل هو الإستتباع التلقائي ، أي من دون إرادة المولى عزّ وجلّ .

* وإنما سَمَّوه (مماثِلاً) لأحدِ وجهَين :

الأوّل : لأنّ الحكم الظاهري هو نفس الحكم الواقعي تماماً ، تقول (هذا الماء طاهر) واقعاً ، وإذا استَصْحَبْتَ طهارتَه ، أيضاً تقول (هذا الماء طاهر) شرعاً وعند الله تعالى ، إذن الحكم الظاهري يماثل الحكم الواقعي تماماً .

والثاني : إنّ المولى تعالى يجعل حكماً مماثِلاً لمؤدّى الأمارة أو الأصل ، وهو المشهور في كلام العلماء .

فالسؤال هو هل أنّ الحكم التالي (هذا الماءُ الخارجيّ طاهرٌ ظاهراً) يعني أنّ الباري سبحانه وتعالى قد جعل هنا حكماً ظاهريّاً آخر ـ غير قاعدة الإستصحاب ـ إعتَبَر بهذا الحكم الثاني أنّ هذا الماء طاهر ، كما يَحكمُ القاضي بكون المال الفلاني لفلان بناءً على البيّنة أو الأيمان ـ وهذا كما قلنا هو ما يطلق عليه (مسلك جعل الحكم المماثل)[3] ـ أم لا ؟ وبتعبير آخر : هل أنّ قيام الأمارة أو الأصل يخلق مصلحةً عند المولى تعالى تـقتضي جعْلَ حُكْمٍ مماثِلٍ لمؤدّى الأمارة أو الأصل أم أنهما لا يخلقان شيئاً ، أم ماذا ؟

الجواب : لا شكّ في وجود مصلحة من اتّباع الأمارة أو الأصل ، ولذلك شرّعهما اللهُ تعالى ، ولكن هذا لا يعني أنّ المولى تعالى يشرّع لنا حكماً ظاهرياً ثانياً بسبب قيام أمارة أو أصل ، لا ، وإنما يكتفي بإصدار حكم عامّ مفاده وجوب اتّباع الأمارات والأصول العمليّة . هذا التشريع الظاهري لا يعني وجود جعْلٍ آخر ، لأنه ـ على مبنى جعل الحكم المماثل ـ سوف يكون التشريع الظاهري الثاني ـ إضافةً إلى تشريع الإستصحاب ـ لغواً محضاً ، فإنه يكفي التعبّد بالإستصحاب ، ونحن نطبّق الإستصحاب على الموارد . إذن يوجد محظور عقلي من تشريع جعل مماثل للمستصحَب ، وهو اللغويّة .

وهناك محظورٌ آخر من تشريع جعْلٍ مماثِلٍ للمستصحَب ، وهو محظورٌ إثباتي ، وهو أنه لا مُوجِبَ لاستفادة جعْلِ الحكمِ المماثل من دليل الإستصحاب ، أصلاً وأبداً ، بل مُفادُ الإستصحاب هو لزوم البناء على عدم طروء طارئ غيّر موضوعَ الحكم ، فقط لا غير .

فإن قلتَ : أنت لو قُدِّر لك أن تسأل الباري تعالى عن حُكْمِ هذا الماء الذي استصحبتَ طهارتَه لقال لك هو طاهر ظاهراً ، أليس هذا حكماً جديداً ؟

قلتُ : لا ، أصلاً ، هذا ليس حكماً جديداً ، فإنّ قول الباري تعالى (هذا طاهر ظاهراً) لا يعني أنه جلّ وعلا جَعَلَ الطهارةَ مرّة ثانية ـ أي إضافةً إلى تشريع قاعدة الإستصحاب ـ وإنما هو تطبيق ـ لا أكثر ـ لنفس قاعدة الإستصحاب ، ولذلك لا يصحّ القولُ بـجعْلِ الحكمِ المماثل .

وكذا لو قال الثقة : "هذا المال الفلاني لفلان" فإنّ إعطاء الحجيّةِ لخبر الثقة أو لسوق المسلمين أو لليد ، معناها أنه جلّ وعلا اعتبر خبرَ الثقة حجّةً ، وسوقَ المسلمين حجّةً ، واليدَ حجّةً ، والإستصحابَ حجّةً ... وليس في البَين تشريعٌ إضافي مطابق لمؤدّى الأمارة أو الأصل العملي ، وإن كان إعطاءُ الحجيّة لخبر الثقة ـ بحسب الروايات المستفيضة ـ معناه تنزيلُ مؤدّى خبر الثقة منزلةَ الواقع ـ كما مَرّ مراراً ـ كما في المجاز العقلي السكّاكي ، وأيضاً يَعتبر الظنَّ الحاصِلَ من الأمارة علماً ، فأنت عالِمٌ شرعاً ، ولَسْتَ تُشْبِهُ العالِمَ.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo